محمد حسن الجندي ..”آخر الفرسان” يدلف “بلاط الشهداء”

1٬098

عبد الإله المنصوري

لم يكن الأستاذ محمد حسن الجندي، الذي غادرنا قبل أيام، واحدا من كبار المبدعين والفنانين المغاربة والعرب الذين تألقوا في المسرح والسينما والإخراج والكتابة، بل كان “ولد القْصور” (نسبة إلى حي القْصور الشهير في مدينة مراكش الحمراء، وهو من الأحياء الأولى التي أسسها المرابطون وبناها الموحدون)، نموذجا للمثقف الملتزم بقضايا وطنه وأمّته.

عاش الراحل الجندي في أكناف أسرة أمازيغية جاءت إلى مراكش من منطقة أمزميز، يتجاور فيها التصوف، بحكم انتماء والده إلى الزاوية التيجانية، مع الوطنية، بحكم العلاقة العائلية التي تربطه بالزعيم الوطني عبد الله إبراهيم، رفيق الزعيم علال الفاسي والشهيد المهدي بنبركة، والذي سيوصف في ما بعد بأنه أول وآخر رئيس حكومة في تاريخ المغرب (زوج عمّة الفنان الجندي).. وكان تلميذا في مدرسة الحسنية التي بناها الوطنيون في مراكش سنة 1949 لدى أستاذ سيصبح رمزا من رموز المقاومة والوطنية والنضال ضد الاستبداد في ما بعد، وهو القائد الوطني والأديب محمد الحبيب الفرقاني (وهو مدير المدرسة في الوقت نفسه)، الذي قام بتشجيعه على القيام بأول عروضه المسرحية في حياته، مستفيدا من مسرح الحياة الكبير في أجواء مراكش الباذخة ثقافة وشعرا وفكاهة ونضالا وقضايا إنسانية بالطبع.

تخرج الجندي طالبا غير منتظم من مدرسة ابن يوسف الشهيرة في مراكش، التي كانت معقلا للنضال والوطنية والتحرر، ليلتحق بعد الاستقلال بفرقة التمثيل في الإذاعة الوطنية تحت إشراف الأستاذ عبد الله شقرون، ليساهم بعدها في إبداع فنّ استمتع به المستمع والمشاهد المغربي والعربي طيلة عقود من الزمن في أعمال رائدة لا يمكن أن تُنسى، استطاع أن يبني عبرها الجسور بين المغرب والمشرق العربي.

هذا المبدع كان يُعتبر أحد أبرز الوجوه الفنية العربية في المسرح والإذاعة والدراما التلفزيونية، وأسس مسيرة فنية حافلة جعلته يخطّ طريقه عبرها نحو العالمية.

مسيرة فنية حافلة:

أنتج الجندي برامج كثيرة تم بثها في الإذاعة المغربية وأخرى في الإذاعة البريطانية، خاصة برنامج “كشكول المغرب” الشهير.

كما أخرج الراحل الجندي “بائعة الخبز”، الذي كان أول مسلسل تلفزيوني في تاريخ المغرب سنة 1962، وكان يحكي عن تلك التجربة وعن تجربة التلفزيون المغربي حينها قصصا مضحكة. وبعد مرحلة قضاها في القسم الأمازيغي من الإذاعة الوطنية، اشتهر بتأليف أعماله في المسرح الإذاعي: “العنترية”، التي كانت انعكاسا لأجواء ما بعد النكبة سنة 1967، حيث دعا فيها إلى تجاوز تلك الهزيمة وآثارها الصادمة، واستذكار أمجاد العرب السابقة وأبطالهم وإمكانيات النهوض منها، بل وكانت مناسبة لإعادة الاعتبار له في الإذاعة المغربية، بعد أن كان قد تعرض لطرد وتوقيف ظالم منها بسبب آرائه التقدمية، قبل أن ينصفه مدير الإذاعة وقتها، الراحل المهدي المنجرة، ويعيده إلى عمله.. بعد أن قضى فترة طَرْدِه منها قائدا لفرقة مسرحية أسسها للشبيبة العاملة المغربية، الجناح الشبيبي للاتحاد المغربي للشغل، الذي كان رديفا نقابيا لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

بعد ذلك أبدع الراحل مسرحية “الأزلية”، التي حققت نجاحا عابرا للأجيال والانتماءات، إذ تربّت عليها الذائقة الصوتية واللغوية لأجيال متعاقبة من المستمعين.

كانت “الأزلية” تجسيدا لقدرة خارقة على ترجمة التراث المغربي والعربي إلى المجال الفني الحديث، إذ تحكي بطابع مغربي سيرة البطل الأسطوري العربي سيف ذي يزن، ما شكل علامة فارقة حينها في الإبداع الإذاعي والمسرحي؛ كما أنتج في ما بعد مسرحيات: “شاعر الحمراء” (محمد بنبراهيم الذي كان صديقا مقربا لوالد الجندي السي لحسن)، “المتنبي في جامع الفنا”، “بهجة البهوج”، “أنا وشامة”، “خالتي راضية”، “الكنز الخفي”، “الحقيقة ماتت”… وقبلها في المسرح الإذاعي أبدع “سر الانتحار” و”شقيق الهموم”…كما يتضمن سجل أعماله فيلم “ثعلب أصيلة”.

وكان حدث تكليف الراحل محمد حسن الجندي بشرف افتتاح دار الأوبرا المصرية سنة 1988 بعد تجديدها علامة فارقة، إذ تفنن في إنجاز روائع المسرحيات الاستعراضية التي تغنت بأمجاد الوطن وبطولاته وعبّرت في صياغات مسرحية متنوعة عن تراثه الحافل، ما أهّله لإخراج “ملحمة العهد”، وخاصة تلك التي قدمت على مسرح الأوبرا بالقاهرة، حيث تعرف الشعب المصري على التراث المغربي الأصيل في أبهى تجلياته، ليختم حياته في “أبي الفنون” محاضرا في مادة الإلقاء بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي والفن المسرحي في الرباط.

مسيرة في التمثيل التلفزيوني والسينمائي:

أبدع الفنان محمد حسن الجندي في أدواره المتميزة التي تفوق فيها على أقرانه من الممثلين والفنانين العرب والأجانب في مسلسلات وأفلام كبيرة، مثل أدائه لدور عمرو بن هشام (أبو جهل) في فيلم “الرسالة” سنة 1973 للمخرج العربي الكبير الشهيد مصطفى العقاد، في نسخته العربية (وهو الدور الذي انتزعه الجندي بجدارة من ممثلَيْن عربييْن كبيرين هما المصري عادل أدهم والسوري عبد الرحمان آل رشي)؛ كما مثّل بشكل مقتدر دور كسرى إمبراطور بلاد فارس في النسخة الإنجليزية.

كما أدى الراحل دور رُستم فرخزاد، قائد جيش الفُرس، في “القادسية”، للمخرج المصري صلاح أبو سيف، وأدى دور صخر في مسلسل “الخنساء”، وفي مسلسل “صقر قريش” لوليد سيف وإخراج حاتم علي لعب دور الأمير يوسف الفهري أمير قرطبة، وأدى دور عتبة بن ربيعة في مسلسل “عمر”، ودور الملك الصالح أمام نضال الأشقر في “شجرة الدر”؛ إضافة إلى حضوره المبهر في مسلسل “آخر الفرسان” مع المخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور، وفي “بلاط الشهداء”، “المهلب بن أبي صُفرة” و”فارس بني مروان”…يضاف إلى ذلك أدواره في إنتاجات مغربية، مثل “ظل الفرعون” و”طبول النار” لسهيل بن بركة، ومشاركته سنة 2004 في مسلسل “أمود” للمخرجة المغربية فاطمة بوبكدي.. وهي أدوار أداها في معظمها بلغة عربية تتسم بالجزالة والفصاحة وقوة التأثير وشد اهتمام الجمهور.

انتصاره للغة والثقافة العربية:

كان الفنان محمد حسن الجندي يعتبر أن اللغة العربية تتمظهر مغربيا في الدارجة المغربية السليمة من التحويلات التي خضعت لها، رغبة في قطع جذورها العربية بفعل فاعل هو المستعمِر (يرفض استخدام كلمة الحماية) الذي بدأ يستبدل الكلمات العربية في الدارجة المغربية بكلمات لاتينية؛ وكان يعيب على أي فنان استخدام لغة الشارع، لأن الفن له رسالة يؤديها بلغته الخاصة والراقية، مثلما عبر عن رأيه بشجاعة ذات محاولة لفرض لهجة فقيرة مستمدة من الحارات الخلفية في غفلة من المجتمع، مواجها بصريح القول النزعات الفرنكوفونية المسيطرة على سوق الثقافة والمستهدفة للغة والثقافة العربية، مثلما ترسم صورة نمطية عن الثقافة والسياحة المغربية بعيدة عن حقيقتها الواقعية.

والأهم من المواقف ما خلفه الراحل من إرث فنّي أغنى به اللغة والثقافة العربية مشرقا ومغربا، إذ أبدع بها نصوصا ستبقى خالدة حتما.

لقد جسد الجندي بإبداعه وقدراته نموذج الفنان والمثقف الأصيل الذي يعتز بمغربيته دون إغراء الذوبان في بريق الشهرة التي بناها في الشرق، إذ تمسك بمغربيته باعتبارها أحد روافد عروبته وانتمائه القومي الذي لم يكن يُخفيه؛ لذا كان المخرج الشهيد مصطفى العقاد يُكنّ له احتراما كبيرا باعتباره فنانا مغربيا يجسد انتماءه العربي ممثلا للجناح المغربي من الوطن العربي.

دفاعه عن القضية الفلسطينية:

ارتبط اسم الفنان محمد حسن الجندي، مثل عدد كبير من الفنانين المغاربة والعرب، بالدفاع عن القضية الفلسطينية في إبداعاته، ونصرتها كقضية تحرر عادلة يتطلع إليها العرب جميعا؛ إذ بعد عمله المتميز “العنترية” التي عالج فيها هزيمة العرب سنة 67 وناقش فيها آليات النهوض من كَبْوتِهم واستعادة حقوقهم، قدم الفنان محمد حسن الجندي مسرحية “القضية” التي اختصت بموضوع القضية الفلسطينية، وشارك بها في مهرجان المسرح العربي الحديث.

وفضلا عن ذلك كان الراحل كثير الحضور في أنشطة ملتزمة حول القضية الفلسطينية نظمتها “مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين”، وقبْلها “الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني” أيام مجدها التليد، أو أنشطة تنظمها مؤسسات مدنية أخرى؛ مثلما كان من أبرز المؤسسين لـ”المرصد الوطني لمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني”، ومن أوائل الموقعين على ميثاقه إلى جانب المبدع الكبير إدمون عمران المالح رحمه الله، ليمثل نموذجا للفنان العضوي الملتزم بقضايا الشعب والوطن.

نموذج في الأخلاق والتواضع:

اتصلت بالمبدع محمد حسن الجندي قبل حوالي 3 سنوات لاستضافته في برنامج المشاء الثقافي في مدينته مراكش فرحب بحرارة، غير أن حادثا أليما تعرض له بيته جعلنا نؤجل التصوير إلى حين، لولا أن الأقدار كانت حاسمة.

كان لطيفا ومؤدبا ومنفتحا على الجميع، وقع كتابه الأخير “ولد القصور” قبل أسبوع في المعرض الدولي للكتاب، دون أن يتوقع أحد أن المغرب سيفقد واحدا من أعلامه الكبار.

كان حاضنا لأسرة من الأبناء المبدعين من زوجته الراحلة فاطمة بنمزيان (التي كانت تلقب بسيدة المسرح المغربي): عبد المنعم (رحمه الله)، أنور، حسن وأيقونته هاجر التي كانت تخنقها العبرات حين اتصلت بها مُعزيا، وكأني بها تستحضر رثاء الخنساء لأخيها صخر (الذي مثّل دوره بشكل جميل ومؤثر والدها الراحل في مسلسل الخنساء)، تلك الشاعرة العربية التي أجمع العالمون بالشّعر أنّه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، خاصة حين أنشدَت في سوق عُكاظ بين يدي النّابغة الذّبياني، وحسّان بن ثابت رائيّتها التي رثَت بها صخر:

قذىً بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ أمْ ذرَّفتْ إذ خَلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ

كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ

تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ أستارُ

فرعٌ لفرعٍ كريمٍ غيرِ مؤتشبٍ جلدُ المريرة ِ عندَ الجمعِ فخَّارُ

آخر الفرسان:

وبرحيل الفنان الجندي تكون شجرة الإبداع المغربي والعربي قد فقدت غصنا أساسيا منها، بعد رحيل عدد من رموز الإبداع العربي في المسرح والسينما من مجايليه، مثل أحمد الطيب لعلج والطيب الصديقي، خاصة من اقترنت أسماؤهم بفيلم “الرسالة”، مثل عبد الله غيث: الذي مّثّل دور حمزة بن عبد المطلب، وعُرف عنه أنه أفضل من قدَّم المسرح الشعري..حتى إن عميد المسرح العربي يوسف وهبي اقترح أن يخلفه على خشبة المسرح، وبكى عليه كل من شاهد مسرحية “الوزير العاشق” عندما مات فيها؛ وكان شبيها بالجندي يرفض التنازلات الفنية حتى ظل واحدا من أبرز نجوم المسرح العربي طوال خمسين عاماً.

..مثلما رحل شقيقه حمدي غيث الذي أدى دور أبي سفيان، ودور “ريتشارد قلب الأسد” ملك الإنجليز في فيلم الناصر صلاح الدين، كما رحل أنتوني كوين الذي أبدع في مجال التمثيل، وكذلك سناء جميل الفنانة المصرية التي أبدعت مع المجموعة في دور سمية؛ ثم أيقونة السينما العربية المخرج مصطفى العقاد الذي قضى شهيدا في حادث إرهابي غادر..وغيرهم من الكبار….

لقد كان آخر الفرسان بالفعل.

وبالرغم من حصول الراحل في حياته الحافلة على عدد من الأوسمة، مثل وسام الثقافة من جمهورية الصين الشعبية، ووسام “عملة باريس” من معهد العالم العربي بباريس عام 1999، ثم “نجمة مراكش” بالدورة الثانية من مهرجان مراكش الدولي للفيلم، حيث تم تكريمه هناك برفقة المخرج الأميركي الشهير فورد كوبولا والهندي عامر خان، فإن باب تكريمه كان مازال مفتوحا، إذ كان منتظرا أن يتم تكريمه في المهرجان الدولي للمسرح في طنجة، حيث قام المبدع عبد الكريم برشيد بتهيئة خطاب التكريم لولا أن القدر فاجأ الجميع.

لقد شاع قديما قول: “لولا عياض لما عُرف المغرب” في إشارة إلى القاضي عياض السبتي، صاحب “كتاب الشفاء” الشهير الذي عَرَفَ من خلاله المشارقةُ المغرب؛ وقياسا على ذلك يمكن القول إنه لولا محمد حسن الجندي لما عُرِف المغرب على مستوى المسرح والسينما والتلفزيون.

للسي محمد حسن الجندي، عَلَما من أعلام المغرب ارتقى إلى ربه، الرحمة والرضوان، ولأسرته الصغيرة (أنور، حسن وهاجر أبناؤه من زوجته الأولى الراحلة، وحليمة، إيمان، هدى ولِأُمّهم السيدة حياة زروال) والكبيرة مغربا ومشرقا خالص العزاء، وأفضل عزاء له وفِيه مؤسسة ثقافية تحمل اسمه وتصون إرثه الفني وتكمل مشوار أعماله التي لم يُنهها بعد، وتُواصل رسالته النبيلة في الفن والحياة.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات