التعليم باللغة العامية بين الجزائر والمغرب .. الخلفيات والمآلات

906

رشيد الإدريسي *

أثير مؤخرا نقاش حاد في الجزائر على إثر دعوة وزيرة التعليم لاعتماد العامية أو الدارجة في التعليم الابتدائي، وذلك بحجة تجاوز النقص الذي يعاني منه التلميذ الجزائري في القدرات التعبيرية. ونظرا لحدة ردود الفعل من طرف المجتمع ككل، فقد اضطرت الوزيرة إلى توضيح ما قصدته بدعوتها هذه؛ إذ بينت أنها تنحصر في نطاق استعمال العامية بوصفها لغة تواصل بين المعلم والتلميذ، وليست لغة تعليم كما أشاع ذلك “خصوم” الوزيرة.

هذا السيناريو بكل عناصره المتعلقة بالاقتراح الوزاري وبرد الفعل القوي من طرف المجتمع، وكذا بتعديل الاقتراح والادعاء أن فهم المجتمع كان خاطئا، وأن العربية ليست مستهدفة. كل هذا السيناريو عاشه المغرب في بداية السنة الفارطة، وقد نتج عنه كل ما نتج في الجزائر الشقيقة. والفرق الوحيد هو أن الجهة التي صدر عنها هذا المقترح في المغرب، تتجسد في جمعية يشرف عليها شخص ليس له التكوين الذي يسمح له بأن يخوض في مثل هذه القضايا المصيرية التي قد ترهن مستقبل البلد والأجيال المقبلة، لكنه في مقابل ذلك له نفوذه الذي مكنه من أن يُحْضر أشخاصا مقربين من الملك في ندوته التي أعلن فيها عن مقترحه الغريب هذا. وقد اعتبر البعض هذا المعطى مؤشرا خطيرا يهدد اللغة العربية في المغرب، ويمنح خصومها ورقة بيضاء للإجهاز عليها بالتدرج والاحتيال.

إن الاستراتيجية والتكتيك اللذين اعتمدا في المغرب، تم اللجوء إليهما في الجزائر كذلك؛ فمن الدعوة إلى اعتماد الدارجة في التعليم الابتدائي، انتقل أصحاب هذا الاقتراح إلى الحديث عن الاستئناس بها لا غير. وذلك ناتج عن قوة رد الفعل الذي أحرج أصحاب هذه الدعوة وفرض عليهم التراجع، بهدف التهدئة وجعل الطرف المناوئ لهذه الدعوة يألفها، ويعتاد على أن تطرح اللغة العربية بوصفها مكونا يمكن الاستغناء عنه إذا ما اقتضت الضرورة ذلك.

لا شك أن الذي يكتفي بالاطلاع على عناصر القضية كما طرحت في الجزائر، سينتهي إلى أن الحديث من طرفنا عن الاستغناء على اللغة العربية أمر مبالغ فيه، ويقوم على التهويل الذي لا علاقة له بالواقع وبتصريحات وزيرة التعليم الجزائرية. وهنا تطرح التجربة المغربية بوصفها تجربة تضيء ما وقع في الجزائر وتتمم السيناريو وتبرز العناصر المسكوت عنها، والتي لم تسمح الشروط الموضوعية هناك بقولها صراحة. أي أن التجربة المغربية في هذا المجال، والتي لم يكتب لها لحد الآن أن تأخذ مجراها وأن تنزل إلى أرض الواقع، لمعارضة المجتمع والنخبة المثقفة الواعية، هذه التجربة تسمح لنا بأن نتنبأ بما قد تؤول إليه هذه الدعوة في الجزائر، وتسمح لنا كذلك بقراءة مقصديات أصحاب هذا المطلب.

هل الهدف من هذه الدعوة، كما صرحت الوزيرة الجزائرية نورية بن غبريط، هو الاستئناس بالدارجة لا غير، وأنه لا خوف على اللغة العربية مما طرحته من “حلول”؟ الجواب نجده في التجربة المغربية. فبعد أن طرح نور الدين عيوش هذه الفكرة في المغرب وبحضور بعض المقربين من الملك كما أشرنا، دافع عن نفسه هو الآخر في مناظرة غير متكافئة مع المفكر المغربي عبد الله العروي، وذلك بالزعم أن دعوته هي لصالح التلميذ، وأن القصد هو الاستئناس بها من طرف المعلم مع الاحتفاظ باللغة العربية وتوقيرها.

إن التجربة المغربية تكشف لنا أن قول الوزيرة الجزائرية ليست، بلغة الحرب، سوى تكتيك أي تكييف للخطة حسب الموقف، فبسبب قوة رد الفعل كان لا بد من الحديث عن الاستئناس بالعامية بدل إعطائها مكان اللغة العربية، هذه الأخيرة التي يلزم أن تتحول مع الوقت إلى لغة للمعبد لتفسح المجال للدارجة لتتحول إلى لغة للمعهد. ويكفي أن نعلم بأن الدارجة التي يراد لها أن تتحول إلى لغة التعليم ولغة المعهد العلمي، لا يوجد بها ولو كتاب واحد له قيمته الأدبية أو العلمية التي تسمح له بمنافسة الإبداعات الإنسانية الكبرى سواء في الجزائر أم في المغرب، مما يبين لنا عبثية هذا المقترح وجنونه.

في لغة الحرب يقابل مفهوم التكتيك مفهوم آخر هو الاستراتيجية التي من معانيها الخطة المتكاملة والثابتة التي تُعْتَمد للوصول إلى الهدف النهائي. ما الهدف النهائي الذي ترمي إليه هذه الدعوة؟ لا جواب على السؤال في السياق الجزائري، فالسيناريو في بدايته. أما في السياق المغربي، فقد تكفل بالجواب نور الدين عيوش الذي سبق له في مرحلة كتابة دستور 2011، الذي خرج للوجود استجابة لضغط أحداث الربيع العربي، أن قدم مقترحا لجعل اللغة الدارجة لغة رسمية في الدستور الجديد. الهدف من اعتماد العامية في التعليم الابتدائي إذن، وانطلاقا من الدعوة لترسيم العامية، يدخل في إطار خطة عامة هدفها منافسة اللغة العربية في أفق القضاء عليها.

ورب معترض يقول إن الدعوة إلى ترسيم لغة ما، ليس معناه معاداة لغة أخرى. ولرد هذا الاعتراض وتأكيدا لصحة ما انتهينا إليه من تحليل، نشير فقط إلى أن معاداة اللغة العربية هي من ثوابت هذا الخطاب الذي يبلغ أحيانا درجة العنصرية. ويكفي أن نشير إلى أن نبيل عيوش، وهو ابن نور الدين عيوش، لا يفوت فرصة للتقليل من شأن اللغة العربية في مجموعة من إنتاجاته الكوميدية التافهة التي تفرض فرضا على الجمهور المغربي بمناسبة كل برمجة رمضانية جديدة. فما أكثر المشاهد التي تظهر فيها شخصيات تعلن عدم فهمها للغة العربية الفصيحة لأنها “ليست لغتنا” حسب تعبيرها، وتطالب بالتواصل بالدارجة، اللغة المعبرة عما يسمونه بـ”تمغرابيت”؛ أي المكونات المغربية المعبرة عن “خصوصيتنا”.

لذلك فإنه لكي نفهم مرامي هذا النوع من المطالب، وهي ما زالت في مظهرها التكتيكي المخادع، يلزم وضعها في إطار نسقي وعدم عزلها عن العناصر الأخرى. فالصراع مع هذا النوع من الأفكار يستلزم دوما البحث عما يراد تحقيقه في نهاية المطاف، وذلك عن طريق استحضار السيناريوهات المشابهة وأحيانا المستنسخة استنساخا تاما. وهذا ما لا يتأتى إلا بمقارنتها وتحليلها بوصفها مطالب ملغومة، مع استحضار مآلاتها المحتملة أو المقصودة على المدى القريب والبعيد معا.

لقد اتفقت الكثير من ردود الفعل إزاء هذا المقترح في المغرب كما في الجزائر، على أنه خدمة لأجندات أجنبية خفية. وذلك على اعتبار أن ربط المواطن المغاربي باللغة العربية هو ربط له بثقافة شديدة الغنى وشديدة القوة، بحيث يمكنها أن تثبت حضورها وأن تنافس في السوق اللغوية العالمية، على الأقل على المستوى الرمزي. وهذا ما يجعل من الصعب هضم متكلمي هذه اللغة وتحويلهم إلى ملحقين بالثقافات الأخرى. هذا بالإضافة إلى أن لغة الضاد تربط المغرب بعمقه العربي الذي هو تاريخ وثقافة وجغرافيا وسياسة واقتصاد…

وعلى العكس من ذلك فإنه إذا سجن كل بلد من بلدان المغرب العربي أو العالم العربي ككل في لهجته المحلية الضعيفة، فإن ذلك سَيُلْجِئه فيما بعد للبحث عن لغة أخرى قوية وممتدة في الجغرافيا، وذلك ليستطيع التواصل مع العالم أو جزء من هذا العالم، وهذه اللغة ليست سوى لغة الآخر – التي يراد لها أن تقضي على اللغات الأخرى – والتي يتقنها بشكل جيد أصحاب هذه المقترحات.

وفي مقابل هذا الاتقان، يكشف أغلب الذين يقفون خلف هذه المطالب عن قلة إلمام بأبجديات اللغة العربية، وعن العجز عن التواصل بها بشكل مقنع. ما الذي ينتج عن هذه الوضعية؟ الجواب نجده في تحليل الظاهرة على المستوى النفسي. فالذي يكون حاله كذلك، يسعى ما أمكنه ليجعل من الآخرين نسخا مطابقة له، وذلك بهدف رفع الحرج عن نفسه. إن المطالبة باعتماد الدوارج والعاميات في التعليم بالمغرب والجزائر، هي على المستوى النفسي تعبير عن عقدة الرغبة في قطع ألسنة الآخرين. ولهؤلاء نقول: بدل قطع ألسنتنا قَوِّموا ألسنتكم!!!

* أستاذ بجامعة الحسن الثاني – بالدارالبيضاء

idrissy@gmail.com

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات