النهضة اللغوية ومخاطر سياسات التلهيج الفرنكفونية – حالة المغرب نموذجا – [2]

677

مدخل منهجي-2-

في طبيعة الصراع اللغوي المعاصر

إن مسألة انقراض اللغات لا يعني ذهاب جهاز اتصالي، وإنما يعني انقراض أمة وضياع ثقافة، ولهذا السبب نلاحظ انبعاثا كبيرا للهويات اللغوية، حيث محاولات كثيرة وشجاعة لمواجهة تحدي الواحدية اللغوية التي تبشر بها العولمة التي لا تعني هيمنة اللغات الغالبة وإنما تعني في النهاية هيمنة النموذج الثقافي المختزن في رموز الاتصال. فاللغة البيلاروسية تريد العودة إلى الحياة بعد أن كادت هيمنة اللغة الروسية تخرجها من عالم التداول في عهد الاتحاد السوفياتي سابقا، واللغة الكورية التي واجهت ضربات اللغة الصينية ورفسات اليابانية لن تستسلم للهيمنة الناعمة للغات الأوروبية، كما أن هناك إحساسا في العالم العربي بضرورة حماية العربية إلى جانب جهود الأكراد والأمازيغ والأتراك في العمل من أجل حماية لغاتهم وتقوية نفوذها[1].

من أبرز الحقائق العلمية الغائبة عن الوعي العربي ما يتصل بموضوع “حياة” اللغة من حيث عوامل بقائها ودوامها أو أسباب اضمحلالها وانقراضها. إن الناس يُسلمون طوعا بأن للغة حياة، وبأن هناك لغات قد اندثرت يحدثنا التاريخ عن مجدها، ثم عن غلبة الزمان عليها، ويقرأ الناس بشغف قصة موت اللغات بنفس الشغف الذي يقرؤون به قصة الدول التي بلغت أوج المجد ثم ظل التاريخ ينال منها حتى أوقعها. غير أنهم في عامتهم وفي خاصتهم لا يسعفهم خيالهم بما يجعلهم يتصورون أن اللغات التي تجري بها ألسنتهم الآن، ويتداولها خلق الله من حولهم، هي أيضا معرضة إلى الفناء التدريجي ما لم تتوفر لها أسباب البقاء[2].

إن العلم اللغوي الذي ما انفك يبلور نظرياته المتعاقبة، والذي ما فتئ يؤسس المناهج الدقيقة في كشف بواطن الظاهرة الكلامية، والذي يغوص يوما بعد يوم على أسرار العلاقة بين آليات التعبير وآليات الإدراك، هذا العلم اللغوي قد أمسى مهتما بقضية “موت اللغات” اهتماما متواترا مكينا، وهو يتناولها تحت العنوان نفسه، وإلى جانبه يهتم بنفس الحزم والكثافة بموضوع يجعله محايثا له، وهو “الحروب اللغوية” بصريح العبارة كذلك، فإذا تداخلت معطيات الحرب اللغوية وفكرة موت اللغات انساق التحليل ببعض الواصفين والراصدين إلى الحديث عن”اغتيال اللغة”[3] حين يتقصد المعتدي الأقوى نسف مقومات الوجود الثقافي تمهيدا للقضاء للوجود السياسي[4].

إن الاحتكاك بين الألسن في تاريخها الطويل ينتج منه صراع قد يحتد أو يخفت بحسب الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبحسب طبيعة العلاقة التي تربط بين هذه الألسن. وإن هذا الاحتكاك قد يكون مهادنا في حالات كثيرة، وقد يبلغ حد التصادم في حالات أخرى. وفي هذه الحالة يشتد الصراع اللساني، وقد يطمس الغالب كل مقومات المغلوب، ما يجعل لسان الغالب يحل محل لسان المغلوب، وما يؤدي في النهاية إلى اضمحلال لسان المغلوب وربما التلاشي والموت. إن فرض إرادة المعتدي على المعتدى عليه لا يكون في مستوى السلطة وحدها، وإنما يكون في المستوى اللساني أيضا. وقد تكون الهيمنة المادية هي الطريق إلى الهيمنة اللسانية ومن ثمة الثقافية والفكرية، وقد يحصل العكس فتكون الهيمنة اللسانية هي البوابة العظمى للسيطرة على باقي مقدرات الشعوب. وفي كل حالات الصراع اللساني والهيمنة السياسية خطر قد تترتب عنهما خرائط جغرافية وسياسية وبشرية لم تكن موجودة في السابق، أي قبل الصراع[5].

تعد اللغة محورا جوهريا في الصراعات السياسية الكبرى عبر كل الحقب التاريخية. ومن المأثور عن شارل ديغول قوله: “لقد صنعت لنا اللغة الفرنسية ما لم تصنعه الجيوش”. فاللغات لا يمكنها أن تعلن حروبا فيما بينها، ولكنها أدوات طيعة بيد الذين يشعلون الحروب، فيتوسلون بها إلى الحفر في الأعماق البعيدة للنزاعات، والمنتصرون في الحروب هم الأسياد الجدد الذين يرومون فرض لغة واحدة، كذا كان أمر الإغريق مع الهند والشام ومصر وشمال أفريقيا  ومع الرومان مع سواحل البحر الأبيض المتوسط، وكذا فعل الصينيون بعد غزو المغول، والإسبان عندما احتلوا أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى، وكذا فعل البرتغاليون أيضا في البرازيل. وقد حلل ذلك بعمق عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو” في كتابه: “ماذا يعني أن تتكلم[6]“، وهو يصف سلوك المستعمرين-حين كانوا يتعمدون غرس أحاسيس النقص لدى الشعوب المغلوبة- بأن لغاتهم منحطة وضيعة إذا ما قيست بلغة الأسياد المستبدين. إن الصراع اللغوي واقع في شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية وحتى في الأبعاد الدولية، فهو أحيانا صراع مباشر بين القمم كما هو جار بين الفرنسية والإنجليزية، وقد سبق أن خرج به إلى العلن العالم “ريني إيتيامبل ” منذ 1964 في كتابه المدوي “هل تتكلمون الفرنكلية؟[7]” وهو أحيانا أخرى صراع غير مباشر عن طريق النزاعات الإقليمية، تماما كما يقع في الصراع العسكري، ولقد بات بديهيا أن الساحة الدولية ملأى بهذه النزاعات اللغوية التي تعكس صراعا سياسيا، أو ملأى بنزاعات سياسية تتوسل بصراعات ثقافية لغوية. فكثير من المتابعين المحللين يرون أنه من المفيد أن نقرأ بعض صراعات إفريقيا الوسطى بعدسات التصادم اللغوي[8].

فقد أعطى الدكتور عبد السلام المسدي أمثلة كثيرة عن الحروب اللغوية الصامتة المتسللة إلى حقل الصراعات السياسية والدولية، فليس من صراع سياسي إلا وراءه صراع اقتصادي، وليس من صراع اقتصادي إلا وخلفه منازعات ثقافية ولغوية، مستحضرا “الحرب بين قبائل الهُوتو وقبائل التوتسي التي تمتدُّ إلى ثلاث دول، هي جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي ورواندا، فالهوتو فرنسية اللغة، والتوتسي إنكليزية اللسان، ولذلك شاعت الأمثولة القائلة: هي حرب فولتير وشكسيبر بمعجم إفريقي. ولكن عبارة أخرى كثيرا ما تتواتر في هذا السياق حتى تكاد تطغى على أدبيات المحللين للتعالق بين العاملين السياسي واللغوي، ألا وهي”عقدة الفاشودا”. والفاشودا هو الاسم الذي كانت تسمى به مدينة كدُق السودانية التي كان الفرنسيون قد سارعوا إليها عام 1898 ليقطعوا على الانكليز طريق النيل، فطردهم الانكليزي في هزيمة مخزية، فاضطر الفرنسيون إلى التوقيع على معاهدة يتخلون فيها للإنكليز عن وادي النيل، وذلك عام 1899، ومنذئذ أصبح الصراع بين اللغتين الإنكليزية والفرنسية موسوما بعقدة الفاشودا”[9].         

ينتقل الدكتور المسدي إلى الجبهة الأوروبية التي تشتعل على جبهتين: جبهات الداخل وجبهات الخارج. متوقفا عند النموذج البلجيكي داخليا، حيث تحولت عام 1993 من”مملكة بلجيكا” إلى دولة اتحادية تضم فلاندرا في الشمال وفالونيا في الجنوب. آل فلاندار الفلامنية (الألمانية)، وأهل فالونيا يتكلمون الفرنسية. وما بينهما حرب كانت يوما باردة ولم يمض عليها عقد ونصف العقد حتى اشتعلت، فقد اندلعت في منتصف عام 2008 معركة سياسية أشرفت بالدولة البلجيكية الفيدرالية على التفكك، وكان مدارها أن ذوي الأصول الفلامنية قد ضغطوا على القيادة السياسية كي تعجل بالإصلاحات التي تخفف من سطوة الحكم المركزي، وتعطي لسلطة الأقاليم صلاحيات إجرائية نافذة، على رأسها توظيب جديد للتوازن اللغوي بين الفرنسية والفلامنية.. وظل هاجس تقسيم الدولة البلجيكية إلى دولتين يراود كل السياسيين بالمجاذبة أو بالتنافر. أما المملكة المتحدة البريطانية فهي تجمع النموذجين معا، على جبهات الداخل تخوض حروب الاستقلال ضد إيرلندا الشمالية وضد سكوتلندا وأخيرا ضد ويلز. وعلى مستوى جبهات الخارج تخوضها ضد أوروبا الموحدة لتحافظ على”الاستثنائية الانكليزية” وسط اللغات الأوروبية، أما في أمريكا الشمالية فإن “ألايبونيكس” أو الإنجليزية السوداء هي آخر صيحات الحرب[10].

بالمقابل يرى الأستاذ المسدي أن اللغة ليس كلها حروب، بل هي تحالفات أيضا، مستحضرا أمثلة كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا التي قررت تشكيل لجنة لتحديث اللغة الألمانية وهي قاسم مشترك بين تلك الدول، واللجنة التي صرفت عشرات الملايين من الماركات قالت إنها قامت بإصلاحات كثيرة لتبسيط قواعد اللغة أمام الجيل الشاب… وقامت قيامة ألمانيا بمؤلفيها ومفكريها شنوا حربا على الإصلاحات المزعومة. وحجتهم هي أن من يتعلمها سوف يحتاج إلى ترجمة “نيتشه” و”هيغل” و”غوته” و”توماس من” عن الألمانية. ورغم ذلك فالتحالف مستمر. معرجا في السياق نفسه على مثال أمريكا اللاتينية حيث الاسم الحركي للتحالف اللغوي الجديد هو “ميركوس”، ويضم هذا التحالف أربع دول هي: البرازيل والأرجنتين والبراغواي والأوروغواي. وهذه السوق اللغوية المشتركة هي اقتصادية في الأساس ولكنها قررت أن تتشارك في لغتها الرئيستين: الإسبانية والبرتغالية، وأن تعمل في المستقبل على لغة واحدة.

لما تمّ إنجاز”الميثاق الأوروبي حول اللغات الإقليمية ولغات الأقليات” بادرت فرنسا بإدراج ما تسميه”العربية الدارجة” أو”العربية العامية” ضمن لغات فرنسا، وكانت قد أدخلت هذه العامية مادة اختيارية في امتحان شهادة البكالوريا، أي الثانوية العامة، يُجرى الاختبار فيها شفاهيا، واستمر ذلك إلى يناير 1995، عندئذ جعلت العربية الدارجة مادة كتابية وتركت للتلاميذ الخيار بين كتابتها بالحرف العربي أو كتابتها بالحرف اللاتيني، وأوكلت مهمة الإشراف عليها إلى المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، وكانت على “كرسيّ العربية” فيه الأستاذة الباحثة “دومينيك كوبي” حيث دافعت بحماس فائض على العاميات العربية مستنقصة قدر اللغة الفصحى. وفي معهد اللغات الشرقية أعيد ترتيب قسم العربية وأصبح مشتملا على فروع أربعة: العربية الفصحى والعربية المصرية والعربية المغاربية والعربية الشرقية. وفي الفترة نفسها تمت مراجعة المعيار الترتيبي لمراكز اللغات، فقد كان ذلك يتم بحسب عدد الطلبة المسجلين في كل قسم، فألغي ذلك المعيار وأقيم ترتيب جديد نهائي هو: أولا-قسم اللغة العبرية، ثانيا- قسم اللغة البربرية، ثالثا- قسم العربية[11].

إن الصراع حول اللغة ليس صراعا محايدا، والحديث عن استعمال لغة بدلا من أخرى، لا يكون محكوما بالاعتبار اللساني أو اللغوي أو التربوي، وإنما هو يتعدى ذلك بكثير، إذ يتأطر بالمقاصد السياسية والحضارية الكبرى، ويمتد ليعبر عن جوهر الصراع والتوتر الحضاري الراهن. وإذا كان الاستعمار الفرنسي يعادل الاستعمار البريطاني في استغلال الشعوب والهيمنة على مقدراتها، فإن ما يميز الاستعمار الفرنسي هو شراسته في الاختراق الثقافي والتشظي اللغوي، حيث استطاع أن يكسب عددا من الأتباع الذين يدافعون عن الحضارة والثقافة والمصالح الفرنسية في المغرب وشمال إفريقيا، أكثر مما كان يتمنى الاستعمار إبان فترة تحكمه العسكري[12].

[1] المصطفى تاج الدين، ص147.

[2] عبد السلام المسدي، العرب والانتحار اللغوي، ط1 (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2011)، ص10.

[3]  يمكن الرجوع في هذا السياق إلى العديد من الأدبيات التي تطرقت إلى هذه الإشكالية، أهمها:

– عزمي بشارة، أن تكون عربيا في أيامنا، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009) خصوصا الفصل الرابع: اللغة والتفاوت الاجتماعي كصراع هويات.

– فلوريان كولمارس، اللغة والاقتصاد، ترجمة: أحمد عوض، مراجعة: عبد السلام رضوان، سلسة عالم المعرفة، العدد 263، ط1(الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2000). وقد تضمن لمحة موجزة عن “موت اللغات” مشيرا إلى صرا البقاء في المجال اللغوي.

– أصدرت دار العلوم الإنسانية في باريس(2001) باللغة الفرنسية كتابا انتدبت إليه مجموعة من المتخصصين في العلوم اللغوية والعلوم ذات الصلة بظاهرة اللغة، والكتاب معنون ب”اللغة: طبيعتها وتاريخها وتداولها-النظريات اللسانية، المجادلات، الأصول، الرهانات-“، كما شارك فيه العالمان اللسانيان:”كلود حجاج”و”جون كالفاي”.

 – Jean-François Dortier (…)Le langage: Nature, Histoire et Usage :Les théories linguistiques, les débats, les origines, les enjeux, (Paris : Sciences humaines, 2001)

– كلود حجّاج ، إنسان الكلام: مساهمة لسانيّة في العلوم الإنسانيّة، ترجمة د.رضوان ظاظا، (بيروت: المنظمة العربيّة للترجمة، 2003).

– Claude Hagège, Halte à la mort des langues, (Paris : Odile Jacob, 2002).

-لويس جان كالفي،  حرب اللغات والسياسات اللغوية، ترجمة د. حسن حمزة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008).

– Louis Jean Calvet, Le Marché aux langes: Les effets Linguistiques de la Mondialisation, (Paris : Palon, 2002)

Guy Gauthier(…), Langues : une guerre à mort, panoramique,(Paris, éd. Corlet, 2001). –

[4] عبد السلام المسدي، ص11.

[5] عبد الحميد عبد الواحد، اللسان العربي: الحاضر والآفاق، في: اللسان العربي وإشكالية التلقي، سلسلة كتب المستقبل العربي(55)، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007). ص: 699.

[6] Pierre Bourdieu, ce que parler veut dire, (Paris : Fayard, 1982).

[7] René Etiemble, parler-vous franglais?, (Paris ;Gallimard, 1964).

[8]  عبد السلام المسدي، ص45-46.

[9] عبد السلام المسدي، ص46.

[10] عبد السلام المسدي، ص52-53.

[11] عبد السلام المسدي، ص104.

[12]  محمد عيادي، لا تقتل لغتك، جريدة التجديد 29/7/2010

 

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات