الفرنسية بالمغرب وحصان طروادة
ذ. المحساني عزيز
قصة حصان طروادة واحدة من أساطير حروب طروادة الكثيرة، وعلى الرغم من أهميتها في حسم هذه الحرب التي دامت زهاء عشر سنوات بانتصار الإغريق على الطرواديين، إلا أنها لم يرد لها ذكر فيما نقله هوميروس في إلياذته عنها. تتفق الروايات القديمة على أن سببها هو اختطاف أحد أمراء طروادة “باريس” لملكة أسبرطة “هيلين”. فجهز لها الإغريق عددا كبيرا من السفن المحملة بآلاف الجنود من كل المماليك اليونانية. ولما طالت الحرب ونالت من عزيمة الإغريق على إخضاع المدينة لجؤوا إلى الحيلة بأن أهدوا المدينة حصانا خشبيا كبيرا يختبئ في جوفه عدد من الجنود عربون سلام. انطلت الحيلة على سكان المدينة، ولم يسمعوا للمحذرين من غدر الإغريق. تسلل الجنود المختبئون في جوف الحصان؛ وفتحوا الأبواب لجيوشهم التي سعت في المدينة قتلا ونهبا وحرقا وأسرا؛ بذلك يكون حصان خشبي جميل أسقط مدينة صمدت سنوات طويلة أمام الحصار ولم تستطع جيوش جرارة من إسقاطها.
لعل القصة هنا تنتهي شاهدة على واحدة من أطول وأكبر حروب العالم القديم. وعلى واحدة من التخطيطات المتقنة التي استعملها العدو في اختراق حصون عدوه لما استعصى عليه إخضاعه عسكريا. لكن الحروب بعدها لم تتوقف وإخضاع الشعوب واستعبادها تنوعت أسالبيه ووسائله. فكانت الجيوش في الغالب تستطيع إخضاع الأرض لكنها تقف عاجزة أمام مقاومة أهلها. وأصبحت الوسائل غير الحربية مطلبا لكل محتل وغازٍ، ولعل أخطر هذه الوسائل استعمال اللغة، ذاك الكائن الجميل الفاتن الذي هو شبيه بحصان طروادة، إلا أنها تحمل في جوفها عناصر الإخضاع والإلحاق.
هذا هو حال الفرنسية في المغرب، جيوش جرارة وتدمير وتخريب وقتل ونهب، وفي المقابل جهاد ومقاومة ونضال؛ أصبحت معه فرنسا عاجزة عن تحمل الخسائر ووقف الاستنزاف في عساكرها وعتادها، وغدا وجودها في خطر بعد اتجاه رجال التحرير نحو تحريك جميع الجبهات في المغرب الكبير.
أعلن الاستقلال وانتهت مرحلة من تاريخ المغرب، فظن أن الوجود الاستعماري الفرنسي في المغرب قد انتهى، وأن معركة البناء والتشييد وتحقيق الخصوصية الوطنية والثقافية والحضارية قد بدأت، لكن هذا كان ضربا من السراب، وأضغاث أحلام ليس إلا. فعاد المحتل بوجهه القبيح المذموم يخفيه وراء لغته الجميلة، لغة الأدب والفنون؛ فسحر بها أعينا وأعمى بها أخرى. فدعي إلى تعليم الفرنسية والتعلم بها، واستهجنت العربية ونعتت بأسوأ النعوت، وتصدر طابور من العملاء الدعوة، وانخدعت نخب من المثقفين بوعي أو بغير وعي، وألقى الكهان السياسة والاقتصاد في مسامع البسطاء أن لا تقدم ولا نهضة ولا عيش كريم بدونها.
وهكذا فعلت الفرنسية في الوطن فعل الحصان الخشبي في أهل طروادة. لغة تخفي سما نقيا، تبدل إيهابها في كل آن، وتزرع ما تخفيه في جوفها من سموم وأفكار، وتفكك وتدمر الهوية الوطنية والإسلامية، وتنتج أجيالا مقطوعة الصلة بلغتها وثقافتها وحضارتها.
لقد كان التعليم الثغر الذي تسربت منه، وأصبحت بعد زمان قصير اللغة الرسمية فيه ـ وإن كان الإدعاء أنها العربية ـ والغرس الثقافي وسيلتها الخفية، تحت دعوتها المسماة بالفرنكوفونية، والاقتصاد والإعلام والسياسة أذرعها الطويلة المتسلطة؛ فهيمنة على جميع مناحي الحياة وعبثت بالبلاد والعباد.
فإصلاح التعليم بالمغرب وتحريره من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وإنهاء الاحتلال والتبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية يبدأ من تجفيف منابعه، وأسها هيمنة اللغة الفرنسية في تعليم، وإحلال اللغة العربية وتعميمها، وفتح المجال أمام اختيارات لغوية فردية توافق التطلعات المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسة العامة للبلد، وإلغاء الاحتكار اللغوي المفروض من النخب ذوات الميول الفرنكوفوني، وفتح المجال أمام الخصوصيات اللغوية المحلية لتحتل المكانة التي تليق بها في التداول بحسب الحاجة والإمكانيات التي تسمح لها بها مؤهلاتها وقدراتها اللسنية والوظيفية.
تعليقات