معجم «الدوحة» التاريخي: فعل وفاء للغتنا وتراثنا

668

بيروت مدينة تغلي بحب الحياة على الرغم من أنف حروبها العبثية ومحاولات جــــرها إلى ســــلك «الموت الإجباري» والشحن المذهبي كخطوة ضرورية في حقل تجنيدها لقتل بعضنا بعضاً.
وغليان الحياة هذا، بعضه غليان الفقاعات الملونة وبعضه الآخر ينفع الناس ويمكث في الأرض كمشروع إصدار «معجم الدوحة التاريخي للغة العربية». ما دخل بيروت في الأمر؟ الفكرة بدأت باقتراح من الدكتور رمزي منير البعلبكي، الذي لم يفكر في الهجرة من بيروت يوماً على الرغم من حروبها وعروض العمل التي تلقاها من أرقى الجامعات الغربية. وهكذا، عام 2011 اقترح د. رمزي بعلبكي على الدكتور عزمي بشارة في الدوحة أن يتبنى «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» المشروع، ووافق الدكتور بشارة على ذلك، بعد أن تبنته الجهات المسؤولة في قطر بالتمويل لمدة خمسة عشر عاماً. وتم إطلاقه في أيار/مايو 2013 أي أن المشروع صار في سنته الثانية، وعيّنوا د. رمزي بعلبكي رئيسا لـ«المجلس العلمي» الذي يضم حوالي خمسة وعشرين عضواً من خيرة لغويي العرب من مختلف أقطارنا العربية إلى جانب الدكتور عزمي بشارة المدير العام ومنهم الدكاترة عبدالسلام المسدي وإبراهيم بن مراد وحسن حمزة وعز الدين البوشيخي وسواهم.

رمزي بعلبكي وتواضع العلماء

في زمن الضوضاء والصراخ الإعلامي نفرح بالنواة الصلبة للإبداع والعطاء في عمل كهذا المعجم. فهو يدرس كل مفردة عربية من تاريخ ظهورها حتى يومنا هذا مع تعزيزه بالشواهد المؤرخة وبلغة عصرية مستقبلية تهدف إلى بناء مدوّنة تراثية مؤرخة ومحوسبة في متناول الجيل الشاب على «الإنترنت». وقد وجدتُ في هذا المشروع إثراء للمكتبة العربية بأدوات عصرية وفعل وفاء نحو لغتنا وتراثنا.
ولم يكن بالإمكان نشر ما تقدم من معلومات سارة لولا فضولي الأبجدي، وحصاري للبعلبكي الأستاذ المزمن في الجامعة الأمريكية بالأسئلة واستجوابي له عما يشغله الآن.. فهذا اللبناني الذي يفيض بتواضع العلماء يعمل بصمت.. ويعمل كثيراً.. أكمل معجم «المورد الكبير» بعد وفاة والده المعجمي وأستاذ الأجيال منير البعلبكي (دار العلم للملايين) ولرمزي بعلبكي عدد كبير من الكتب بالعربية والانكليزية وأكثر من سبعين مقالة عن النحو والمعجم والدراسات السامية نُشرت في مجلات عالمية محكمة، وقد أعيد نشر عدد منها في مجلد خاص في سلسلة «فاريوروم» التي تكرم الباحثين العالميين كما حاز جائزة الملك فيصل العالمية (2010) على مجمل أعماله ولا سيما أسهامه في دراسة تاريخ النحو العربي.. والحديث عن إنجازاته يطول.. وآخرها عن تاريخ المعجم العربي من القرن الثاني حتى القرن الثاني عشر للهجرة وصدر (2014) عن دار (بريل) العريقة في لايدن ـ هولندا.
وكلها حققها في بيروت التي لم يغادرها ذلك الأستاذ الزائر في جامعات شيكاغو وكامبريج (بريطانيا) وجورج تاون (واشنطن). إن مجرد ارتباط «معجم الدوحة التاريخي» باسم الدكتور رمزي يعطي ذلك المعجم كثيراً من المصداقية ويبعث على التفاؤل والطمأنينة.
وفي لبنان نجد الكثير من أهل العلم في حقول مختلفة يتلقون الصدمات اليومية ويهدون قمحهم لمن يغرف ويميز بين السنبلة والرصاصة العدوانية.

لبنان الابتكار وخفة الظل

أنتقل الآن إلى موضوع آخر له صلة بالغليان اللبناني وبالرغبة في العطاء على نحو ما.
غادرت باريس وكانت في وداعي تظاهرة لنساء عاريات الصدور وقد كتبن مطالبهن السياسية على لحمهن العاري (اعتراضاً على السياسي لوبان وابنته مارين زعيمة الحزب الانعزالي الحالية) ولم أجد شخصيا مبرراً لهذا التعري الذي تواظب عليه فتيات فريق (فيمن) وذلك للتظاهر بالكتابة على الجسد إلى ما تحت الخصر.. بقليل!.
في بيروت استقبلتني المجلات والصحف بصور لتظاهرة رائعة قام بها الرجال في الواجهة البحرية اللبنانية لمنطقة الضبية (قرب بيروت) وهم يرتدون الكعب العالي الأحمر النسائي وقد حملوا يافطة بالانكليزية كلها ذكاء ولعب على الألفاظ تقول: «إمشِ ميلاً في حذائها». والتعبير بالانكليزية يعني ضع نفسك في مكانها!
وهذه التظاهرة امتداد لتظاهرات عالمية تحت الشعار نفسه، ونظمتها شركة UF-Concept بالتعاون مع جماعة «كفى عنفاً واستغلالاً» المعنية بالدفاع عن حقوق المرأة.
ارتداء الرجال للأحذية النسائية طريف وخفيف الظل وذكي لأنه لافت للنظر دونما التعري على طريقة الباريسيات المتظاهرات، ويخدم قضية المرأة.. وشارك في التظاهرة الكثير من الممثلين والفنانين والأدباء تعبيراً عن رفضهم للعنف عامة وللعنف ضد المرأة اللبنانية بالذات، مذكرين بالقانون رقم 2014/293 الذي صدر تحت عنوان «حماية النساء وسائر أفراد العائلة من العنف الأسري»، ومذكرين أيضاً بأن الدستور اللبناني ينص على المساواة بين المواطنين كلهم، ناهيك عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (وتصادف أن المرأة إنسان أيضا وهي حقيقة نصف منسية لدى بعض الفئات العربية).
تظاهرة الكعب الأحمر العالي أحببتها على النقيض مثلاً من تظاهرة باريسية شتائية حسنة النية، فوجئت بها في الشارع، لكنني وجدتها لا تخلو من الابتذال لنساء شبه عاريات تحت الثلج في ساحة الأوبرا الباريسية، وقد كتبن على أجسادهن عبارة: نفضل المشي عاريات على ارتداء الفراء!
والمقصود ما تدافع عنه بريجيت باردو باستمرار وهو عدم قتل «الفقمة» وسواها من المخلوقات لترتدي المرأة (وبعض الرجال!) الفراء. وعلى العكس من هذه التظاهرة وجدت تظاهرة الرجال عندنا بالحذاء الأحمر عالي الكعب ذكية وراقية ولافتة إلى معاناة المرأة.
هذا هو لبنان، يحمل القضايا الكبيرة أحياناً بلا ابتذال ولا سماجة منحازاً إلى المرأة بكثير من خفة الظل في أزمنة ثقيلة الظل.

غادة السمان – جريدة القدس العربي

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات