هل الدارجة المغربية “لغة عربية لاحنة”؟

1٬694

عبد الله الحلوي

هل الدارجة المغربية “لغة عربية لاحنة” كما تدعي نخبة التعريبيين الإقصائيين من الذين هيمنوا بأيديولوجيتهم “اليعقوبية” في مغرب عهد الإستعمار وبعده؟ أليست الرغبة في اختزال الدارجة المغربية إلى لغة عربية شاردة محرفة هي التي دفعت أحمد بن محمد الصبيحي السلاوي إلى جمع “معجم” قدمه وأخرجه محمد حجي عنوانه “إرجاع الدارج في المغرب إلى حظيرة أصلة العربي” أهداه (الصبيحي) إلى “جلالة مولانا السلطان” (ويقصد به محمد الخامس) حاول أن يرجع فيه 982 وحدة معجمية دارجية إلى “أصولها العربية”؟

يستطيع كل عارف باللسانيات التاريخية أن يلاحظ الإعتباطية والتكلف اللذين ميزا جهد الصبيحي في محاولته لرد بعض كلمات الدارجة إلى أصول عربية كادعائه بأن أصل كلمة “أحواش” الأمازيغية فعل “حاش” (حاش الإبل أي ساقها) دون أن يبرر علاقة السياقة بالرقص، ودون أن يقدم دليلا تاريخيا أو لسانيا على هذا الإشتقاق. ومن طرائف ما ذكره الصبيحي أيضا أن كلمة “تاڭرا” التي تستعمل في بعض المناطق بالمغرب للدلالة على “الآنية” هي من أصل “تاجرة” لأن التجار وحدهم يستعملون هذه الأواني! وأن أصل “تاباكنّا” (بالأمازيغية: الغرض والمراد والفرصة يغتنمها الإنسان) التي تستعمل في بعض المناطق المغربية بمعنى “المرغوب فيه، المتعمّد” هو “تبارك الله”!

بمقابل ذلك نجد العمل المتزن الذي أنجزه محمد شفيق عام 1999 والذي عنوانه “الدارجة المغربية: مجال توارد بين الأمازيغية والعربية” الذي صحح فيه كثيرا من الأمثلة المثيرة للسخرية التي ضمنها الصبيحي في “معجمه”، وبين فيه بأسلوب شفاف الأصول الأمازيغية لأكثر من 3000 كلمة كانت أو لازالت مستعملة في الدارجة المغربية.

ورغم أن العديد من الوحدات المعجمية المستعملة في الدارجة المغربية هي بلا شك ذات أصل عربي (العربية الهلالية والعربية الأندلسية والعربية المعيارية المستعملة في النظام التربوي) ، فإن الحكم على الدارجة المغربية بأنها “عربية” بناء على “عربية” جزء من معجمها هو أشبه ما يكون بالحكم على الدارجة الجزائرية بأنها فرنسية بناء على “فرنسية” جزء كبير من معجمها، أو الحكم على المالطية بأنها إيطالية بناء على “إيطالية” جزء كبير من معجمها، أو الحكم على الإنجليزية بأنها لا تينية بناء على “لاتينية” جزء كبير من معجمها.

فلتصنيف لغة من اللغات، لا يكفي الإعتماد على ما يشترك فيه معجم هذه اللغة مع لغات أخرى، لأن المعجم سريع التغير وشديد التأثر بالمحيط، كما يتضح مثلا في اقتراض الدارجة المغربية المتزايد للمفردات الأجنبية التي تأتي مع مستجدات التيكنولوجيا المعاصرة (الپورطابل، بيپي عليّ، كيْشاطي، غادي نفلاشي الپيسپي، إلخ) بل ينبغي النزول إلى أعمق مستويات اللغة التي عادة ما تقاوم التغير وتعاند تأثير المحيط، وهي مستويات البنية الصوتية والبنية الصرفية والبنية التركيبية.

فمن الأمور التي يجهلها الكثير من الناس أن الدارجة المغربية تستعمل نظاما صوتيا يكاد يتطابق مع النظام الصوتي للأمازيغية ويبتعد كثيرا عن النظام الصوتي للعربية. من ذاك مثلا أن الدارجة تميز، كالأمازيغية، بين الأصوات الإنفجارية المبسوطة والمدورة. فكلمة “إكتي” بالأمازيغية” تعني “حار” أما كلمة “إكتي” بكاف مدورة (بإدارة الشفتين عند نطق الكاف) فتعني “تذكر”. وكلمة “أمدوكال” (صديق) تنطق بكاف مدورة، أما جمعها “إمدوكالن” فينطق بكاف مبسوطة. ونفس الشيء ينطق على الدارجة المغربية. ف”دكر” بدون استدارة هي فعل “ذكر” في الماضي الغائب المذكر المفرد، أم “دكر” بالإستدارة فهي صيغة الأمر لنفس الفعل. و”الڭلسة” بدون استدارة تفيد معنى “الجلوس”، أما “ڭلسة” بالإستدارة” فمعناها “مكان جلوس المكلف بالحمام الشعبي”. و”قتل” بدون استدارة فهي صيغة الماضي لفعل “قتل”، أما بالإستدارة فهي صيغة أمر.

ومن ذلك أيضا أن الصائت المشموم يلعب دورا في تغيير معاني الكلمات في الدارجة المغربية والأمازيغية كليهما مما لا علاقة له بالنظام الصائتي للعربية. فكلمة “فرح” تعني العرس إذا وضع الصائت المشموم بين الفاء والراء، بين تعني فعل “فرح” إذا وضع بين الراء والحاء. وإذا وضع بين الدال والراء في “درس” فإن الكلمة ستعني إسم “درس”، أما إذا وضع بين الراء والسين فإ نها ستعني فعل “درس”.

ومن ذلك أيضا أن الدارجة والأمازيغية لا تقبل الهمز إلا في أول الكلمات (أرڭاز،أمل) ولا تقبلها في وسط الكلمة وآخرها (ومن هنا حذف المغاربة للهمز في آخر الكلمات ذات الأصل العربي وآخرها: الفأر ـ الفار، الحناء ـ الحنا).

ومن ذلك أيضا أن الدارجة والأمازيغية كليهما تقبلان اجتماع الصامتين، كما في فعل “إكلا” الأمازيغي حيث يجتمع صامت الكاف بصامت اللام، وفي فعل “كلا” الدارجي حيث يجتمع نفس الصامتين.

ولتبيين بعض مظاهر أمازيغية صرف وتركيب الدارجة للنطلق من الجملة التالية:

راه شافو الدراري راسهوم فواحد المرايا.

لنحلل هذه الجملة التي جمعت فيها خصائص تركيبية متعددة من اليمين إلى اليسار.

“راه” رأس وظيفية تعبر عن “الإثبات” وترتبط بلفظة إشارية أخرى وهي “را هو”. مقابلها الأمازيغي السوسي هو “هان” التي تستعمل أيضا للإثبات “هان زريخك” (لقد رأيتك) والإشارة كليهما (هان أنير مني خ يتهضار). ولا وجود لمثل هذه الرأس الوظيفية الثنائية الإستعمال في العربية.

وهذا ما يفسر وجود جمل الفواعل الإشارية في الدارجة والأمازيغية وعدم وجودها في العربية:

هان أنير ماني خ يتهضار.

راهو أنير فاين كيلعب.

هاهو أنير أين يلعب. (جملة لاحنة في العربية).

يتطابق الفعل “شافو” مع الفاعل في الشخص والجنس والعدد، ولا يتغير هذا التطابق إذا غير ترتيب الفعل والفاعل (الدراري شافو، شافو الدراري). ونفس القاعدة تنطبق على تطابق الفعل بالفاعل في الأمازيغية (دّان إفراخن، إفراخن دّان). أما الفعل في العربية فلا يتطابق مع الفعل إلا إذا تقدم الفاعل فكان مبتدأ (رأى الأولاد، الأولاد رأووا).

تختلف اللغات عن بعضها البعض في أمور من بينها نوعية العوائد التي تستخدمها كل لغة. فالفرنسية تستعمل se والإنجليزية self والنرويجية sig ولصينية zji واليابانية zibun والعربية “نفس” (كما في قولنا “انتقد جمال نفسه”). أما الدارجة المغربية والأمازيغية فيجمع بينهما أنهما تستعملان “الرأس” في موقع العائد (فتقول: زريغ إخف إنو، شفت راسي). ويجمع بين هذين اللغتين أيضا أن كليهما يستعمل العائد في موقع الفاعل عندما يستعمل مع فعل “الإعجاب” (إعجبيي إخف إنو، عجبني راسي) مما لا يجوز في العربية: (لا نقول: أعجبتني نفسي).

تستعمل الدارجة المغربية العدد “واحد” للتعبير عن التعريف فنقول (واحد الراجل، واحد تالاتة دالرجال، واحد ربعين مرا …)، وهذا عين ما تفعله الأمازيغية التي توظف العدد “يان” واحد) في التنكير: (يان ؤرڭاز، يان سين إرڭازن …). أما العربية فإنها لا تستعمل هذا الأسلوب التركيبي (فلا نقول: واحد ثلاثة رجال!).

تستعمل الدارجة المغربية والأمازيغية كليهما ثلاثة أزمنة صرفية (بالإضافة إلى صيغة الأمر) وهي: الماضي والمضارع والمحايد: مثال الماضي: كلا/إشّا. مثال المضارع: كاياكل/أر إشتّا. مثال المحايد: ياكل/إشتّا. هذا النظام الثلاثي يميز الأمازيغية والدارجة المغربية بشكل واضح عن العربية.

ولو سمح لي المقام لاسترسلت في ذكر أمثلة أخرى تبين بأن الوعاء الصرفي والتركيبي والصوتي للدارجة المغربية أمازيغي لا ينازع في أمازيغيته إلا جاهل أو معاند. من ذلك تركيب الجمل المبأَّرة، و استعمال المصدريات، واستعمال أدوات الإستثناء “غير” و”أبلا” في الجمل المنفية، وصيغ “أفعْلال” (مثل: اللقب “زروال” المشتقة من “أزروال” التي معناه الأحول، و”بروال” من “أبروال” تافه الكلام، و”أبوحاط” الكذاب التي منها “البوحاطي”)، والكلمات التي تغيرت صيغتها ك”ؤبسيل” التي تحولت إلى “باسل”، والتي تمزغت صيغتها ك”تاحراميات”، والتي حور معناها ك “فجج” التي تعني “تهلل” وسلّْك” التي تعني في تاقبايليت “أنقذ”، وغير ذلك كثير.

خلاصة

لقد آن الأوان للمغاربة، كل المغاربة أن يعيد اكتشاف هويتهم الجذر ليس فقط في الأمازيغية، بل في الدارجة المغربية أيضا.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات