المجاهد الراحل أبو بكر القادري.. أكاديمية المملكة تتذكّر علَم الوطنية والتربية

246

احتفاء بمسار علم مغربي في العمل الوطني والتربوي والسياسة والكتابة، استقبلته أكاديمية المملكة المغربية، السبت الماضي، التي كرمت عضوها الراحل “المجاهد أبو بكر القادري”، مسلطة الضوء على “منظومة قيمه الوطنية والفكرية”.

عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، قال إن في استحضار مسار أبي بكر القادري احتفاء “بالنبوغ المغربي، وأدواره في إغناء تراثنا وتاريخنا وثقافتنا”، وتذكّرا لـ”رمز مشع من رموز ثقافتنا”، تعد جهوده في الثقافة “قدوة منيرة للأجيال الحالية والصاعدة، وضمَّنها مؤلفاتِه التي تربو على الخمسين، وهي اليوم مرجع لكل الباحثين والدارسين في شؤون التربية والثقافة والسياسة.”

القادري الذي كان من مؤسسي كتلة العمل الوطني وحزب الاستقلال، ومن الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، ومن الداعين إلى المقاومة والوحدة الوطنية، رأى لحجمري أنه كان يتحرك “بثلاث عقليات في رجل: المناضل الوطني، والمفكر الإصلاحي، وصاحب المشروع التربوي والمجتمعي”؛ حيث “سكن الوطن فكره، وشغلَت باله معاني وقيم الانتماء الوجداني والعملي، فعانى آلام السجن والمتابعة، مؤمنا مع مجايليه بأن الجهاد يحرر الوطن وأبناءه من التبعية والخرافات والتفرقة”.

وتابع: “لقد ظل متناغما مع منظومة إعمال العقل، وفهم الدين الإسلامي من خلال مصدريه الصافيين القرآن والسنة، بمعزل عن الخلافات والخرافات، لتحرير المعتقد من سوء الفهم المنحرف (…) وفي كتبه مصادر ومزايا التشريع الإسلامي والمذهبية الإسلامية، ودراسة المبادئ الإنسانية للإسلام الداعية إلى التمسك بقيم الحرية والعدالة والوحدة والكرامة”.

كما سعى أبوبكر القادري، وفق أمين سر أكاديمية المملكة، إلى “بناء وعي إسلامي مرتبط بدينه وحضارة عصره، ومراجعة التحديات المضللة والمعيقة لتقدم الوطن، وتقديم فهم جديد قوامه إعمال العقل ونبذ قيود التقليد وآفات الاستلاب”، وهو ما ساهم في “إغناء الفكر التربوي في المغرب”.

القادري اتخذ أيضا “بما آمن به من قيم سبيلا لبناء تعليم تنويري، كان المغرب آنذاك في حاجة ماسة إليه لترسيخ قيمة الانتساب إلى الوطن أمام سياسة التغريب التي فرضتها سياسة الحماية، فنشر مبادئ تعليم وطني يعلي من شأن اللغة العربية، ويعلي من شأن الإسلام والوطنية الصادقة”.

ووضع لحجمري أبا بكر القادري في صف “من أضاؤوا سبل التطور لوطننا والإنسانية جمعاء”، بـ”فهم للنهضة الوطنية، التقى فيه مع رواد الحركة السلفية المغربية كأبي شعيب الدكالي، ومحمد العربي العلوي، وعلال الفاسي، وعبد الله كنون، والمكي الناصري”، واهبا “حياته كلها، لنصرة قيم التحرر، وتملك المواطنة والعقيدة الصادقتين، بعيدا عن كل استلاب فكري؛ فعُد بحق واحدا من رواد المقاومة المغربية والحركات العربية الإصلاحية”.

خالد القادري، رئيس مؤسسة أبي بكر القادري، قال إن الفقيد “رجل وهب حياته لخدمة وطنه، عبر جهاده الوطني، ونشاطه الدؤوب في الميادين العقائدية والفكرية والمجتمعية والتربوية”.

وأضاف: “مباشرة بعد خروجه من السجن في أكتوبر 1954، قرر أن عمله الوطني لا يجب أن يثنيه عن رسالته التربوية، فوجه جهده لاستكمال بناء ثانوية النهضة، وشيد بيته بين ظهرانيها ليتمكن من متابعة مسارها عن كثب، غير ناشد منصبا أو مصلحة، وكنا ونحن أطفال نلاحظ أن بعض أصدقائه يرفلون في درجة من الرفاهية نغبطهم عليها، من أحياء راقية وسيارات فارهة، ونحن في حي شعبي، وكان ينبهنا دوما إلى أنه يريد العيش وسَطا، مع إمكانياته، وألا نكون متلهفين أو متطلعين إلى الترف أو حاسدين غيرنا ممن توفرت لهم السبل”.

كما تذكر خالد القادري كون أبيه “متشددا في المبادئ، وحريصا على تكويننا بالمطالعة والنقاش وصقل الفكر، واحترام الرأي الآخر”، بـ”سلوك صادق وحازم، وترفع عن السجالات العقيمة” و”صدق في التعامل، والوفاء بالالتزامات، وابتعاد عن النميمة والقذف في الغير” مع “صرامة لمّا يتعلق الأمر بالعقيدة الإسلامية أو المس بالوطن”.

وزاد: “كان يحرص على أن يتلقى أبناؤه مختلف أنواع المعرفة الدينية والدنيوية، والمعارف والمعلومات، وكان يسعى دائما إلى غرس مبادئ مثلى فينا كالتمسك بالعقيدة الصحيحة، مثل مؤلَّفه الموجه لأحفاده [تعلموا دينكم]. وكان يحرص مع أبنائه على تملك اللغة العربية والحفاظ عليها، مع تعلم اللغات الأجنبية، وكان يرسل لي وأنا طالب بباريس يوميا جريدة [العلَم] حتى لا تنقطع صلتي بلغتنا وأبقى متصلا مع ما يجري ببلادي”.

تربية أبي بكر القادري لأبنائه امتدت إلى ذوقهم ولم تقتصر على مظهرهم فحسب، “بترتيل القرآن الكريم، والتغني بالموسيقى الأندلسية والشرقية وغيرها، مقيما لهذا الغرض سهرات عائلية، في جو من المرح والحنان والدعابة”، وهو ما تذكره خالد القادري بصوت أشج، قبل أن يختم بأن الراحل قد “بقي قلبه نابضا بالحياة إلى آخر رمق”، و”نبهنا إلى تحمل المسؤولية”.

محمد الكتاني، أمين السر المساعد لأكاديمية المملكة، ذكر بدوره أن المحتفى به قد “أسهم في الحقل الثقافي العلمي على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ هذه الأكاديمية إلى سنة 2012، فضلا الحضور الوازن في مختلف الميادين السياسية، وحضوره الفكري داخل الأكاديمية وخارجها كان متعدد الجوانب والأبعاد، وكان المعلم المربي، مدير المدرسة الرائدة بسلا [النهضة]، والمناضل السياسي ضمن قيادات حزب الاستقلال، والمصلح الاجتماعي والمفكر الإسلامي في مقالاته وأبحاثه وبعض كتبه، والمؤرخ الوطني من خلال كتابه [مذكراتي في الحركة الوطنية]، والصحافي الملتزم الذي أدار مجلتي [الإيمان] و[الرسالة]”.

وواصل: “لقد أرخ للحركة الوطنية التي كان له فيها العطاء المتميز والشاهد القوي الذي جمع بين الأمانة والاستقامة”، وطبع حياة فكرية “غنية بالجهاد المنطلق بوعيه بالمسؤولية التي تلقيها عليه المرحلة التاريخية الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى نهايات القرن العشرين”، فكان “رجل مبادئ وقيم إسلامية ووطنية صادقة”.

إسماعيل العلوي، القيادي التاريخي في حزب التقدم والاشتراكية والحزب الشيوعي المغربي سابقا، تحدث من جهته عن أبي بكر القادري بوصفه “من أيقونات الحركة الوطنية ليس بسلا فقط، بل على المستوى الوطني برمته، ساهم في إنشاء [الحزب الوطني] في 1937، وبدأ التردد على سجون المستعمر، كمناضل من أجل الحرية والاستقلال، محكوم عليه بتهمة التمرد، وهو ما استمر ربع قرن على التمام والكمال”.

لكن “لم يكتف بالعمل النضالي السياسي المحض للتخلص من الاستعمار”، بل ركز القادري على “اقتران العمل السياسي الحزبي بالنضال من أجل التعليم وتعميم المعرفة بين ناشئة الوطن، وكافة أفراد الشعب، ذكورا وإناثا، أطفالا وكهولا، في [مدرسة النهضة] (…) والعمل التثقيفي لعموم أفراد الشعب، للتشبع بالقيم الوطنية، واكتساب المهارات والكفايات الكفيلة بتحرير الوطن والفرد المغربي من الجنسين، الذكر والأنثى، من براثن الجهل والتخلف”، حتى يلتحق “الوطن والشعب بركب التقدم”.

وتذكّر العلوي قيادة الفقيد الجمعيةَ المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، ومواقفه التي كانت “صريحة وشجاعة، فساهم فيها ويساهم بعد مماته، في تعبئة العزائم والهمم من أجل نصرة الشعب الفلسطيني، الخاضع لمحاولات مستمرة ترمي إلى تجريده من أرضه وتاريخه وثقافته وتقاليده وعاداته حتى. واعتمد في هذا النضال على قوة عزيمته وسمو عقيدته ويقينه الثابت، وكان يتوجه إلى أصحاب القرار داخل وطنه المغرب، ووطنِه الحلم في انتظار ترجمته على الواقع، مغاربيا وعربيا وعالميا، مع التوجه إلى الفلسطينيين أنفسهم محرّما على نفسه التدخل المباشر في المؤتمَنين على تدبير الشأن الفلسطيني واختياراتهم، مع تأكيده على ضرورة توحيد الكلمة والتبصر والصبر المستميت”.

عن موقع هيسبريس

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات