لغتنا العربية…أنت مِلْكُنا أيضا

856

لحسن أمقران

لا يختلف عاقلان حول القيمة الجوهرية الكبرى للغة في حياة الشعوب، فاللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة، ولا يمكن تصور فكر في غياب اللغة. اللغة معجزة الفكر الكبرى والأداة التي تحمل الأفكار، لتكون بذلك الركن الأول في التفكير. اللغة وعاء المعرفة وهي التي تنقل المفاهيم، إنها الوسيلة الأولى للتواصل والتفاهم والتخاطب وبث العواطف والمشاعر، أي أن التقارب والتشابه والانسجام بين الناس في غيابها يتعذر أو يكاد. إن اللغة بهذا المعنى ترسانة ثقافية تبني الأمم وتحفظ لها كيانها.

سياق هذه المقدمة، كون الثامن عشر من شهر دجنبر من كل سنة مناسبة للاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، هذا الحدث الذي يجدر أن نستحضر فيه فضل الإسلام على هذه اللغة، فلولاه ما دامت واستمرّت، ثم نستحضر أيضا فضل هذه الأخيرة على الفكر الإنساني كغيرها من لغات العالم التي لا يمكن تجاهل دورها في تطوّر الفكر . اعتدنا أن نسهب في هذا اليوم في الحديث عن تاريخ لغة “الضاد”، عن الخوض في فرص تطورها ومعيقات تحققه، عن التباهي بأعداد الناطقين والتفاخر بالمقبلين على تعلّمها، تعوّدنا على التنبيه إلى ما يتهدّدها، على الإشادة بمزاياها وإمكانياتها.

في هذه المناسبة تعطى فيها الكلمة للأدباء واللسانيين والمفكرين للحديث عن اللغة العربية وشاعريتها، إمكانياتها وخصوصياتها، يوم يتحيّنه الفقهاء والشيوخ ليذكروننا أن اللغة العربية لغة “اصطفاها” الله و”فضلها، وأنها من الدين، “ومعرفتها فرض واجب، فإذا فهم الكتاب والسنة فرضٌ – ولا يفهم إلا باللغة العربية – ومالا يتم الواجب إلا به، فهو واجب”، كما قال ابن تيمية، كما أن الإمام الشافعي في معرض حديثه عن الابتداع في الدين يرى أن “ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب”، أبعد من ذلك، قال الحسن البصري في المبتدعة “أهلكتهم العجمة”.

كلها إذا مظاهر سليمة وضرورية – وإن كانت في جزء منها تحتمل النقاش الهادئ – لصون اللغة العربية وتشجيع الناس على الإقبال عليها في زمن شبح العولمة الذي يخيم على الأفكار قبل اللغات، وبالتالي الرفع من نسبة الإقبال عليها واستهلاكها بشكل يحميها من الاندثار والضياع، ولن يجادل عاقل في حق العرب وغيرهم من العجم المتيمين بلغتهم، في رصد إمكانياتهم المادية والعلمية لخدمة هذه اللغة عبر تطويرها، والعمل على ما من شأنه أن يساعد على تقدمها.

لابد أن نشير إلى أن الفضل في استمرار اللغة العربية يعود إلى الدين الإسلامي والقرآن الكريم بالخصوص، وهذه حقيقة لا يمكن التنكر لها، فلولا هذا الأخير-القرآن الكريم- لكانت اللغة العربية في عداد اللغات المندثرة التي لم يعد لها أي وجود. من هنا نفهم لماذا يتشدد بعض المشايخ في مسألة اللغة العربية في الطقوس الدينية. فالهاجس القومي الضيق واللغة العربية كغاية، هو الذي يحرك أغلبهم، وما الدين الإسلامي إلا وسيلة تبررها الغاية المضمرة. لذلك نجد هؤلاء يتعمدون الاستدلال بأحاديث تتحدث عن “قدسية” اللغة العربية وكونها لغة “أصحاب الجنة” دون كثير مراعاة وتمحيص لدرجة صحة الحديث من حيث سنده ومتنه أو سياق وروده.

من جهة أخرى، نجد أن من بين أهم الذين خدموا اللغة العربية نحويا ولسانيا من غير العرب، فنجد بصمة الفرس والأتراك والأمازيغ بادية للعيان. ولنا في المغرب خير مثال، من سيجادل فيما أسداه اللساني الأمازيغي المرحوم محمد الأخضر غزال لتطوير اللغة العربية التي أحبها فوهبها طاقته وجهده؟؟ من سيشكك فيما قدمه ابن آجروم محمد بن محمد بن داود الصنهاجي للنحو العربي؟؟

إن اللغة العربية ليست حكرا على العرب والمستعربين، بل هي فكر إنساني تشترك فيه البشرية جمعاء، وعلى وجه التخصيص، تلك الشعوب التي توظف هذه اللغة بغض النظر على أجناسهم وأعراقهم، فحقّنا في اللغة العربية –نحن العجم- لا يقل عن حقّ العرب والمستعربين فيها، فهي جزء منّا وهو من مصادر وأسرار استمرارها، ونحن جزء منها وهي الحقيقة التي مهما حاول متعصبوها وغيرهم نكرانها، هي قناعتنا الرّاسخة ولسنا بقولنا هذا نحابي أو نتودّد إلى أي طرف كان.

إن من دواعي فخرنا أننا – كأمازيغ عجم- نتقن لغة العرب وغيرها، ونسعد لكوننا استطعنا تجاوز منطق التعصب اللغوي الذي يسيء إلى أمم يفترض أن تكون كونية في اختياراتها، و تجاوزعقدة التفوق وهلوسة القدسية المزعومتين اللّتين تحرمان أصحابهما من انفتاح حقيقي على الآخر، ومن دواعي اعتزازنا أننا عرفنا كيف ننهل من لغات غيرنا ونتعلمها، وصدق من قال: “رُبّ ضرة نافعة”.

إذا كان العجم قد خدموا اللغة العربية بوصفها لغة عقيدتهم حينا ولسان من يشاركونهم الوطن أحيانا أخرى، فإن هذه المعادلة لا تقبل التبادلية حيث – حسب علمي المتواضع – لم يسجل التاريخ للعرب أن عمدوا إلى دراسة وتحليل أو حتى احترام لغات تعيش على أرض “عالمهم” العربي المفترض كالكردية والأمازيغية أو غيرهما. بل أسوء من ذلك ينظرون إلى هذه اللغات بعين الدونية والانتقاص، في تناقض صارخ مع منطوق الكتاب والسنة – بوصفهما أهم مصادر التشريع الإسلامي – اللذين يقرّان التنوع والاختلاف.

لنقل وبكل أسف ممزوج بالتذمر أن الأنانية المفرطة وعقدة التفوق أعمت عقول الكثيرين من العرب ومن والاهم من المستعربين، فنجدهم يكيلون بمكيالين في هذا المجال، تجدهم يعملون ويجدون في تطوير اللغة العربية ولا يكلون من الإشادة بأهلها والتنويه باعتمادها، فينظمون لقاءات كبرى لبث الحياة في هذه اللغة ويصرفون الملايير للدود عنها من شبح الاندثار، وفي المقابل يواجهون من يسعى بإمكانياته البسيطة والفردية إلى نفث الغبار عن لغته بشتى ألوان التخوين والتكفير والعمالة والرجعية والطائفية والعنصرية وغيرها من التهم التي أكل عليها الدهر وشرب. أليست هذه ازدواجية المعايير؟؟ أليس من حق اللغات الأخرى والتي تعيش في “وطنهم” العربي؟؟ ألا يجدر بهؤلاء التمييز بين الحق في الذود عن اللغة العربية وواجب احترام لغات الآخرين خاصة أنهم يقتسمون ماء وهواء وتربة هذا الوطن؟ متى سيكف هؤلاء عن اعتبار اللغة الأمازيغية ضرّة اللغة العربية؟

من جهة أخرى، إن فرحتنا كانت لتكتمل لو أن المنظمات الأممية وعلى رأسها اليونسكو خصّت اللغة الأمازيغية –أيضا- بيوم عالمي أسوة بشقيقتها – مجالا لا لسانيا-، لفتا لانتباه العالم إلى ما يتهدد لغة تعد من أقدم اللغات على البسيطة من اندثار وانحسار، رغم كونها لا تزال تقاوم الطمس والإقبار، وقبل الحديث عن اليونسكو، يفترض أن يتخلص مسؤولو المغرب ومعهم باقي مسؤولي الأقطار المغاربية، الموطن الطبيعي للأمازيغية، من عقدتهم ويُقبلوا على اللغة الأمازيغية قدر إقبالنا على اللغة العربية ويختاروا يوما وطنيا للاحتفاء بلغة الزاي.

إننا نقول ما نحن بصدده، ليس من باب معاداة أو شحناء، ولكن من منطق ضرورة الإنصاف والإيمان الراسخ بالحق الطبيعي لأية لغة في أن تعيش وتستمر، لا نريد أن يفهم من هذا أننا ضد اللغة العربية، فنكرر أن اللغة العربية جزء من لساننا وتفكيرنا وثقافتنا، بها تعلّمنا، -وإياها وبها نُعلّم- ولنا فيها مآرب شتى، لن نسمح لأنفسنا بالتهجم عليها، لكن في المقابل، سنتصدّى لكل من يسعى إلى إقامة اللغة العربية على أنقاض لغات أخرى واللغة الأمازيغية بشكل أخص، سنظل شوكة في حلق المدافعين عن اللغة العربية المطالبين بحمايتها بأساليب لاعقلانية وبمنطق اليعقوبية الإقصائية، سنجثم على صدور الذين يتجاوزون حدود المطالب والدفاع المشروع عن لغتنا العربية وفق منهج يقوم على استئصال ما دونها من اللغات، لغات من المفترض أن تكون محل فخر للإنسانية وبالتالي محل إجماع أممي حول ضرورة حمايتها وتطويرها. في الأخير، إن اللغة العربية ومعها باقي اللغات تراث إنساني يلزمنا الاعتزاز به وصيانته من الضياع.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات