وداعاً لغتي
محمد صلاح بوشتلة
جَربوا على المسكين كل العقاقير وكل الأدوية المستوردة وحتى الأعشاب العِطرية المحلية، البرية منها وغير البرية، ولا شيء نفع معه ولا داواه، أما الكي فقدماه الهزيلتان والمشققتان لم تعد تحس به، فما من وصفة سمعها، أخبره بها مجرب أو مدع حكمة وطب إلا وجربها، إما شربها على الريق، أو قبل النوم الذي لم يخرج منه يوما، المهم بلع ما جادت به قرائح الصيادلة والعطارين، لكن ما لا يفهمه الكثيرون سامحهم الله، هو أنه ربما هو أصلا ليست له رغبة في التشافي، وإلا فأين ضاع جهد عشرات الوزراء الذين أتوا من تخصصات كثيرة، ومن مراحل عمرية مختلفة ليعالجوه؟ فقد يكون المسكين مصابا باضطراب أو اعتلال نفسي يحبذ فيه أن يرى نفسه يتعذب ويتعذب، ليرى الآخرين مهتمين به أكثر، يحيطونه بعنايتهم وزياراتهم المُعَوَّض عنها، فكلما زادت أمراضه وعلله زادت عنايتهم به واهتمامهم لربما، ومع كل هذا، وخلفه، زادت الصفقات والمشاريع التي تدور معها حركة الاقتصاد وعجلته، وتذر معها أيضا أموالا في جيوب المسؤولين على صحته، إنها الحقيقة، إنه رجلٌ مريضٌ وعليلٌ يستغل مرضه ليستجدي عطف الناس بعاهاته ويستجدي تضامنهم.
ها نحن نقولها للمرة الخامسة والسبعين بعد المئة الألف، ” التعليم يا ناس مريض، مريض، والله مريض.”، وعن قريب سيكتب لكم وصيته، إلا أنه وبالرغم مما قلناه عنه، يبقى فيه شيء من ضمير حي، وما يزال فيه بعض من الشهامة، لهذا لا تخافوا على فلذات أكبادكم، فقبل أن يلبي منادي ربه، سيوصي بأبنائكم خيرا، وسيأخذهم واحدا واحدا إلى مراكز التأهيل والتكوين المهني التي وعدكم بها ” الداودي”، لكنه لن ينسى أن الجميع خانه، وأنه لم يخن واحدا منكم، والله على ما يقول شهيد، الجميع خانه: حكومة ونقابات وجمعيات الآباء ووزارت ومجتمع مدني، واللائحة تطول، المهم أنه يعرفكم واحدا واحدا، بوجوهكم وظهوركم، وسيحاسب الجميع يوم القيامة، وسيقف منتصبا على الصراط، وسيلقي بكل هؤلاء الذين يتكررون على زيارته بــ ” باب الرواح “، وقدموا له وصفة أضرت به، وأمرضته، فآلام بواسره التي عانى منها طوال صبره علينا، تستحق لمن سببها له جهنما أكبر من جهنم دانتي وأبشع وأبشع.
قبل أن نتكلم على بعضٍ من تلك الوصفات، أعتذر لكم على هذه المقدمة التي سخرت فيها من حال التعليم، فهذا القطاع أصبح أصلا موضوعا جيدا للسخرية والضحك، وعلى ذكر التعليم والضحك، أود أن أسألكم على من تضحك هذه الحكومة؟ فنفس الحكومة التي استصدرت اليوم مذكرة لبدء تدريس مادتي الرياضيات والعلوم الفيزيائية باللغة الفرنسية بداية من الدخول المدرسي المقبل، هي نفسها التي كانت أصدرت ذاك القرار المزلزل، والمضحك المبكي في نفس الوقت والذي صدر من مكتب الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان السابق، المؤكد لضرورة الإدلاء بشواهد طبية محررة باللغة العربية أو الأمازيغية بدل لغة الإفرنجة! في لعبة تظهر لكم مدى قذارتها، وفي معادلة يظهر من أول وهلة أنها غير متكافئة، مؤامرة يخوضها أبناء «الماما فرنسا» لكن هذه المرة على يد حكومة ملتحية، في محاولة جهنمية لإقبار الفصحى وتسميم دمها بفصله عن عروقها، باستبعاد اللغة العربية من التعليم شيئا فشيئا، والاحتفاظ بالفرنسية لتصير اللغة النخبوية التي نشرح ونفهم بها العلوم الحقة وفيزيقا الكون في حين لا يبقى للعربية من دور إلا الحديث عن ميتافزيقا الأكوان عن عالم البرزخ والموت وما بعد الموت، عن القبر وعذاباته، وعن الثعبان، ونكير ومنكر، وعن الجنة ونعيمها، وعن النار وشرورها.
إنها مذكرة تختزل موقفنا من لغتنا، وتمزقا غبيا وليس غريبا في علاقتنا بمأوى الوجود، كما يسميه هولدرلين من قبل وكما تلقفه هايدغير فيما بعد، مذكرة تذكرنا أن لا مشروع ثقافي لهذه الحكومة، ولا حكمة لها أصلا، فأن ترتهن الفيزياء والرياضيات بالفرنسية، معناه أنك ترهن فتاوى فقهاء غرف النوم ومشاكل ما تحت شراشف الأسِرَّة، ومنافع الفاكهة الجنسية باللغة العربية، فيتبلد تصورنا للغة، فيٌحسم النقاش من أوله، ويكتم بذلك صوت العقل فينا، ويختصر معه تاريخ العربية منذ عهد المترجم إسحاق بن حنين إلى مترجم كتب الرياضيات السلطان محمد الرابع في فتاوى ممسوخة ليرسخ في أذهاننا تلك اللازمة الانهزامية والمتمثلة في كون اللغات اللاتينية هي لغات العلم والفيزيقا ( علوم الشجرة الديكارتية.).
دعوة مخجلة هي إذن لا حياء فيها، دعوة إلى شيوعية الفرنسية بيننا، فتكون متاحة للأطفال الذين يعيشون في وضعية صعبة كما هي متاحة للذين ولدوا بملاعق من ذهب في أفواههم، وبالتالي نكرر نفس أخطاء الجانب الآخر من عالمنا اليعربي الذي استبدت الإنجليزية بأهله ومؤسساته التربوية، حتى إن البيوت الخليجية صارت تستنكف عن تشغيل خادمات لا يجدن الإنجليزية مهما بلغ إتقانهن للعربية، وبالتالي إنتاج أطفال بالكاد يتحسسون العلاقة التي تجمعهم بلغتهم الأصل، فيمسي الطفل دون وعي يستشهد ببيت شعري للعم موليير أو بجملة لفولتير بدل أن يستحضر بيتا راقيا للنفري أو قصة جميلة لجلال الدين الرومي.
تفاعلات قرارات كهذه ستتعاظم وتكبر وتكبر، لتجنى على تاريخنا وعلى هويتنا، سنصبح قرودا في أسوء حال، وقرودا أيضا في أحسن حال، لكنها قرود تؤدي دور الببغاوات، معيدين تجارب أمم بكاملها، أمم اجتاحها الاستعمار اللغوي فجعلها في خبر كان، سنكرر وفي هدوء واقتناع تام تجربة السكان الأصليين لأمريكا ونيوزلندا وأستراليا والقبائل الإفريقية، ولأبناء إقليم الكيبك، في نماذج كثيرة تعطي أدلة تاريخية على أن لغة المستعمر هي من تغنمنا؛ أما نحن فنفقد لغتنا الأصلية، وبالتالي المرجعيات المؤطرة لهويتنا، فالإنسان وحده من يملك هوية، لأنه وحده من يملك لغة كما عبر عن ذلك دوسوسير منذ عقود.
بدل البحث عن حلول للخروج بلغتنا من حالة المرض، عبر ترجمة وتعريب العلوم كما أي شعب يحترم لغته، عبر التعامل المباشر مع علوم لغة في وضعية مريحة لترجمتها إلى لغة في وضعية صعبة هي بالطبع لغتنا العربية، تبحث حكوماتنا عن الحلول السهلة التي تداوي لغة أخرى وتنكأ جراحات لغتنا، لذا علينا أن نفهم ونعي جيدا أن الفرنسية لا تحتاج إلى من يعينها على البقاء بيننا، ولا تحتاج إلى من يدافع عنها بيننا، وحياتها لا تعنينا في شيء، فمن يحب ستندال أو فلوبير في لغته الأولى لا بد له من الرجوع إلى الفرنسية، أما من يريد الاطلاع على مستجدات نظرية الأوتار الفائقة فلا الفرنسية ولا العربية فيهما ما يشبع نهم المطلع فما بالك بالدارس، فإن كان اختيارنا للفرنسية رغبة في العلم لا في رضا ماما فرنسا عنا، فقد أخطأنا خطأ فادحا لا يغتفر، وإن كنا أردنا مساعدة الفرنسية للبقاء على قيد الحياة على حساب مستقبل أطفالنا فيجب أن نعلم أنها لغة مدعومة بجهزوت ثقافي مكون من قرابة 1100 مركز ثقافي مجهز بآخر الكتب والأدوات التربوية، موزع على 140 دولة في كل أنحاء العالم، يفرخ كل سنة آلاف الطلاب الذين يفكرون بلغة هيجو، وإنما الذي يحتاج إلينا كي ندافع عنه هو تلك السيدة الشريفة العفيفة التي وسعت كتاب الله لفظا وغاية، ورميناها نحن بالعقم وليتها عقمت فلم تجزع لقول عداتها من بني قومها من المنتسبين إلى أقوام غير أقوامهم.
بحق، لقد أمست العربية مجرد بيدق على رقعة الشطرنج، تعيش وتموت بإرادة اللاعبين، فكل حكومة تأتي لتلعن أختها باسم الدفاع عن الهوية، فتصدر قرارات في مقام الأوهام لا أحد يعمل بها ولا أحد تلزمه، فيصبح حالها معنا كحال مهرج مات في منتصف العرض لا نعرف معه أنضحك أم نبكي؟ آه ما أشبه حالنا بقصة خنفس ” كافكا ” التي يصور فيها إنسانا أخذه النعاس واستيقظ ليجد نفسه خنفسا ضخما، لقد تحول، فكانت لهذا التحول مشكلاته العصية العسيرة، فكيف يسير وأي نهج يسلك هذا الإنسان الخنفس، بحيث يرضى عن سيره وسلوكه؟ أيجعل معياره حياة الخنفس أم يجعله حياة الإنسان؟ فنحن بعد سبعة قرون عجاف من سبات حالم، استيقظنا لنجد أنفسنا كائنات أخرى، هويتها الجهل والتخلف؛ فكانت المشاريع الكبرى لإعادة القاطرة إلى سكتها. وما مشروع محمد الرابع بالمغرب لإعادة الوعي إلى جسد اللغة العربية إلا مثال على ذلك، من خلال ترجمته الذاتية لكتب نيوتن الفيزيائية، وإشرافه المباشر والجدي على ترجمة أهم الكتب الرياضية والهندسية الأوربية، هذا المشروع الذي وصل تأثيره إلى الهند، إلا أنه تم إفشاله بعد نكبتي تطوان وإيسلي، لأجل أن تسود الفرنسية كلغة للعلم والقراءة والفهم والإفهام، ولتستمر معاناة العربية مع أبنائها ولنفقد أي أمل في أن تصبح العربية لغة للعلوم الحقة، خاصة ونحن نعرف -ويا للأسف- شرف نسب هذه اللغة على لغة موليير التي كانت لهجة الشارع على ألسنة العوام، ولم يجرؤ أحد على أن يكتب بها إلا بعد 1641 من ميلاد المسيح حين ألف صاحب الكوجيطو كتاب التأملات في الفلسفة الأولى.
ها نحن ندور ندور ويا للأسف نرجع إلى لغة موليير، نبتعد ونبتعد وحينما نقول أننا في النقطة التي بلا عودة، نرجع من جديد كما بدأنا أول مرة إلى صدر ماما فرنسا، وكأن لا مهرب منها إلا إليها، فما إن نقول أن ساعة حزمها حقائبها من ألسنتنا ومدارسنا ومن عقولنا قد دقت وساعة رجوعها من حيث أتت قد آذنت بدعوى مزيفة أننا أمسينا سادة أنفسنا حتى تعود من جديد أشد شراسة وأكثر قوة، إنها قدر ألسنتنا وقدر ثقافتنا المقدور، قدرنا أن تكون لغة أطفالنا ولغة تعليمهم، واللغة التي يعتبرونها وسيعتقدون أنها أداة للتحديث ولإخراجنا من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وأن بالفرنسية وحدها سنبدأ بإنتاج المكوكات الفضائية والسيارات الجميلة والإبر وقنينات الزيت البلاستيكية وأيضا جوارب تحمينا البرد، وجلابيب بجيوب ودون جيوب أيضا.
حذار قد يجعلونك تتعاطف مع لسان الماما فرنسا، بأن يبدأ بأن يستشهد لك أحدهم بأقوال هي أقرب إلى سفسطة منها إلى روح المنطق والعقل، فيستنجد بجملة للجزائري كاتب ياسين مثلا:” اللغة الفرنسية هي غنيمة حرب “، وبجملة أخرى لأحد الفرنكوفونيين الآخرين، ليذلل لك إذلالك للغتك، على طريقة من يدس السم في العسل، على كون التحاور بالفرنسية والتكلم بها التعليم بها أيضا ـ في مرحلة أخرى متطورة من السفسطة ـ لا يشكل انتقاصا من هويتك ولا حتى ضربا فيها، لكن أوليس صاحب الجملة الأولى هو نفسه من وجه أكبر انتقاد إلى روايته ” نجمة ” التي تعتبر من أروع ما كتبته تفريخة فرنسا في الجزائر من كون روح روايته الجزائرية قتلتها اللغة الفرنسية التي كتبت بها.
أبدا لم تكن الفرنسية غنيمة حرب بالنسبة إلينا ولن تكون أبدا، بل هي، وفق التصور الخلدوني، دليل على التبعية والانتكاسة الفكرية للمغلوب، فالأخير مولع بتقليد الغالب في المأكل والمشرب والملبس، وأي حديث عن كونها سبية من سبايا الاستقلال هو محاولة لغواية بئيسة، يراد منها ذر الرماد في عيون الحالمين والمهزومين، فنحن من قدم إلى فرنسا غنائم كثيرة وأناسا خدموها ولا زالوا من طينة محمد خير الدين والطاهر بن جلون وأمين معلوف وآسية جبار واللائحة أطول من لائحة أسماء من خدموا العربية، وبالتالي نكون نحن من ضخخنا دماء وسنوات جديدة في جسد وعمر الفرنسية الآيلة للاندحار والانحسار، وهذا ما آمن به الفرنسيون أنفسهم منذ عهد ميتران.
في الأخير يجب أن نقول أنه ما يتوجب لإصلاح تدريس الفيزياء والرياضيات ليس في الأصل مشكلا لغويا، فالمادتان أصلا تعتمدان على لغة أخرى غير لغتنا الطبيعية، وإنما على لغة من رموز وشيفرات وأرقام، وإنما الأقسام في هذين المادتين، وبدرجة أكبر الفيزياء إنما تحتاج إلى معدات للتجارب أولا، فمختبرات الفيزياء في مؤسساتنا بالكاد تجد فيها آليات للتجريب وآلات لرصد، ومعهما بعضا من الملح، وكثيراً من الــ H2O ، فما لا يعلمه السيد الوزير أن درس الفيزياء لا يحتاج فقط إلى طباشير، وممسحة، وسبورة بل وإلى مختبرات ومواد تجريبية أكثر من حاجته إلى الفرنسية، وفي حاجة إلى أقسام بمعدل طبيعي من التلاميذي يمكن معه شرح التجارب للجميع ومشاركة الجميع الفعالة في تطوير التجربة وفهم مراحلها، ببساطة لأن القسم الذي يتجاوز عدد تلامذته الــ 50 تلميذا، أي تجربة فيه ستتحول إلى كارثة بيداغوجية، فإشعار عود ثقاب للقيام بتجربة ما قد يكون سببا للقضاء على آخر ذرة أوكسجين في قسم يعاني أزمة توزيع سَكَني، والأرقام تقول أن15 ألف قسم من أقسام الوطن في الموسم الدراسي الحالي تضم بين 41 و45 تلميذا، لذا فلو كان يهمكم إصلاح تعليم المادتين لكان منكم أن تخليتم عن مخصصات التعويضات التي بالغتم في تقديمها لبرلمانيي أحزابكم، والتي تقاعد أعضاء مجلس النواب، والتعويض الجزافي عن استعمال السيارة الشخصية لحاجيات المصلحة، والتي تتوزع على ما يقارب 20 مليار سنتيم؛ 17 مليار سنتيم للتعويضات، ومليار وربع المليار للتقاعد، و200 مليون سنتيم للسيارات. لتخليتم عن كل هذا لأجل أن تتركوا بعضا مما يمكن به أن نصلح حال مدارس الوطن، لكن المسألة تتجاوز مسألة اللغة أصلا، لتتطور إلى مسألة رمزية تمرر فكرة ما تولِّد هي الأخرى شعورا يتحول إلى عقيدة وعقدة راسخة وهي دونية لغتنا أمام شرف لغة أخرى.
ليعلم القائمون على إصلاح تعليمنا أنه ما من صاحب عقل يمكنه أن يتصور أنه يمكن لأمة ما من الأمم أن تحقق ثورة فكرية كاسحة لجبال جليد التخلف والنكوص والمرض إلا أن تكون بدايتها نظرة عميقة وعريضة إلى اللغة في علاقاتها بالإنسان وبروحه وببقية معانيه، فهي مرقاة إلى السماء أولا وأداة للاتصال بالواقع ثانيا، وليس يمكن الحديث عن حضارة دون الوقوف عند لغتها، فالأخيرة كانت دوما ولا تزال ربيبة الدين ومنافسته الوحيدة في حد الإنسان والتعريف به مهما قيل ومهما كان، والله أعلم.
تعليقات