عبد الفتاح كيليطو.. تهمة الكتابة بالعربية
في ملحقٍ مرهفٍ يختم به كتابه الملهم “لسان آدم” يعرب المفكّر المغربي عبد الفتاح كيليطو، أحد أحباب العربيّة الأوابين إلى رحابها عن حالة الحرقة التي انتابته لردود فعل النخبة الأكاديمية جرّاء صدور أول كتابٍ له بالعربية. كانت قد سبقت هذا الابن المستدرك على كبرٍ -أي الكتاب- مجلداتٌ بثاني الضرّتين الغربيتين، فعلّق أحد البروفيسورات (عربي الأصل) فرنسي المِراس والجبلة بتعليق “ألا تكرّر هذه الفعلة”، وأسدى النصيحة المخلصة “من الآن وإلى أبد الآبدين” لا تكتب بغير الفرنسية! اكتب عن لغتك العربيّة، لا ضير، لكن باللغة الأخرى، لغة سيّدك واغلق على لغتك الباب في المتحف.
ثم يردف بسرد موقفين مؤلمين آخرين؛ الأول لباحثة غير عربيّة متخصّصة بأدبيات اللّغة العربيّة، تجيدها أيّما إجادة وتتقنها أحرص تقانة، ولكن حديثا عابرا يفضح طلاقها الوجداني عن موضوع مهنتها، فتعلن لكاتبنا استحالة أن تقرأ شيئا بالعربيّة في أوقات فراغها، وأن العربيّة ما هي إلاّ لغة عمل وأنّها لا تعتبرها لغة يمكن القراءة فيها. وتزيد جريحنا بيتا من الشعر فتترنّحُ غطرسة بأن الكتّاب العرب يتهافتون عليها رجاء بأن تترجم لهم أعمالهم إلى الفرنسية وكأن حياتهم مرهونة بيديها.
وكأن أعمالهم عمياء لا ترى النور ولا تغدو مرئية للعين التي تقرأ، أو تصبح شيئاً وشأناً مذكوراً إذا ما لبست الهندام الغربي. ويختم بالأمل الذي خاب في موئله. في أوج انهماكه تطلُّ عليه طالبة بعد عشرين عاماً من الغياب، تسأله عن آخر ما آل إليه، فيردّ بأنّه يعمل على المراجعة النهائية لجامعة أعماله التي ستنشر جملةً واحدة. تتبادى طوالع الأمل في وجه الفتاة لتغيب خامدة فور سماع “بالعربيّة” فتُبتَرُ فرحتها ولا تتم. كيليطو لا يخفي أنّه لهنيهة خاطفة شعر بالخجل والرغبة بالتواري من هذا القرار، ثم بسرعةٍ استدرك الحال وخجل من خجله واستحى منه.
كيليطو وإرهافه ومشاركته لنا في هذه التفاصيل يكشف ويُحرِج المُحرج أصلاً. كلامه ذكرني بأحد المساقات التي حضرتها يوما في “الإسلام والفكر النقدي”. في بداية المساق استهلّ المحاضر العربيّ مساقه بملحوظة هامشية على سبيل الإعلام بأن لغة الحوار ستكون هي الإنجليزية وذلك لغايات أكاديمية بحتة متعلّقة بحافظة الاصطلاحات المرتبطة بالمجال النقدي والتي لن يصحّ السجال بغيرها. والأطرف من ذلك أنّنا كنّا نقرأ لمفكّرين عرب يكتبون أعمالهم عن الإسلام وعن حضارة أجدادهم بضربٍ عسرٍ من الإنجليزية الذي يلتف على المعاني فلا يؤديها، ونستحي أن ننتقد قلّة بلاغتها لأنّها ترتدي لثام الأكاديميا الغربية الرخيم.
قد لا تهمّ الفكرة التي يجيء بها أحدهم بقدر “وجاهة” اللغة التي ترميها على أكتافها هذه الفكرة ورتبتها ومقامها بين مدارج اللّغات. على غرار لا يهمّ من تكون، المهم هندامك ونوع مركبك. أو لا يهمّ ما تقول الأهمّ هو كيف تقوله؛ فاللّغة أيضاً لم تعف من التنميط، بل لربمّا كانت أول ما تمّ وسمه كعلامة مسجّلة في تجارة الكلمات. للألسنة سوق، وليست كلّ الألسنة سواء في السوق.
مدونات الجزيرة
تعليقات