اللغة العربية في خضم الوسائط الإعلامية الجديدة
لا حاجة للتأكيد مسبقا على سرعة الانتقال التكنولوجي والمعلومياتي وتحول نظم المعرفة والنظم الاجتماعية وقياسات تطور الإنسان الاتصالي، على النحو الذي يشكل طفرة بليغة التعقيد، خصوصا في ما يتعلق ببنية التفكير الإنساني وارتكانه إلى النسبية وعدم اليقين والشك في جدوى عصر المعلومات الجديد وخائلياته.
من أجل محاولة تفكيك نظرية الانتقالية التي أخفت بلؤمها التكنولوجي الهلوسي وإفراغها عوالم متاهة العقل البشري من اللاوعي الفردي النفسي إلى اللاوعي الجمعي التراثي والثقافي، لا بد من فصل الخطاب المستتر الكائن بين جدليتين قائمتين بداهة؛ التساوق الدلالي الذي يضع المعرفة على رأس أو قمة الوعي بالهوية، ووحدة الأخلاق التي توجه بوصلة تحقيق الهوية ذاتها، بما هي ذات تجسد أداة سابرة لصناعة المجتمع الواقعي، حسب مفهوم بيتر برجر مع بعض التصرف.
ولا تستعصي المسألة في الاتجاه الذي نضع فيه اللغة كباعث لانتقال المعرفة وتشكلها الوجداني وارتقائها في مستوى الوعي والحركة والاشتباك والحوار وهندسة الحياة. ولهذا أولى علماء اللغة والسميولوجيا أولوية إستراتيجية لحدود التأثيرات ودراسة العلاقات بين الأسماء والأفعال وتحكم اللغة؛ وهو أمر يتوطن عميقا في قوة ونفوذ العربية كمشروع بياني كوني، يشمل وقود استقبال وقابلية مدهشة، وانسيابا قطيعيا معجزا، كوطن بحقيبة سفر جاهزة. تلك السمة الثقافية الإنسانية الناهضة التي تتمدد بخشوع راق وبديع، تمسك بالروح فتلهبه وتغشيه سحابا في سحاب.
لا تجد اللغة العربية في التدافع المعلومياتي السحيق، الذي أضحى مؤسسا سييرانيا في آليات التحويل الإعلامي وسرعة اندلاقه وتعاليه، (لا تجد) غضاضة ولا بأسا من التناغم والتوسع والاستئثار حتى. وهي خصيصة سوسيواجتماعية وثقافية، موزاييك من الأخلاق الثاوية والتناظر الأريب، تجود بها لغة الضاد عن استحقاق ورهان خليق بالمعنى والأفضلية.
ولا نتردد في التعبير عن هذا الشرط الصارم الذي تبلغه العربية في امتداد الزمان وراهنيته وتطور علاماته، في درجات التواصل وشفافية منهجه، وفي اقتداره على مواجهة التأثيرات الجديدة، المعرفية والمفاهيمية، وسريان المعلومات وانعكاس كل ذلك على واقع المجتمع الحقيقي.
إننا إزاء هذا السؤال الإشكالي يمكن تحويل مجال التقاء اللغة بالتكنولوجيا من مجرد علاقة افتراضية تواصلية بالحداثة، إلى بنية جدلية في مواجهة المعلومات وتكنولوجيا المعلومات. وهي الأزمة التي تؤطرها نظرية هيبرماس التي تجعل من علاقة اللغة بالتكنولوجيا علاقة امتداد لإنتاج وصناعة فكر وترسيخ أوضاع. من ثمة تكون اللغة تجديدا للوعي بالمرحلة التاريخية وتقييما معرفيا سيروريا يعيد تشكيل مثل الاستقبال وتطور العقل واكتساب المعرفة الجديدة.
إن صورة اللغة العربية ضمن الصورة العامة للثقافة إياها تختزل جوانب خفية وظاهرة، وأخرى مغلوطة ورافضة، تقابلهما انتقائية في الولوج التكنولوجي والمحاورة والتناظر، على مستويات مطبوعة بالغياب والتقصير، أو البناء والتوجيه، وهو ما يضع صورة الثقافة العربية في وسائل الإعلام المتاحة الجديدة في مأزق حقيقي، يمس صورة الإنسان العربي ونمط تفكيره وعلاقته بالتحولات الكونية والثقافة العولمية ومنظومات التثاقف والتنوع الثقافي، وتحقق الحرية الثقافية والاعتقاد الديني وحقوق الإنسان.
الأمر لا يتعلق بمواقع تطوير البرمجيات العربية ولا بمستويات إدماج اللغة العربية في مكون الإبحار الافتراضي عبر وسائل الاتصال الحديثة، ولا بحدود الجاهزية الفنية والتقنية لهذا التداول، كما يقول المفكر المصري نبيل علي، بل ما يعاب على خطابنا الثقافي في وسائل الإعلام الجديد، بما فيه الأنترنيت، من انعزالية وتشتت معرفي وتاريخي، إذ “ينأى عن الدراسات التقابلية الجادة، منطويا على ذاته، لا يطرح قضاياه في سياقات ثقافية – وحضارية وإنسانية ـ ولغوية أوسع” *
تعليقات