فتحي مهديو.. عن تاريخ الدراسات العربية غرب البلقان
تميّز غرب البلقان بانفتاحه المبكّر على البحر المتوسط عندما تحوّل إلى حوض للمسلمين بعد فتح الأندلس وصقلية واقتحام البحر الأدرياتيكي لحصار راغوصة أو دبروفنيك، بينما كان شرق البلقان تحت سيطرة بيزنطة والدول السلافية الطامحة إلى وراثتها (بلغاريا وصربيا). وفي هذا السياق، تشهد الوثائق العربية المحفوظة في دوبروفنيك (التي تتبع الآن كرواتيا) على مدى العلاقات التي كانت بين هذه الجمهورية التجارية وبلدان حوض المتوسط من المغرب وحتى بلاد الشام.
في هذا المجال (غرب المتوسط) تأسّست أيضاً أول أقسام الدراسات الشرقية: من بلغراد (1926) في صربيا، إلى سراييفو (1950) في البوسنة، وبريشتينا (1973) في كوسوفو، وصولاً إلى تيتوفو (2008) في مقدونيا الشمالية. ولدينا من هذه الخلطة الجغرافية/ الأكاديمية البرفسور فتحي مهديو (1944)، الذي ولد قرب تيتوفو، ودرس الاستشراق في بلغراد، وكان من مؤسسي قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا، بل من مؤسسي الاستشراق الألباني بالمفهوم العلمي، تنظيراً وإنتاجاً علمياً غزيراً يجمع الدراسات عن الأدب العربي والمخطوطات الشرقية والترجمات للأدب العربي من الشعر الجاهلي وحتى سعدي يوسف.
ومن هذا الإنتاج الغزير صدر له أخيراً عن “معهد الدراسات الشرقية في بريشتينا” كتاب “دراسات مختارة” باللغة الصربية /الكرواتية/البوسنية، كما نُشرت في الأصل عندما كانت يوغوسلافيا دولة واحدة، ليكون هذا الكتاب الآن جسراً للتواصل القديم/ الجديد بين هذه الجهات المعنية بالدراسات العربية والإسلامية في غرب البلقان. ويبدو لنا أن أهم ما هو موجود أو مهم للقارئ العربي يشمل ترجمات القرآن والمخطوطات الشرقية وترجمات الأدب العربي إلى اللغة الألبانية.
في المحور الأول، الذي يتزامن مع مرور مئتي سنة على أول محاولة لترجمة القرآن إلى اللغة الصربية/الكرواتية/البوسنية، لدينا دراسات مرجعية حول الترجمات الأولى للقرآن إلى هذه اللغة، وبالتحديد حول دوافعها الثقافية والسياسية القومية التي تركت أثراً كبيراً لدى المسلمين. فقد كان علماء المسلمين في البلقان، كما يوضّح مهديو، قد انتهوا بسبب جمود الاجتهاد إلى أن “ترجمة القرآن ذنب عظيم”، ولذلك رأوا أن الوسيلة الوحيدة لتواصل المسلمين مع القرآن هي تعلّم العربية وقراءة القرآن بها.
تأخّرت ترجمة القرآن بسبب فرض تعلّم العربية لقراءته
ولكن مع الإصلاح الديني في أوروبا الوسطى المجاورة للحدود العثمانية وترجمة الإنجيل إلى اللغات القومية، وبروز الأفكار والحركات القومية في البلقان التي تعظّم ما هو لغوي- ثقافي مشترك بين الشعوب كأساس للوحدة/ الدولة القومية المنشودة، برزت المحاولات الأولى لترجمة القرآن إلى اللغات البلقانية. ويُلاحظ هنا أن هذه الترجمات الأولى جاءت من قبل غير المسلمين، وبالتحديد من الشخصيات القومية المعروفة التي كانت تريد للمسيحيين أن يتعرّفوا إلى الكتاب المقدس لإخوانهم أو جيرانهم المسلمين.
وفي هذا السياق كان الباحث السلوفاكي يان تشابلوفيتش (1780-1847) الذي برز في فترة الحماسة للجامعة السلافية قد نشر في كتابه “سلافونيا وجزء من كرواتيا” الصادر في بودابست عام 1819 عن منطقة سلافونيا المجاورة للدولة العثمانية، التي كان يعيش فيها الكروات والصرب والبشناق نتيجة للحكم العثماني السابق، وقدّم لقرائه مقطعاً من القرآن في اللغة الصربية/ الكرواتية/ البوسنوية “لكي يقرأوا الإنجيل التركي”.
ومع تطوّر الأفكار والحركات القومية في المناطق التي بقيت تحت الحكم العثماني، نجد أول ترجمة كاملة للقرآن صدرت في بلغراد 1895 على يد قائد الانتفاضة الصربية في البوسنة (1875) ميتو ليوبيبراتيتش، التي أدت إلى سلسلة تغيّرات كبيرة في المنطقة. فقد كان ليوبيبراتيتش يأمل بهذه الخطوة أن يكسر الحاجز النفسي – الثقافي مع المسلمين في البوسنة الذين كان يعتبرهم “محمديين من القومية الصربية”، وبالتالي كان يأمل ضمَّ هؤلاء إلى الحركة القومية الصربية ضد الحكم العثماني.
تشهد المخطوطات على عمق العلاقة بين العرب وشعوب البلقان
ومع أن استجابة البشناق أو البوسنيين المسلمين كانت فاترة للانتفاضة الصربية، إلا أن ليوبيبراتيتش أكمل عمله في ترجمة القرآن في بلغراد قبل وفاته في 1889. وقد حرص ليوبيبراتيش، الذي اعتمد على الترجمتين الروسية والفرنسية، على ترجمة دقيقة واقتصر تدخله على بعض التوضيحات في الهوامش وثلاث صفحات في النهاية تتضمن “بعض الأشياء والأسماء التي تذكر في القرآن ومكان ورودها”، أي إن المترجم كان حريصاً على عدم الإساءة إلى “الأخوة المسلمين” الذين كان يعوّل عليهم ضمن المشروع السياسي الصربي.
وينقل مهديو هنا المفاجأة الكبيرة التي أحدثتها هذه الترجمة الأولى للقرآن “في لغة كافرة” لدى “علماء المسلمين” في البوسنة، ولكن تطور الوعي الثقافي – القومي في البوسنة خلال الحكم النمساوي (1878-1918) مهّد للقبول التدريجي بفكرة ترجمة القرآن إلى اللغة البوسنية لكي يتمتع البوسنيون أيضاً بقراءته وفهمه في لغتهم القومية، حتى نجد لاحقاً تنافساً على ترجمة القرآن من لغات وسيطة أولاً ثم من اللغة العربية مباشرة على يد أشهر المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية في البوسنة (بسيم كركوت وأنس كاريتش وأسعد دوراكوفيتش وغيرهم).
وقد تكرّر الأمر نفسه مع ترجمة القرآن عند الألبان، الذين كانت غالبيتهم الساحقة من المسلمين، حيث بقي “علماء المسلمين” حتى مطلع القرن العشرين يصرّون على حُرمة ترجمة القرآن إلى الألبانية وضرورة تعلم العربية لقراءته. وفي هذا السياق يشير مهديو إلى مغزى قيام شخصية قومية ألبانية أرثوذكسية معروفة (إيلو ميتكو تشافزيزي) بترجمة القرآن إلى الألبانية في 1921. وفي هذه المرة أيضاً يبدو الدافع ثقافياً قومياً وليس عدائياً للمسلمين، حيث إن المترجم كان يعتبر أنّ القرآن لا يخصّ المسلمين (غالبية السكان) في ألبانيا، بل يخصّ أيضاً الثقافة القومية الألبانية باعتباره الكتاب المقدس لغالبية الأمّة الألبانية.
ومن المثير هنا، كما يوضح مهديو، أن تشافزيزي كان يعرف أن “علماء المسلمين” كانوا يحرّمون ترجمة القرآن إلى الألبانية، ولكنه أراد بهذه الترجمة أن يبيّن “ما هو الغشاء الدقيق الذي يفصل ما بين المؤمنين: المسلمين الألبانيين من إخوتهم المسيحيين”، متمنياً أن يأتي بعده من يقوم بترجمة أفضل.الصورة
وكما كان الأمر في البوسنة، فقد أحدثت هذه الترجمة صدمة لدى “علماء المسلمين” في ألبانيا بعد أن كانوا قد غرسوا خلال قرون أن ترجمة القرآن “ذنب عظيم”، ولكن سرعان ما تقبّل الجيل الجديد من المثقفين المسلمين فكرة الترجمة وفتح هذا الباب لتنافس المتخصّصين في الدراسات العربية والإسلامية على ترجمة القرآن. وكما هو الأمر في البوسنة، فقد كانت هناك ترجمات مفسّرة للجيل الجديد من علماء المسلمين، ولكن الجيل الجديد من علماء الدراسات العربية والإسلامية في ألبانيا وكوسوفو فتح الباب أمام ترجمات علمية جديدة، ومنها ترجمة فتحي مهديو التي كانت أول ترجمة كاملة للقرآن من العربية صدرت في بريشتينا عام 1985.
في المحور الثاني الذي اخترناه عن المخطوطات الشرقية في كوسوفو، لدينا دراستان في الكتاب، الأولى بعنوان “بعض المخطوطات العربية ذات الأصل البوسني المحفوظة في بريشتينا”، والثانية بعنوان “الإسلام عند الألبان في ضوء المؤلفات المخطوطة”. ففي الدراسة الأولى نجد أن المؤلف يعتمد مقاربة جديدة لتوضيح الصلات الثقافية بين البوسنة وكوسوفو، حيث يعرّف بالمخطوطات الشرقية في كوسوفو التي ألفت أو قُرئت أو حظيت بتعليقات عليها في البوسنة ثم وجدت طريقها لتستقر في كوسوفو، حيث أصبحت الآن ضمن المكتبات العامة وشبه العامة. وأما في الثانية، فلدينا مقاربة أخرى تحاول أن تتعرّف إلى الإسلام عند الألبان من خلال المخطوطات التي تراكمت خلال الحكم العثماني الطويل (حوالى 500 سنة)، والتي تكشف بموضوعاتها عن المسار العام للإسلام لدى الألبان الذي يُدرج ضمن “الإسلام العثماني”.
وقد يكون المحور الثالث، ترجمات الأدب العربي إلى الألبانية، يثير الاهتمام أكثر بحكم تجربة المؤلف في ترجمة هذا الأدب إلى الألبانية أو تتبّع من ترجمه. ومع أنه كانت هناك ترجمات مخطوطة، مثل ترجمة الشاعر محمد تشامي (1784-1844) لقصيدة البردة للبوصيري وغيرها، إلا أن المؤلف يتتبّع هنا ما نُشر في الصفحات الثقافية للجرائد والمجلات الألبانية في يوغوسلافيا السابقة بين 1966 و1990، أي الفترة التي شهدت تصاعد الاهتمام بالأدب العربي ضمن علاقات يوغوسلافيا السابقة المتنامية مع العالم العربي ضمن حركة عدم الانحياز.
ويلاحظ هنا أن الترجمات الأولى جاءت من شعراء ألبان معروفين (أسعد مكولي وأنور جرتشيكو وآدم غيطاني وغيرهم) من خلال لغة وسيطة (الصربوكرواتية والفرنسية والروسية)، بينما جاءت الغالبية مع الجيل المؤسس لقسم الاستشراق في جامعة بريشتينا (حسن كلشي وفتحي مهديو وإسماعيل أحمدي ومحمد موفاكو وشمسي أيوازي) والجيل الأول من الطلاب الذين تخرّجوا منه (مهدي بوليسي وعبد الله حميدي وعيسى مميشي وغيرهم). وبالاستناد إلى الببلوغرافيا المفصّلة لما ترجم من الأدب العربي (أشعار وقصص وروايات ومسرحيات) من امرئ القيس إلى محمود درويش يتضح أن نحو 160 من الكتّاب العرب قد تُرجمت أعمالهم في الصفحات الثقافية للجرائد وفي المجلات أو في مختارات بعينها مثل “أنطولوجيا الشعر العربي الحديث” (1979)، و”قصص سورية 1931-1981″ (1981)، و”أشعار عربية” (1983) وغيرها، بينما يقدّر مهديو أن هذا العدد ارتفع حتى الآن ليصل إلى نحو 200 شاعر وكاتب. ولا شكّ في أن فوز نجيب محفوظ في 1988 بجائزة نوبل للآداب كان له دوره في صدور مزيد من الترجمات والروايات على وجه التحديد.
كتاب فتحي مهديو يعيدنا إلى الماضي القريب – البعيد الذي شهد طفرة في العلاقات البلقانية العربية خلال القرن العشرين، وهي ما تبدّت في تأسيس أقسام الدراسات الشرقية والاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى اللغات البلقانية المختلفة.
كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
العربي الجديد
تعليقات