اللغة كهوية

615

عبد الرحمن سعيد أبوشحاد كاتب

أريد التحدث عن اللغة العربية ، ليس كما يتحدث عنها في أغلب الأوقات من يريد مدحها أو بيان أهميتها، بالنسبة لي كل لغات العالم مهمة وضرورية، في الغالب سيقول أحدهم أنها لغة مهمة لأنها لغة القران الكريم والإسلام آخر الأديان، ولأن للغة العربية معجم مصطلحات يفوق أي معجم لأي لغة في العالم ولأن اللغة العربية قائمة بذاتها في غضون اللغات الأخرى مشتقة.

مما لا شك فيه كثير من الاكتشافات في مجال العلوم في بدايته كان باللغة العربية، لذلك كانت شعوب العالم تتعلم العربية لنقل العلم ولكن في رأي أهمية اللغة العربية لا تكمن في كل هذه المزايا، لأننا مهما حاولنا هناك لكل لغة رئيسية في العالم جمالية معينة.

العمل الأدبي امتداد للهوية العربية وإن كان الامتداد غير سليم فسوف يضيع الماضي والمستقبل

لأهمية الكبرى للغة العربية هي الهوية، لم يصبح غريب من الطلاب الجامعيين أو حتى ما دون الجامعة ويصل الأمر إلى الموظفين عدم اتقان لغتهم العربية. في مستشفى يعمل به شقيقي طلب مني مراجعة خطاب كتبه رئيس المستشفى وهو الضخم في المنطقة ذهلت من جحم الأخطاء في تكوين الجمل البسيطة، ناهيك عن الأخطاء الإملائية والكلمات العامية التي لم تصل حتى للأعجمية والمشاكل في القواعد.

لم يكن مطلوب من هذا المدير الذي تلقى تعليمه في دولة عربية -أي أنه لم يكن يتعلم ببلد لغتها مختلفة- إلا تكوين جملة سليمة يستطيع المرء قراءتها وفهمها، وهذا لا يستغرب ففي متطلبات الوظيفة تكون اللغة الإنجليزية مهمة ولا تطلب العربية، وحتى طلاب الجامعات يدركون بأن المادة العربية كمادة حرة هي أصعب من الإنجليزية بل مستوى الرسوب للمادة هو الأكبر.

وكذلك وسائل التواصل والرسائل التي أخذت تشكل الأسلوب الاجتماعي لتوصيل المعلومة والتعبير عن النفس أخذت تحول اللغة العربية، وتعيد تعريفها مما ساعد في تكبير فوهة الخطأ لدى الجيل الجديد الذي لم يعد يهتم باللغة العربية إلا على مستوى العلامات التي سوف يتحصل عليها وهو يعرف أهمية اللغة الإنجليزية في الحياة العملية وهذا ليس مبرر ً لهدم الفرد لغته الأم.

وكم أكره الإعلانات  في الشوارع حيث لا تسلم أسماء المتاجر من تدهور اللغة العربية حتى باتت بعض الأخطاء الإملائية صائبة من كثر الاستخدام ولا يعترض عليها غير معلم النحو والصرف، والمستغرب أن لا يستطيع العربي الذي يُولد ويعيش داخل دولة عربية التعبير عن نفسه بعربية بسيطة أو كتابة خطاب متناسق الأفكار وهذا لا يتطلب معرفة الفرد بقواعد النحو والصرف بل معرفته للغته بشكل صحيح.

وفي الأدب العربي في الأونة الأخيرة مثال للتدهور في اللغة، فإذا كان الناتج الأدبي باللغة العربية لا يحمل اللغة العربية السليمة، فكيف نستطيع وصفه بعمل أدبي منتمي للغة العربية ويحمل الإرث العربي؟

وهذا لا يعني أنني لا أرغب بدخول كلمات عامية للعمل الأدبي ولكن من السيء أن يكون العمل بالعامية لماذا؟ لأن العمل الأدبي، بصفته لغة معينة يجب أن يحمل اللغة الأصيلة لأنه في النهاية ناتج أدبي يحسب على اللغة، وعدم مقدرة الكاتب على التعبير بنفسه باللغة العربية السليمة واستخدامه للعامية لهو أكبر دليل على المشكلة الكبيرة التي نحن فيها.

والعمل الأدبي امتداد للهوية العربية وإن كان الامتداد غير سليم فسوف يضيع الماضي والمستقبل المبني على الهاوية التي صنعناها. يعرف المترجمون بأنهم مهما حاولوا نقل العمل من لغته الأم إلى لغة أخرى لن يستطيعوا الحفاظ على النص فسوف يذهب نصف جمال النص والفكرة في النقل، وهذا ما يجعل اللغة هوية، فمهما لبست من ملابس لتكون بصورة أخرى لن تستطيع تغير صورتها.

فالفرد يعبر عن مشاعره وأفكاره التي بداخله بلغته الأم التي يتحدث بها منذ طفولته ويستطيع الوصول إلى أعماق شعوره الداخلي، فهي اللغة التي لأول مرة تعلم التعبير عنه نفسه بها وتعلم كيف يستخدمها جيد ً وهو صغير وتعلم كيف ينجح بالتعبير عن نفسه بعدما أخفق كثير ونقلها للغة أخرى يهدم هذا التواصل بين الشعور والتعبير.

كما كنت أقول اللغة هي هوية شعب، بتحول اللغة أو اختفاء أصلها في المفردات الجديدة التي تدخل عليها من لغات أخرى أو عدم مقدرة جزء كبير من المتحدثين استخدامها استخدام سليم، يجعل من اللغة تختفي ومعها الهوية، بالتأكيد لن يختفي العلماء المختصين باللغة ولكن اللغة تعتمد بشكل أكبر على المتحدثين العاديين.

واللغة العربية ليست مثل كل اللغات يمكن أن تتطور وتتغير كما الإنجليزية وتختلف لأنها كما قلت في أول المقال ليست مشتقة من لغة أخرى فأي تغير لها أو تحول يمسس الأصل وليس المشتق منه المستعمرين كان هدفهم الأول حذف هوية البلد، وأول ما فعلوه هو استبدال اللغة بلغة البلد المستعمر لأن المستعمر يدرك ما إن تحطم هوية الفرد يصبح ملك للهوية الجديدة أي للمستعمر وبعدها لا يصبح المستعمر غريب بل صديق أنتمي إليه.

لا يمكن تقبل التطور في وسائل التعبير عن النفس والكتابة بين الأفراد في المجتمع الذي يكون على حساب لغته العربية فإخفاق المرء في لغته يعني إخفاقه بالتواصل مع الغير والتعبير عن نفسه  بالصورة التي يريد رؤيتها وبالصورة التي يرى بها العالم.

مهما تعلم العربي لغة ثانية وأصبح متمكنا منها فإن عقله يتكلم العربية وليس اللغة الجديدة ولن يشعر بالراحة الكافية كما في العربية، الفرنسيون مثلا متعصبون للغتهم حتى أن هناك كلمات مشتركة بيننا وبين الفرنسية يرفض الفرنسيين النطق بها بل يستبدلونها بكلمات فرنسية قديمة وأًصيلة في اللغة، ويرفض بعض الفرنسيين إن كانوا في بلدهم التحدث مع الغريب بغير الفرنسية.

مهما تعلم العربي لغة ثانية وأصبح متمكنا منها فإن عقله يتكلم العربية وليس اللغة الجديدة ولن يشعر بالراحة الكافية كما في العربية

التعصب الفرنسي للغتهم جعلهم يحافظون على اللغة ويورثوها للأجيال سليمة فمثلا إن كنت في بلد عربي والجميع من حولي عربي و في المؤسسة هل يجب ان استخدم لغة أخرى في المعاملات؟ في البلدان التي لا تتكلم الإنجليزية لا تجد هذا الفعل فتراجع التقدم العربي في الحضارة ساعد في تهميش اللغة العربية لدى المتكلمين بها.

وإذا ما أردنا تقوية الهوية العربية التي من المرعب تخيل اندثارها بهويات أخرى علينا تقويم الهوية العربية بكونها فطرة تمثل العربي، ومنها نحن نستمد التميز هناك مليارات المتحدثين بالإنجليزية ولا يجعلنا هذا مميزين في شيء.

لا أطالب بلغة عربية فصحى كاملة في النحو والصرف ولغة بليغة بل بمستوى عادل من احترام اللغة أنا لا أتقن لغة ( الكلمات الإنجليزية المقصود بها كلمات عربية )لأنني لا أستوعب أن تكون لغتي العربية مستعمرة وعلىّ اشتقاق حروف لاتينية للتعبير والتحدث، ودائما ما أرفض الرد على هكذا محادثات.

واللغة تورث فإن كانت سليمة فسوف تورث سلمية ، لا أخشى قول إنني أحب اللغة الإنجليزية وحاليا أتلقى دروس في الفرنسية، لكن وهذا لا يأتي على حساب لغتي العربية، محاولتي لإتقان اللغات الأخرى هو إيماني بأن اللغة هوية لن استطيع فهم أو الإحساس بعمل أدبي إنجليزي مكتوب بالعربية.

وقارن بنفسك عملا أدبيا وسوف تجد الفارق الكبير بين المنقول منه الهدف الوحيد من إتقان اللغات هو استطاعة التواصل مع الشعوب الأخرى لا تهميش هوية الفرد.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات