عدنان: كرسي المثقفين الشاغر ينمي المزايدات السياسية للهوية

762

ياسين عدنان

قلق اللغة في “مشارف”

على امتداد حلقات “مشارف” كان سؤال اللغة يؤرّقني: كيف أفتح نقاشا ثقافيا وفكريا وأدبيا بلغةٍ سهلةِ المأخذِ مُتاحةٍ لعموم المشاهدين. لغَةٌ سلسةٌ دونما إسفاف، فصيحةٌ بلا تفاصح، رصينةٌ من غير تَقْعير، مبذولةٌ دونما ابتذال؟

كنتُ على الدوام مشغولا بهاجس اللغة. أريدها لغةً حيّةً تتيح الحوار مع رموز الأدب الشعبي والأمازيغي والفرنكفوني في بلدنا – جنباً إلى جنب مع أدباء الضاد – دون أن تكون اللغة حاجزًا ولا حائلًا. رغم تخصّصي الجامعي في الأدب الإنجليزي فأنا مرتبطٌ بالعربية وآدابها قارئا وكاتبا منذ اليفاع. إنما في البرنامج كان عليَّ أن أقدِّم مُقترحي الخاص: بلورة لغة إعلامية رشيقة لا تتنازل عن فصاحتها ولا تتعالى مُتفاصحةً على المشاهدين.

خلاصة القول إنني أدافع عن العربية بأسلوبي، دون مزايدة ولا ادّعاء. لست أصوليًّا لغويًّا، وأنبذ الانغلاق. أؤمن أنّ اللغات حيّة، وأعتبر التفاعل بينها أمرا طبيعيا بل ومطلوبا. فهناك أكثر من 1600 مفردة فارسية دخلت إلى قاموس اللغة العربية، بل حتى القرآن الكريم الذي أنزله ربّ العالمين بلسان عربي مبين يتضمن أكثر من أربعين كلمة فارسية، مما يعني أن الصفاء اللغوي الخالصَ محضُ وهمٍ ومجرّدُ أسطورة. لذا لا أعرف شخصيا كيف أغلق على “عربيتي الفصحى” النوافذ، ولا أريد حمايتها من لغتنا المغربية الدارجة، حيث التلاقي أهلٌ والتساكنُ سهلٌ بين الأمازيغية والضّاد ولغات الجوار.

ومع ذلك، فقد فاجأني أنني تلقّيتُ انتقادات، بعضها عنيف، من أكثر من جهة. هناك مثلا من يؤاخذ على البرنامج تعاليه على لغة الشعب. فهذا الشعب الأمي يجب أن نبسِّط له الأمور والقضايا ونخاطبه بدارجة مغربية مفهومة. وهناك من يطالبنا بالاشتغال أكثر على لغتنا لتصير أكثر تلفزيونية، وكأن التلفزيون صنو الابتذال، أو كأنّ العربية السليمة ليست لغة تلفزيونية. فديكتاتورية نسبة المشاهدة اختارت للتلفزيون في هذا البلد لغته ورسَّمتها غصبًا دونما حاجة إلى قانون ولا نص دستوري. إنها لغة الإشهار التي تعرفونها جميعًا: دارجة بسيطة تعاني من فقر في الإبداع. بل إن بعض صقور نسبة المشاهدة لا يفهمون كيف يواصل “مشارف” مغامرته على امتداد هذه السنوات رغم أنه لم يقبل الامتثال لقواعد اللعبة اللغوية المرسومة ومخاطبة الناس بلغة “التلفزيون”؟ والطريف أن حملة الانتقادات التي حاولت النيل من البرنامج، وكانت تسخر من لغته بالذات، اشتدّت في سنواتٍ كان شعبنا المُفترَى عليه يسدِرُ خلالها في تيهٍ إعلامي طويل قاده إلى ما يشبه الهجرة الجماعية إلى “الجزيرة” وجاراتها في الأرخبيل المشرقي أيّام ما كان يُدعى بالربيع العربي. كنت أرى الأميين ومحدودي الثقافة، في محيطي الشخصي، يتابعون الجزيرة من صبح الله إلى مساه، ويناقشون فيما بينهم تفاصيل ما يحدث في تونس ومصر وسوريا في بداية الحراك بالكثير من الحماس، وأصحابُنا هنا يتباكون وهم يدافعون عن حقّ هؤلاء المساكين في تلفزيون شعبي ديمقراطي يخاطبهم بلغتهم. فعن أيِّ شعب يدافع هؤلاء؟

لكن بالمقابل، ومن جهة أخرى، تعرَّض “مشارف” في أكثر من مناسبة إلى نيران صديقة أطلقها عليه صقور الضفة الأخرى. فقد تعرّضنا لغارات متكرّرة من أطراف تدّعي الدفاع عن اللغة العربية حتى أنّ حسابَيْن على الفيسبوك أحدهما يحمل اسم (دفاعًا عن اللغة العربية)، والثاني (لغة الضاد بالمغرب) سيقودان حملة شعواء ضدّ “صاحب مشارف الذي ينزلق إلى العامية في كثير من الأحيان ليستدرج مخاطَبيه إلى مناطق لغوية يغطّي فيها عن ضعفٍ يبدو واضحًا في أسلوبه اللغوي”.

طبعًا تلقّيْتُ الحملة ضدّي باستغراب، وكأنّ قنواتنا الوطنية تضجُّ بمذيعين يصدحون بعربية سليمة نقية، ولم يبق غير صاحب “مشارف” سامحه الله يشذُّ عن القاعدة ويغرّد خارج السرب مسيئًا للضاد ولغة الضاد، ولا يمكن تقويمه هو السّادر في الغيِّ إلّا بهكذا حملات. قلتُ في نفسي أيامها: أوَلا يستقيم الدفاع عن العربية لدى البعض إلّا بالنّيل من أبنائها؟ وهل عن كَمَهٍ أخطأ هؤلاء الهدف أم عن ضغينةٍ وشَحْناء؟ ثم ما الذي يضايق البعض حينما يتبسّط عاشقٌ للعربية مع لغته ويحاول رفع الكلفة معها؟ فنحن لا نقصد من مثل هذا التبسُّط غير إتاحة الموضوع الثقافي والشأن الأدبي والقضية الفكرية لأكبر عدد ممكن من المشاهدين.

إن لديّ موقفا نقديا واضحا من ديكتاتورية نسبة المشاهدة التي تُقصي الهادف والعميق لصالح السطحي والمبتذل وتسوِّغ للتلفزيون العمومي أن يتملص من أدواره التربوية والتثقيفية والتنموية بدعوى تلبية رغبات المشاهدين والاستجابة للذوق العام. لديّ ميل دائم للارتياب من هذا المنطق والتحفظ على خلفياته، لكن هذا المنطق يحكُمني مع الأسف وأنا مجبرٌ على أخذه بعين الاعتبار، مطالبٌ بالتعايش معه، وتجريب سُبُل التحايل عليه. وقد يكون التبسُّط مع اللغة إحدى حيلي في هذا الباب.

إن المعركة الحقيقية أشقُّ وأكثر تعقيدًا من أن نختزلها في غارات فيسبوكية. فالأجدى أن نطالب للمثقفين في هذا البلد – من حملة الأقلام ومنتجي الأفكار وصُنّاع الوجدان – بحقّهم المشروع في التواصل مع قرّائهم، الذين لا يقرؤون، عبر الوسيط المُتاح والأكثر ديمقراطية: التلفزيون. الأجدى أن نتعاون جميعا لبلورة لغةٍ قادرةٍ على النفاذ إلى قلوب الناس وعقولهم. لغة تختلف عن لغة الكتب والأطاريح الجامعية. لغة رشيقة لا تتعالى على المشاهدين. الأجدى أن نكثف مجهودنا التواصلي لجعل السؤال الثقافي والسجال الأدبي والموقف الفكري في المتناول. فعَبْر التلفزيون لا الكتب والندوات يمكننا أن نحوِّل الشأن الثقافي اليوم إلى شأن عام، وعبر التلفزيون والإذاعة قبل الصحف والمجلات يمكن للمثقف أن يساهم في خلق نقاش عمومي حقيقي في المجتمع.

وفي هذا الإطار، وبغاية تحقيق هذه الخدمة، كنا حريصين في “مشارف” على تحرير اللغة والخطاب من الأجهزة المفاهيمية ولغة التخصص والمرجعيات والإحالات والأسماء الطنانة التي يتغيّى منها البعض إبهار المشاهدين فيما هم في الواقع يعرقلون التواصل معهم ويدفعونهم دفعًا إلى تغيير القناة. نوقف التسجيل أحيانًا حينما نحس بأننا ابتعدنا عن الفكرة وبدأنا نبالغ في تأثيث لحظة النقاش بالمفاهيم والإحالات وأسماء المفكرين. الجمهور العام يريد أفكارًا واضحة. هو مستعد لأن يبذل مجهودًا على مستوى التلقي والاستقبال، على أن نبذل مجهودا نحن أيضا. إذ لا يعقل أن نطرد المشاهد خارج مدار النقاش بالإغراق في اللغة الأكاديمية أو بالانغلاق داخل عربية مُتفاصِحة بالغة الجزالة. من المهم أن نترك النوافذ مفتوحة على عربيتنا كي يجدها الجمهور قريبة في المتناول. إن اللغة الوسطى التي بلوَرْناها في هذا البلد، واشترك في صناعتها على امتداد عقود كل من أحمد بوكماخ وإذاعة الرباط وإذاعة طنجة ونشرات الأخبار على الأولى ودوزيم والصحافة المكتوبة، هي مكسبٌ علينا المحافظة عليه. هذه اللغة العصرية الرشيقة المُيسَّرة التي بلورها الإعلام ليست غريبة عنا. فقد خرجت من رحم العربية الفصحى، لكنها تطوّرت عبر الاحتكاك بالسجلات الشفهية والأمازيغيات الثلاث واللغات الأجنبية المتداولة في هذا البلد: الفرنسية والإسبانية على وجه الخصوص.

لا ضرر في أن يسترسل الكلام الفصيح ما لم يكن الاسترسال مفتعلا، ولا بأس من الاستطراد بلسان المغاربة، فقد يسعف القول الدّارج بما لا تستطيعه القواميس. لكن، لنتّفق على أن الدّارجة والفصحى والعربية الوسطى التي بينهما تبقى تنويعات داخل مكوّن واحد، ذاك أن لسان الشعب يبقى امتدادا للفصحى، فلا قطيعة هناك. وكلُّ تجريمٍ لمثل هذا التفاعل مصادرةٌ على المطلوب ومعاندةٌ للطبيعة: طبيعة اللغة ذاتها.

ولأن المسألة اللغوية كانت دائما في صلب اهتمام “مشارف”، فقد أنجَزْنا خلال السنوات الأخيرة عددا من الحلقات خصّصناها لهذا المحور. هكذا ناقشنا الأمن اللغوي للمغاربة وتوقفنا بشكل خاص عند قهر الفرنسية لغالبية أبناء هذا الشعب مع اللساني عبد المجيد جحفة. وناقشنا التأثير الموريسكي على “عربية المغرب” مع رجل الترجمة محمد الديداوي. توقفنا مع ظواهر سوسيولسانية وثقافية عدة مرتبطة باللغة كـ”ذكورية اللغة”، و”التلوث اللغوي”، و”الخلط المتعسف بين اللغات” مع أكثر من باحث أكاديمي. وناقشنا مدى عرقلة النحو وقواعده والإعراب وإكراهاتِه لتطوّر اللغة العربية مع اللساني محمد حفيظ. وطرحنا أسئلة التعريب وقضاياه مع عبد الفتاح الحجمري. وتوقفنا مع أحمد شحلان عند تجربة الدولة العبرية الفريدة في إحياء لغتها مقارنة مع تخبُّطِنا نحن. كما دافعنا عن العدالة اللغوية وحق المغاربة في العيش اللغوي الكريم في حلقة حول “العربية والسياسة اللغوية في المغرب” استضفنا خلالها الفقيه اللغوي والخبير اللساني الدولي عبد القادر الفاسي الفهري. بل حتى حينما كنا نحتفي في مشارف بعبقرية الدارجة المغربية، ونخصّص حلقات لأهم شعراء العامية كعبد العزيز الطاهري وأحمد لمسيح ومراد القادري ومحمد عزيز بنسعد، ونتوقف عند أسرار قصيدة الملحون مع عبد الصمد بلكبير وعبد الرحمان الملحوني وجمال الدين بنحدو، ونحتفي بشعر العيطة مع حسن نجمي، ونستقدم حكواتيا من قلب ساحة جامع الفنا مثل محمد باريس للدفاع عن الحكاية الشعبية وفنون القول، فإننا كنا ننتصر بذلك لأدب المغاربة وإنتاجهم الشعري الشفوي بلسان هو إلى العربية أقرب منه إلى أيّ لغة أخرى، وبذلك نساهم في قطع الطريق على بعض من احتجزوا دارجتنا رهينة لديهم وصاروا يدّعون حمايتها والذود عنها، فيما هم لا يدافعون إلا عن حقهم المقدس في الجهل باللغة العربية مع أنهم في الحقيقة بعبقرية دارجتنا المغربية أجهل.

من جهة أخرى، طرحنا مرارًا، وفي أكثر من حلقة، حاجة العربية المُلحّة إلى معجم تاريخي استغرق إنجازُه عند الانجليز أكثر من ستة عقود ولدى الألمان أكثر من قرن، ونحن ما زلنا حتى الساعة لم نبادر إلى هذا المشروع الحيوي التي لا غنى عنه لأيّ لغة عريقة تحترم تاريخها وحاضرها ومستقبلها. وها نحن مثلا نلجأ إلى القواميس الحديثة لشرح نعت الأمي الذي يصف الرسول الكريم غير واعين بأن هذا النبي أمي لأنه بُعِث في الأميين رسولا، والأميون بلغة ذلك الزمان هم غيرُ أهل الكتاب.

كما اعتمدنا “مشارف” منبرًا للمطالبة بإخراج أكاديمية اللغة العربية إلى حيّز الوجود. ولقد فوجئت حينما تدخل رئيس الحكومة في حفل افتتاح هذا المؤتمر مرددا شعارات طنانة، هي محل إجماعٍ طبعًا، والدليل تجاوبُ الحضور معها بالتصفيق الحار. لكن رئيس الحكومة لم يشغل نفسه بأمر التوضيح، كما لم يكلّف أيٌّ من الحضور نفسه عناء مساءلته: لماذا لم يتخذ أدنى إجراء في صالح أكاديمية اللغة العربية خلال السنوات الخمس الماضية التي قضاها على رأس السلطة التنفيذية؟ لماذا لم يتخذ أية إجراءات ملموسة تعكس وتترجم موقع العربية في الدستور وفي الوجدان، إجراءات تتجاوز التغنّي بعبقرية هذه اللغة من فوق منصات الخطابة، إلى تعزيز حضورها في الإدارة والفضاء العام؟ فالمطلوب من الفاعل السياسي اتخاذ القرارات لا الاكتفاء بترديد الشعارات. وحينما نطالب اليوم بإخراج أكاديمية اللغة العربية إلى حيز الوجود، فعلى الأقل لتتفاعل مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من داخل المجلس الوطني للغات والثقافات المُرتقب بما يحمي وينمّي ويعزّز استعمال لغتَيْنا الوطنيتين الرسميتين.

إذا كان إدوارد سابير يرى بأنّ اللغةَ تُشكّل الفكر، وإذا كان جون جوزيف يعتبر الهوية مسألةً لُغويةً في جذورها، بل ما الهوية إن لم تكن ظاهرةً لغويةً بالأساس، فإنا نعتبر النقاش الراشد حول المسألة اللسانية أساس كل ديمقراطية. وطبعا على المثقفين ألا يتركوا المقعد شاغرًا، فالتبرّم من المعرفة وعدم تحمل المسؤولية بالانخراط في النقاش الثقافي الجادّ يفسح المجال للغوغائية والغوغائيين ويتيح لهواة الاصطياد في الماء العكر فُرص الاستغلال السياسوي للمسائل اللغوية والزجِّ بها في أتون المزايدة ومعترك الفتنة، وهو ما يجب أن نتصدّى له جميعًا عبر الإذاعة والتلفزيون والمجلة والصحيفة والكتاب وفي كل مواقع المُمانَعة الثقافية.

لذلك لا يفوتني في ختام هذه الورقة إلا أن أسجل استغرابي ذلك الوابل من التصفيق الذي استقبلت به القاعة خلال حفل الافتتاح عبارة أديبتنا الكبيرة خناتة بنونة: (المُرتدُّ عن لغته كالمرتدّ عن دينه). هناك أصولية لغوية في مثل هذا الخطاب أخشى أنها تجافي روح العصر. وكلنا يعرف التأويل المتطرّف الذي يقول بقتل المرتد. إنّها الفتنة التي يجب الحذر منها، وهي أشدّ من القتل. بل إن المطلوب من مؤتمر علمي فكري كمؤتمرنا، هو التنبيه إلى خطورة هذه الهويات اللغوية القاتلة وإعمال النقد في مضامينها، لا إفساح المجال أمامها واحتضانها بالحفاوة والتصفيق.

واسمحوا لي أن أختم بالحديث الشريف: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَه”. كذلك اللغة، يسرٌ لا عسر، ولن يُشادّ اللغةَ أحدٌ إلا غلبَتْه.

* مداخلة ياسين عدنان خلال المؤتمر الوطني الرابع للغة العربية الذي نظمه الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالرباط (السبت 11 مارس 2017)

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات