مستقبل البحث العلمي في أفق مشروع إصلاح منظومة التربية والتعليم

566

عبد الله بن أهنية

The future of scientific research in the horizon of the reform of the educational system.

تكمن أهمية البحث العلمي في كونه المدخل الصحيح والسليم إلى الإصلاح الحقيقي المنشود لمنظومة التربية والتعليم بعد اصلاح جذري للمدرسة العمومية وتحديث جميع مناهجها ومقرراتها الدراسية ومرافقها وفضائها الداخلي والخارجي، كما يعتبر البحث العلمي الغاية القصوى للإنتاج الفكري الذي تتجه إليه أنظار مؤسسات التعليم العالي والجامعات كونه القاطرة الفعلية للتنمية الاقتصادية والصناعية والاجتماعية والثقافية للمجتمع. وفي هذا الصدد يرى الباحث أمجد قاسم نقلا عن “مجلة الفيصل العلمية”، على سبيل المثال، بأن البحث العلمي يعد “المحرك الفاعل والأساسي للتقدم والتطور في كل المجتمعات ولجميع قطاعات الدولة (الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والتربوية، والثقافية)، ولا يمكن أن تزدهر العلوم والتقنية في أي مجتمع من دون بناء قاعدة أساسية وفاعلة لأنشطة البحث العلمي الهادف لدفع عجلة التنمية والتطور”. وبما أن الأمر كذلك، فيمكن القول بأن البحث العلمي يعتبر المعيار الحقيقي أو الفيصل بين الدول المتقدمة والدول النامية والدول المتخلفة، إذ يمكن اعتباره أيضاً الفارق الجوهري بين الدول التي أخذت البادرة وهيأت نفسها لولوج القرن الحادي والعشرين ودول أخرى ما زالت على أعتاب القرن التاسع عشر أو حتى ما قبله. وقبل الخوض في موضوع مستقبل البحث العلمي في بلدنا الحبيب، لابد من اعطاء نبذة عن تعريف مفهوم البحث العلمي وما المراد به.

مفهوم البحث العلمي قديماً وحديثاً:

اهتم العلماء والباحثين بقطاع البحث العلمي منذ القدم لما فيه من خير ومصلحة للأمة. فمنذ عهد اليونان والإغريق وحتى الحضارات التي مرت قبلهم، كان للبحث العلمي دور في الرفع من المستوى المعرفي والفكري للمجتمعات. واهتم العالم الاسلامي منذ صدر الاسلام بالبحث والتأليف وكانت الناس تشد الرحال لطلب العلم والخوض في أبحاث أفادت الانسانية جمعاء، كما ساهم علماء المسلمين والمخترعين في نشر حقائق علمية ومفاهيم جديدة أخرجت أوروبا وباقي دول العالم من عصر الظلمات إلى النور، وهكذا بدأت المجتمعات في البحث نحو فك الألغاز العلمية المتعلقة بالهندسة والطب والفلسفة والعلوم الانسانية والاجتماعية، مما ساهم في اختراعات غيرت مسارات البشرية في الحياة وكان لها وقع مدوي لازال بعضه ساري المفعول إلى يومنا هذا، ويكفي أن نشير إلى ما نطق به ابن سينا والرازي في مجال الطب، وما حققه الفرنجة في منن الشفاء. وتبعاً لذلك شهدت بلدان كثيرة في القرون الأخيرة ثورات اقتصادية وثقافية واجتماعية وصناعية أسست لعهد “المكننة” الجديد والتكنولوجيا المضطردة الحديثة. وهكذا عزز مفهوم الرأسمالية والاشتراكية والامبريالية والبروليتارية العمالية حركية البحث الدؤوبة والمتعطشة لفتح مشارب وآفاق جديدة لكسب المال. غير أن المتأمل في مفهوم البحث العلمي سوف يرى بأن هذا الأخير ليس له تعريف واحد موحد يشمل كل جوانب مفهوم “البحث العلمي”، بل هنالك تتباين الآراء في التعريف الدقيق للبحث العلمي، وقد ارتأينا ادراج ما هو متعارف عليه كتعاريف لمفهوم البحث العلمي وتلخيصها في النقاط التالية:

يعرف مفهوم البحث العلمي بأنّه المحاولة النّاقدة الّتي تحاول الوصول لحلّ مشكلة إنسانيّة معيّنة.

البحث العلمي هو تفسير لحقيقة ما باستخدام عباراتٍ واقعيّة تطبّق بقوانين عامّة توجد في المجتمع.

البحث العلمي هو مجموعة من الخطوات المنتظمة والمدروسة، تبنى على معلومات تجمع حول مشكلة معيّنة، وخضعت للفحص والتّدقيق، وذلك لحلّ المشكلة.

البحث العلمي هو فكر منظّم يقوم به شخص يدعى (الباحث)؛ للوصول إلى الحقائق لحلّ قضيّة تسمّى (موضوع البحث)؛ إذ يتّبع طريقة علميّة تسمّى (منهج البحث)؛ ليصل إلى حلول تسمّى (نتائج البحث).

ومن جهة أخرى، يرى الباحث أمجد قاسم بأننا إذا حاولنا تحليل مصطلح “البحث العلمي” نجد أنه يتكون من كلمتين “البحث” و “العلمي”، يقصد بالبحث لغوياً “الطلب” أو “التفتيش” أو التقصي عن حقيقة من الحقائق أو أمر من الأمور. أما كلمة “العلمي” فهي كلمة تنسب إلى العلم، والعلم معناه المعرفة والدراية وإدراك الحقائق، والعلم يعني أيضاً الإحاطة والإلمام بالحقائق، وكل ما يتصل بها، ووفقاً لهذا التحليل، فإن “البحث العلمي” هو عملية تقصي منظمة بإتباع أساليب ومناهج علمية محددة للحقائق العلمية بغرض التأكد من صحتها وتعديلها أو إضافة الجديد لها(عن أمجد قاسم:2012، التربية والثقافة، بتصرف). أما الدكتور جون ديكنسون – خبير اليونسكو – فيعرّف البحث العلمي بأنه “استقصاء دقيق، نافذ وشامل، يهدف إلى الوصول إلى حقائق جديدة، تساعد على وضع فرضيات جديدة موضع الاختبار، أو مراجعة نتائج مسلّم بها”(ذكر عن أمجد قاسم: 2010). كما يرى ماكميلان وشوماخر، كما ورد عن أمجد قاسم، بأن البحثَ العلميَّ هو “عمليَّة منظَّمة لجمع البيانات أو المعلومات وتحليلها لغرضٍ معيَّن”، فيما يرى توكمان بأن مفهوم البحث العلميِّ هو “محاولةٌ منظَّمة للوصول إلى إجابات أو حلول للأسئلة أو المشكلات التي تواجه الأفراد أو الجماعات في مواقعهم ومناحي حياتهم”. أما الباحث الدكتور سيدي محمود ولد محمد – من موريتانيا – فيعرف البحث العلمي على أنه “وسيلة للوصول إلى الحقيقة النسبية، واكتشاف الظواهر ودرجة الارتباط فيما بينها، وذلك في مختلف مجالات المعرفة، وأن البحث العلمي ليس مقتصرا على أسرار المادة والكون المحيط بنا، بل يشمل الأحداث اليومية لحياة الإنسان” (ذكر في أمجد قاسم: 2010).

مستقبل البحث العلمي في أفق مشروع الاصلاح:

إن تسابق الأمم في ميادين المعرفة، واستثمارها الأموال الطائلة وتسخيرها في بناء منظومتها الخاصة من المعرفة والتقنية، والتنافس والتباري في الإنجازات العلمية الحديثة وخلق جوائز محلية وعالمية للمتفوقين في ذلك، لخير دليل على إدراك معظم الأمم للحقيقة الدامغة ألا وهي أنه لا سبيل للتقدم والنمو والازدهار إلا من خلال بوابة التقدم في البحث العلمي وتيسير طريقه للأجيال الحالية والقادمة. وهكذا بدأت الأمم تدرك بأن تفاخرها بثرواتها الطبيعية ما هو إلا شيء عارض وأن الاستمرارية والبقاء للأقوى، أي للمتقدم في ميادين العلم والمعرفة والتقنية. ومع كامل الأسف يلاحظ بأننا– نحن العرب – لازلنا نقف عاجزين عن المشاركة الفاعلة في تلك الإنجازات المعرفية والتقنية بعدما كنا في زمن مضى نحن السباقين في العلوم التجريبية وترجمنا عن الفلاسفة اليونانيين وغيرهم كل دروب الفلسفة والفكر واستطعنا ايصالها إلى غيرنا من الأمم، غير أننا شغلتنا الحروب والطائفية والفتن ما ظهر منها وما بطن، فوقفنا مندهشين لسرعة التقدم التقني والعلمي الحاصل في الغرب، والذي تحقق بسرعة فائقة خلال العقود القليلة الماضية، بيد أننا نحن مازلنا مكتفين باستهلاك ما تنتجه المكينة والعقول الغربية وما يقدَّم إلينا من منجزات علمية ومعرفية، بعد أن أفل نجم علمائنا ومخترعينا الأجلاء وولّت حقبة زمنية زاهرة من تاريخنا لازالت بعض الأمم الغربية تستشهد بها، بينما تحاول أمم أخرى كتمانها أو طمسها بالمرة، بينما اكتفينا نحن فقط بالبكاء على الأطلال وبالتغني بها وبأمجادها. أما التاريخ فلا زال لحسن الحظ منصفاً ويشهد على عظمة أولئك العلماء والمخترعين العرب والمسلمين وعن إنجازاتهم الكبيرة في ميادين العلوم والمعرفة والتي، على سبيل المثال، دونت جزءاً منها المستشرقة الألمانية (سيغريد هونكه Sigrid Hunke) بكل أمانة وعنونتها في كتابها بـــ”شمس العرب تسطع على الغرب”.

وفي هذا الصدد يمكن أن نضرب المثال بما يجري في دول الخليج على سبيل المثال لا الحصر، إذ يقول الدكتور نجيب أحمد الجامح في مقال له نشر في صحيفة الاقتصادية الإلكترونية بعنوان (البحث العلمي والتقني في دول مجلس التعاون العربي ترف أم ضرورة؟): “إن مشاركتنا في الحضارة الإنسانية القائمة حاليا تقتصر في أحسن الأحوال على تزويد العالم من حولنا بمصدر للطاقة المحرّكة له، وتوفير سوق استهلاكية لمنتجات هذا العالم، إننا إذا أردنا فعلا أن ننتقل من واقع الاستهلاك الهامشي لمخرجات الحضارة الإنسانية الحديثة إلى المشاركة الفعالة في صنع هذه الحضارة فإن الطريق الوحيد لذلك لا بد أن يمر عبر البحث العلمي والتقني، ولا يوجد طريق آخر مختصر مهما اعتقدنا خلاف ذلك” (ذكر في أمجد قاسم: 2010).

ولذلك حرص المغرب منذ مطلع القرن الماضي على أن تكون له سياسة وطنية للنهوض بالعلم والتقنية من خلال منظومة التربية والتعليم، وقد سنّت الجهات المختصة في هذا البلد مجموعة كبيرة من الإجراءات التشريعية والتنفيذية بهدف تنشيط الطاقات العلمية الوطنية وتعبئتها لتحقيق خطط التنمية الاستراتيجية في ربوع المغرب وكل أقاليمه بدون استثناء، ومن أجل ذلك رصدت الأموال الطائلة لتحقيق هذا الهدف، ولازال المغرب يواكب مجموعة من الاصلاحات والأوراش الكبرى بكل قوة مما جعل بلداناً كثيرة تتطلع إلى نموذجه السياسي والاقتصادي. كما يتطلع المغرب ان تكون مخرجات المدرسة العمومية والجامعات والمدارس العليا في المستوى المطلوب وأن تتقوى بمخططاتها الاستراتيجية فيما يخص البحث العلمي، لأن هذا الأخير يعتبر في المقام الأول استثمار وخيار اقتصادي ناجح، يعبّر عن رؤية مستقبلية اقتصادية واعية وواعدة. ومن ناحية أخرى، فإن البحث العلمي جزء لا يتجزأ من الأمن العام للبلد، والأمن، كما يقول أحد الباحثين في هذا الميدان، كلٌّ لا يتجزأ، فالأمن العسكري، والأمن السياسي، والأمن الغذائي، والأمن الثقافي، والأمن المائي، وغيرها من نواحي الأمن، ما هي إلا حلقات لسلسلة مترابطة بعضها مع بعض، وأن قوة أي سلسلة تحددها الحلقة الأضعف. هذه الرؤية الشاملة هي التي يسعى المغرب لتحقيقها من خلال مشاريع الاصلاح التي تبناها مؤخرا والتي بوأته الصدارة في أخذ المبادرة في ميادين وقطاعات مختلفة. غير أن الركن الأصعب في تلك الأوراش الاصلاحية هو اصلاح منظومة التربية والتعليم والتي يعتبر البحث العلمي جزءاَ أساسياً منها. وفي هذا الاطار لابد من أخذ النقاط التالية في عين الاعتبار ما دامت هنالك فرص لنقل الخبرة المغربية إلى القارة السمراء، ولما لا نشاطر تلك البلدان تجربتنا في ميدان البحث العلمي بعد تطويره واصلاح منظومته على النحو التالي:

– وضع خطط استراتيجية خاصة بالبحث العلمي ذات بعد وطني واقليمي ودولي.

– اعادة النظر في جميع القوانين والاجراءات المتعلقة بهذا الميدان.

– ربط البحث العلمي بشكل وثيق بالخطط الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتعليمية والثقافية للبلد.

– الحد من تأثير سيطرة الشركات العابرة للقارات، وسطوة مراكز الأبحاث العالمية على المنتوج العلمي المحلي.

– الحد من هجرة العقول والأدمغة الوطنية وتصديرها إلى الخارج وذلك بوضع آلية تحفيز ومكافأة عالية وترقى إلى مستوى الباحثين والمستوى الدولي.

– ضرورة الايمان والاقتناع بفكرة أنه لا يمكن أن يتم النهوض بقطاع البحث العلمي بمعزل عن بقية قطاعات الدولة.

– وضع آلية للتحفيز ومكافأة الأطر الادارية المساندة للباحثين واعطاء كل ذي حق حقه.

– احترام الملكية الفكرية وبراءة الاختراع.

– تشجيع البحث العلمي منذ المراحل الأولى للتعليم وبشكل مبسط كي يتعود الطلاب على ذلك.

– الرفع من مستوى البحث العلمي باتخاذ مقاربة تشاركية تساهم في تمويلها شركات كبرى وجهات مختلفة.

– تخصيص كراسي علمية تمولها الشركات الكبرى والمحسنين وكل من يريد الخير لهذا البلد.

– القيام بتغطية اعلامية وندوات وورش عمل مجدية تعرف بالأبحاث الهامة.

– مساعدة الباحثين ماديا ومعنوياً.

– خلق مسابقات تنافسية محلية مشجعة للنهوض بقيمة البحث العلمي.

– تسهيل عملية البحث من خلال احداث مقاعد للبحث في الجامعات والمعاهد والمدارس العليا وتحديث المختبرات والمكتبات.

– تسهيل عملية الحصول على وظيفة للباحثين.

– تشجيع عملية البحث العلمي بين أطر التدريس وكوادر الجامعات وغيرهم وعدم التوقف عن البحث حتى بعد سن التقاعد.

– تعزيز مكانة اللغات واتقانها بما في ذلك اللغة العربية والفرنسية والانجليزية وغيرها.

– تكتيف الجهود لتعلم اللغة الانجليزية كونها لغة البحث في الوقت الحالي.

– ربط نظام الترقية بالإنتاج العلمي والفكري والمساهمة في أوراش التدريب والمؤتمرات العلمية وغيرها.

– جلب العقول المهاجرة من مغاربة العالم من المفكرين والباحثين في جميع المجالات وادماجهم في الناتج الفكري المحلي.

تطلعات المغرب كدولة تدعم البحث العلمي ضمن منظومة الدول العربية:

يمكن القول أنه في عقد السبعينيات من القرن الماضي، بدأ العمل العربي المشترك للنهوض بالسياسة العلمية العربية، وعُقدت عدة مؤتمرات في جهات مختلفة وعلى الرغم من تلك الجهود الرامية إلى بلورة سياسات ووضع خطط استراتيجية واخرى تعزز أواصر التعاون بين البلدان العربية وتهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية والاعتماد عليه كرافعة للاقتصاد والنمو في تلك البلدان، إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا تغطي متطلبات سوق العمل ولا تلبّي الأهداف المنشودة ولا تحققها، ولمعالجة ذلك يتم عقد مزيد من الاجتماعات والمؤتمرات، كمؤتمر الوزراء العرب المسؤولين عن البحث العلمي ورؤساء المجالس العلمية العربية الذي انعقد في بغداد عام 1974م ، و مؤتمر الوزراء العرب المسؤولين عن تطوير العلم والتقنية في الرباط عام 1976م، وقد دعا الحاضرون في كلا المؤتمرين إلى ضرورة العمل العربي المشترك، وإنشاء مراكز نوعية متخصصة على مستوى الوطن العربي، كما أسفرت تلك التجمعات عن جملة من التوصيات الموجهة إلى الحكومات العربية، وتوصيات أخرى للمنظمات العربية المعنية بدعم الثقافة والعلوم. وعلى الرغم من كل تلك التجمعات الأولية والأخرى التي تلتها عبر العقود الأخيرة ورغم تلك الجهود الرامية إلى وحدة الصف وتعزيز التعاون وبلورة سياسات تهدف إلى رفع شأن البحث العلمي في بلادنا العربية إلا أن تلك السياسات أدّت غالبا إلى نشوء وظائف هامشية لا ترقى إلى طموحات الشعوب العربية بل ولا تلبّي الأهداف المنشودة والمنصوص عليها في تلك المؤتمرات والتوصيات ولا تحققها. والغريب في الأمر أن تلك الدول لم تتعظ ولم تستفد من ذلك الفشل والتعثر المتكرر ولم تستوعب الدرس لمعالجة تلك الهفوات. ويلاحظ أن أموالاً طائلة صرفت في دراسات وأدت إلى مزيد من الاجتماعات الاضافية المكلفة أدت إلى تكدس نتائج وآراء وأكوام من الأوراق والوثائق والمستندات لم تتم الاستفادة منها بالشكل الصحيح والسليم مما يأدي إلى ضياع الجهد والمال والوقت ليظل البحث العلمي يُنظر إليه من زاوية ضيقة لا تفي حصيلته بالغرض.

ووفقا للبيانات الصادرة عن البنك الدولي حول مؤشرات التنمية في عام 2003م، على سبيل المثال، وحسب ما ذكره الباحث أمجد قاسم، فإن “مجمل ما تنفقه الدول العربية على دعم البحث العلمي لا يكاد يذكر، فقد بلغت حصة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج القومي الإجمالي في كل من الكويت والأردن ومصر وسورية والإمارات العربية المتحدة على الترتيب النحو الآتي: 0,3% ، 0,26 % ، 0,2% ، 0,18% ، 0,45% ، بينما أنفقت السويد 3,02% من ناتجها القومي، واليابان 2,84% ، وسويسرا 2,68% ، وكوريا الجنوبية 2,47% ، والولايات المتحدة الأمريكية 2,8% ، وفرنسا 2,34%” (نفس المرجع).

وحسب ما ورد عن نفس الباحث فإن تلك الفجوة الكبيرة، كما يقول، التي يعانيها وطننا العربي على مستوى إنتاج أبحاث علمية وتقنية عالمية، وقلة عدد العلماء والباحثين في العالم العربي، تدل على وجود خلل واضح في السياسات التعليمية والتنموية في بلادنا، وقصور مريع في مؤسسات البحث العلمي العربي، وافتقارها إلى الحسابات الدقيقة لعوائد بعض الأنشطة العلمية التي يتم تنفيذها في مؤسساتهم. ويمكن ملاحظة ذلك القصور من خلال لمحة سريعة على ما تنفقه الدول العربية من عائدها الوطني على البحث العلمي: فعلى سبيل المثال هنالك دول تنفق أقل من 0,3% من ناتجها القومي على البحث والتطوير، وتشمل هذه المجموعة: جميع الدول العربية وأمريكا الجنوبية.

وكخلاصة لهذا الموضوع يمكن القول بأن على الحكومة الجديدة إعادة النظر في مفهوم واجراءات البحث العلمي واعتباره قاطرة للنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما يجب مراجعة قوانين واجراءات انشطة البحث والتطوير التي يتم إنشاؤها وتنظيمها تحت مظلة أجهزة ومؤسسات صناعية وتسوغ لها سياسات العلوم والتكنولوجيا، لأن ذلك يقلص حجم تلك الأنشطة ويجعل دورها محدودا للغاية، ونتيجة لذلك لا يتم إيلاء الاهتمام الكافي بمخرجات ونتائج البحث العلمي والتطوير في المؤسسات التعليمية العليا. كما يجب البحث عن سياسات وقوانين تضبط كل ما يتعلق بالبحث العلمي والموارد المادية الداعمة وتحفيز كل الساهرين على البحث العلمي وفق المقاييس والمعايير الدولية. وعلى المسؤولين عن مشروع اصلاح منظومة التربية والتعليم أن يأخذوا موضوع البحث العلمي بكل جدية كونه المدخل الرئيسي للتقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلينا أن نتذكر بأن التجربة العلمية في الدول المتقدمة صناعيا تنظر إلى البحث العلمي والتطوير على أنه، كما يقول الباحث أمجد قاسم، “سلسلة متصلة ومستمرة من العمليات التي تتراوح بين مراقبة الجودة الشاملة بكل أبعادها والخدمات العامة على أدنى حد إلى الدراسات والأبحاث الاستكشافية بالحد الأعلى”. وبما أن الواقع يبين جلياً أنه لا مناص من تعلم اللغة الإنجليزية (لغة البحث العلمي)، بحيث أن ما بعادل 80% مما يُنتج من البحوث حالياً هو باللغة الانجليزية، بينما الـ20% تتقاسمها باقي دول العالم وبلغات مختلفة بما فيها اللغة العربية والفرنسية وغيرها، لذلك يتوجب علينا النظر في احداث مراكز تتقن تعليم اللغة الانجليزية وبمواصفات عالمية، والرفع من وتيرة البحث العلمي وتشجيع العلماء في بلدنا، ففي الإحصائيات غير الرسمية ذات الصلة وُجد أن لكل 10 آلاف مواطن عربي 3,4 علماء، بينما في اليابان لكل 10 آلاف مواطن ياباني 35,4 عالما، وهذا يعني أن مؤشر ومفهوم العلوم والبحث العلمي لا زال متعثرا في بلادنا ولم يأخذ بعد مساره الصحيح ولم يخرج بعد من النظرة إليه على أنه شيء ترفيهي بدلا من أن يصبح شيء أساسي في حياتنا اليومية. ومن الملاحظ أيضاً أن العالم من حولنا قد خطى خطوات جبارة وسريعة في عالم البحث العلمي والتكنولوجيا وأصبحت الشعوب الشغوفة بهذا القطاع تتسابق نحو النانو تكنولوجيا، والهندسة الوراثية، وعلوم الفضاء، وكيف تستغل الموارد الطبيعة وكيف تُخفف عبء تكاليف الطاقة والحياة عن سكان مدنها وقراها وكيف تُطور طرق التدريس بمدارسها العمومية كي تُخرِّج أجيالاً ذات كفاءات عالية وآفاق فكرية خلاقة قادرة على ولوج البحث العلمي وسوق العمل بكل ثقة، بينما نحن لازلنا نغوص ونضيع جهدنا ووقتنا في مناقشات صاخبة حول موضوع الغاء مجانية التعليم العمومي مثلاً!!!، وكأننا اكتفينا بعدد العلماء والباحثين الكافي لبلدنا، بدلا من أن يُنصَب النقاش حول كيفية تطوير واصلاح هذا القطاع الحيوي وامكانية تبني مقاربة تشاركية لتمويل الأبحاث العلمية ومكافأة العلماء والباحثين والرفع من مكانتهم. وبما أننا مقبلين على عهد جديد بقيادة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ومقبلين على بداية مشوار حكومة جديدة، ومقبلين على عهد الانفتاح على القارة السمراء وغيرها، وتتطلع إلينا البلدان العربية الأخرى على أننا البلد العربي القادر على أن يكون قاطرة النمو الفكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ونموذجاً سياسياً يحتذى به، فلابد أن نكون على قدر هذا المستوى وتلك التطلعات أيضاً، وقد حان الوقت بأن نأخذ موضوع البحث العلمي بكل جدية كي نكون في مستوى نقل تلك الخبرات إلى تلك الدول مثلما نجحنا في نقل خبراتنا في قطاعات أخرى إلى إخواننا وأخواتنا بالقارة الإفريقية.

“أكعاون ربي”

والله ولي التوفيق،،،

abdul14v2@yahoo.com

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات