ديداكتيك اللغة العربية، إشكالية الرؤية و الاحتواء، والتسويغ اللساني.

2٬246

إلياس خاتري – طالب باحث بجامعة محمد الخامس-الرباط أكدال

اتجه اختياري لهذا الموضوع لأسباب أجدها وجيهة بالمعنى العلمي، وأجملها أساسا في بعدين؛ الأول يتمثل في كثافة التنظير الديداكتيكي لتدريسية اللغات. والثاني في احتوائه لمجموعة من الإشكاليات، تعمق سؤال التدريس وتبلوره في جهاز مفاهيمي تربوي وبيداغوجي متماسك، يعيد النظر في سبل وطبيعة وسائل تدريس اللغة العربية.

وقبل الشروع في مقاربة الموضوع، أود أن أشير إلى جملة من القناعات بصدد الموضوع المقترح للمداولة والمحاورة والنقاش، يبن يدي القارئ بكل أنواعه، المستفيد والناقد والمنتج. وأهم هذه القناعات؛ أن موضوع  تدريسية اللغات، مجال للوصف والتحليل والتطبيق والأجرة . ونشير إلى أن الأمر فيما يخص هذا الموضوع متعلق بقضية من أهم قضايا التربية والتعليم، وهي ” تدريسية اللغات”. حيث إن أي تصور مهما بلغت دقته لسانيا كان أو تداوليا أو سيكولوجيا، على مستوى فرضياته وتوصوراته ومفاهيمه، لن يكتسب نجاعة في مقاربة هذه المسألة، إلا إذا كان متفاعلا مع الآخر ومندمج معه. بدليل تسمية المجال ووسمه بـ “علوم التربية” وليس علم التربية، هذا يعني أن علم واحد عاجز عن مقاربية هذا الموضوع ، نظرا للمتن الذي يشتغل عليه، والمتمثل في الظاهرة الإنسانية، هي ظاهرة معقدة نظرا لطبيعتها، كما تؤكد أبحاث علم النفس التعلم، وخاصة ما طرحة “كاستون ميالاري”. وبالتالي فإنها تحتاج أكثر من علم لأنها ظاهرة متعددة ومتقلبة ومتغيرة وتطبعها النسبية بامتياز، ولا مجال للدقة  فيها . لذا كانت ” علوم التربية” العبارة الأنسب  للتعبير عن المكونات الأساسية لمعالجة هذا الموضوع.

وما دمنا في مستهل هذه الدراسة، وقبل الشروع في مقاربة موضوعاتها، وجب أن نحدد في البداية مجالها الابستسمولوجي يالأساس. حيث يمكن أن ندرجها معرفيا في إطار ما يمكن أن نسميه بـ ” تدريسية اللغات” أو ما يسمى في الأدبيات التربوية بـ “ديداكتيك اللغات” وبالضبط تدريسية اللغة العربية. وقد تجمعت حول هذا الموضوع حصيلة هامة من المعارف والتجارب والدراسات، وألفت فيها مجموعة من الكتب والمقالات والرسائل الجامعية .

إن هذا الموضوع في رأينا؛ يؤدي إلى تطوير الإمكانيات اللغوية وتحسين توظيفها بالشكل المطلوب، في العملية التعليمية التعلمية خاصة، والتواصلية التداولية عامة. “ولكن ما ينبغي الإشارة له لرفع كل التباس محتمل، هو أن هذا التخصص له مجموعة من المشارب والمداخل، كونه مجال تتقاطع فيه مجموعة من العلوم؛ كاللسانيات وعلم النفس وعلوم التربية وغيرها. بل إنه يستفيد من كل النتائج المحصل عليها في هذه المججالات وغيرها دون أن يفقد استقلاله النسبي.”[1] كما سنعتمد- كتوضيح منهجي- في هذا الموضوع على نتائج الخطاب اللساني، والبرهنة على إمكانات استثمار نتائجه، والإفادة من تجاربه الميدانية والنظرية  لتجويد تدريس اللغة العربية. “وغني عن البيان، أن البحث اللساني الحديث، يعد اللغات الطبيعية نسقا من الرموز والعلامات، تخضع لتحويلات، وهو المنظور الذي نميل إليه، ذلك أن من إشكاليات الكتابة اللسانية  العربية الحديثة – حسب الفاسي الفهري – تصور اللغة العربية فوق اللغات، أو اعتبارها لغة مقدسة. والحق أن اللغة العربية من منظور لساني صرف، لغة طبيعية. ويقول الفاسي الفهري في هذا الصدد: ليست اللغة العربية كما يدعي بعض اللغوين العرب لغة متميزة تنفرد بخصائص لا توجد في اللغات الأخرى، ومن ثمة لا يمكن وصفها بالاعتماد على النظريات الغربية التي بنيت لوصف اللغات الأوروبية، بل لغة كسائر اللغات البشرية.”[2]

إن تدريس اللغة العربية بكل مكوناتها [ الصرف،النحو، المعجم، التركيب، الصواتة، الدلالة] له مكانه هامة في الدراسات اللسانية والتربوية والأدبية والديداكتية الحديثة، حيث عرفت هذه الدراسات تطورا هاما في الآونة الأخيرة، وفي هذا الصدد يشير “محمد الدريج” للتمييز في إطار بيداغوجيا التعبير-في علاقة بتدريس اللغة العربية-  بين الدراسة الأدبية واللسانية في التدريس، والتي ازدهرت في الآونة الأخيرة بفضل مجهودات أساتذة كليات الآداب بالخصوص. حيث ساهمت بجلاء في التعريف بالعديد من المناهج الحديثة، في تحليل مكونات الدرس اللغوي العربي وتطويره وتطوي؛ ليلائم خصوصيات كل مكون، حتى يكون مضمون تربوي ناجع، يستجيب لكل المقومات الديداكتيكية في تدريسية اللغات ومكوناتها. ومن هذه المناهج نجد، المنهج البنيوي والمنهج البنيوي التكويني، والمنهج السميولوجي والمنهج الشكلاني والمنهج الموضوعاتي …وغيرها. ورغم كل هذا، وإن كانت مقاربتنا تستفيذ من كل هذه الدراسات ، إلا أننا سنركز بالأساس على الجوانب التربوية الديداكتيكية واللسانية، التي تسعى جاهدا إلى تحسين آداء كل من المدرس والتلميذ، لاكتساب مهارات وتقنيات في تعليم اللغة العربية وتعلمها،

إن تدريسية اللغة العربية، مسألة أراها تأرجحت بين النظرية التطبيق، بين التنظير والتقعيد على المستويات الأدبية والتربوية الصفية، وبين التصور اللساني في الأجرأة والتطبيق والمقاربة، بالتركيز على اللغة ومختلف مقوماتها وآلياتها ووظائفها. ويأتي التركيز بعد كل هذا؛ على الجانب السيكولوجي للفرد ومحيطة السوسيوثقافي. وبتفاعل كل هذه المكونات؛ تنبلج آلية ناجعة لتدريس كل معطيات الدرس اللغوي بالشكل الديداكتيكي هادف ومتين ومنشود، يراهن على الجودة والتميز في الآداء التربوي.

  • إذن ماهي خصائص هذه المعطيات؟

إن الانشغال بسؤال التدريس معطياته، يشكل بدوره سؤال قابل للتحليل والتأويل، ويتمحور منصبا كظاهرة بيداغوجية، تعبئ كل مواردها لمعالجة سؤال التدريس وهويته، ليستقر كظاهرة تعليمية بالوجود والكينونة والتطور،لا محالة. مما يجعل من موضوع التدريسية موضوع محكوم بعدة روابط وشروط وخلفيات ومقاصد، أهمها كما يرى التصور اللساني؛ الرابط التداولي التواصلي والوظيفي للغة في التعليم والتعلم. وبالتالي فإن المتتبع المتقصي لسؤال تدريسية اللغات، أو الساعي إلى سبر أغوار هذا الموضوع، أو الناظر للمشهد الجدالي حوله، لا يمكن إلا أن يتساءل بدوره .

  • ما علة تداخل وتقاطع مجموعة من العلوم والحقول المعرفية؛ من لسانيات وعلم اللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وبعض العلوم العصبية والفزيولوجية … في طرق التدريس؟
  • كيف يكمن للتدريس أن يدمج كل هذه المعارف، خدمة لسنده ومتنه ومقصدة، وغايته الأساسية والرئيسة، وهي التربية والتعلم؟

وربما قد يذهب بهذا التساؤل أيضا إلى أبعد من هذا، ليكون هاجسا خفيا وجليا في الآن نفسه.

  • هل بالفعل تطرح مسألة التدريس كل هذه الإشكاليات؟ ومن جه أخرى، كيف تتفاعل معها في ممارسة صفية علمية ومنهجية؟

لا تتغيى هذه الأسئلة المحورية كما قد يبدو تعقيد المسألة المدروسة، بل إلى تأكيد مصداقية الموضوع ومشروعيته وحيويته، وإفادته من كل التجارب السابقة في مختلف العلوم، لأنه ببساطة؛ يقع في نقطة تقاطع اسراتيجية بينها. لكن طبيعة النقاش الذي طال واستطال حول هذه الظاهرة، هو أنها” تكاد في بعض الأحيان أن تفرَغ من حمولتها الغنية والنابضة والحيوية، حيث تكاد بعبارة أن تستظهر أسئلة وتستبطن الأخرى، كما تستحضر قضايا معينة للتدريس وتغيب الأخرى،”[3] سواء تعلق الأمر بتدريسية اللغات أوبعض مكوناتها. فإن  كلا الموضوعين متكاملين ومتفاعلين بينهما، حيث يوضح ويفسر بعضهم البعص الآخر.

وكل هذا يأتي تأكيدا لضرورة الابتعاد والنأي، عن التصور الشكلي والصوري والوصفي في بناء طرائق التدريس. والدعوة إلى الاهتمام بالأجرأة في العمل الديداكتيكي ورصد الجواهر والكوامن الثاوية خلف طرائق التدريس و امكانية تجويدها، بالتركيز على  الجانب السياقي والتداولي والنفسي بالخصوص، والاستفادة منها ومن تطوراتها، لتطور بدورها الإمكانيات الديداكتيكية في الممارسة الصفية.

إن الديداكتيك أوعلم التدريس أو فن التدريس، – وغيرها من التسميات التي تعود لاختلاف الترجمات حول مفهوم واحد- هو مدخل أساسي للوقوف على الكثير من الصعوبات النطرية التطبيقة، التي تعترض المتعلم في مختلف مراحل تعلمه، باعتماد ما يسمسه “شوفالار” آلية النقل الديدلكتيكي، حيث أنها في إطار تعلمه للغات، تجعله قادرا على تغطية سلسلة من الانتقالات الأفقية والعمودية، خاصة العامة، المجدرة والمحسوسة… أي تلك العمليات التي يمكن العثور عليها سواء في مجال التدريس بكل نماذجه، أو بتطبيق منهج من مناهج التحليل. إذ من البديهي أن تتعاقب مراحل التدريس وتتراكم النتائج المحققة بواسطة هذا المنهج أو ذاك، ذلك انطلاقا من النقل الديداكتيكي الذي يفرز أشكالا من التحويلات المعجمية والتركيبية، تبلور طرائق تدريسية فاعلة  لمكونات الدرس اللغوي بشكل جلي.[4]

لكن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن هناك إمكانيات مهمة لتطوير هذا الدرس. وذلك باستثمار التفاعلات المتبادلة بين مختلف العناصر المتدخلة في العملية التعليمية التعلمية. مع الاهتمام بالأهداف العامة والخاصة، لتدريس اللغات واستراتيجيات التعلم والاكتساب. لكن هذا الاستثمار يجب أن يراعي الشروط السيكولوجية والسوسيولوجية والثقافية المؤثرة في الفعل التربوية بصفة عامة، وتدريس اللغة العربية بصفة خاصة. حتى لا يصبح الحديث عن ذلك مجرد ادعاء زائف، لأننا من منطق الدارسين والباحثين، نعرف بطريقة أو بأخرى، الظروف المؤطرة للممارسة الصفية العملية في تدريسية اللغة العربية ومكوناتها.”

كما ينبغي من منطلق ديداكتيكي للمشتغل بالتدريسية ، الالتزام بسلم مرن يمكنه من إدماج المعطى السويكولوجي، وكل مستجداته لتطوير طرائق التدريس، مما يمكن من بناء صرح بيداغوجي متين، على مستوى تدريس اللغات المستهدفة، وجعل التفاعل من وسائل الربط الناجعة بين ماهو مكتسب وما هو قابل للاكتساب”.[5]

إذن هذا التصور يجعل من البيداغوجيا التفاعلية في تدريسية اللغات، إحدى الإمكانيات المقترحة لتطوير الدرس اللغوي وتثمينه بالشكل المطلوب، لأنها تستند على دينامية تجمع بين كل طرائق العملية التعليمية التعلمية. ويكمن القول أن تدريس اللغة العربية من منظور لساني وظيفي، هو مشروع يراود كل الباحثين والمشتغلين بمجال ديداكتيك اللغات.وهو طموح مشروع، يروم تطوير اللغة العربية، وجعلها مسايرة لكل تطلعات المستقبل. مما يتيح القول صدقا أن المدخل الأساسي لتطوير تدريس اللغة العربية؛ هو اسثمار ما جاءت به اللسانيات الحديثة، مما يستدعي حوسبة معجم اللغة، والتقعيد لنحو جديد يدعو للاقتصاد في القواعد اللغوية الواصفة للنحو التعليمي. هذا ما يستدعي حسب الباحثيْن ” مصطفى بوشوك، وعلي أيت أوشان” وغيرهم، الجمع بين النظريات اللسانية وديداكتيك اللغات، إضافة إلى الجانب التطبيقي والميداني، لتشخيص صعوبات المتعلمين ورصد أخطائهم اللغوية، بغية تطوير مناهج، وتطوير طرق تدريس اللغة العربية في مختلف الأسلاك التعليمية. وهذا ما يستدعي من جانب آخر؛ إعادة النظر في المناهج الدراسية، والتجديد في المقررات، والاستجابة لما جاء به الكتاب الأبيض* في هذا المجال، وفق مقتضيات المنحى اللساني المتطور.[6] “ومن الإكراهات التي تعرقل المسار التدريسي للغة العربية، بعض العوامل التي تساهم فيها أسباب داخلية وخارجية انطلاقا من الممارسة الفصية، ومن هذه الإكراهات نجد ما يلي:

  • تدني مستوى الإنجازات اللغوية لدى المتعلمين
  • غياب منطق لغوي لديهم.
  • ضعف الرصيد المعجمي،

وهذا ما يحول دون المشاركة الفعالة في تطوير المهارات اللغوية، والتعبير بعربية سليمة محترمة لقواعد النحو العربي، وهذا لا يتعارض مع أفكار ومبادئ اللسانيات الحديثة، وخصوصا اللسانيات التوليدية، التي لها مجموعة من النظريات التي تفسر بعض الأخطاء اللغوية، مثل “قيد الجزيرة الميمية” و”نظرية الربط ونظرية الإسناد والإعراب”. إن تدريس اللغات ليس بالأمر الهين، يستدعي مدرسا مسلحا بزاد معرفي نظري وإجرائي  متين، ينهل  جهازه المفاهيمي من حقول معرفية متنوعة، منها؛ ديداكتيك اللغات والبيداغوجيا، واللسانيات بكل فروعها خصوصا التطبيقة والحاسوبية، إضافة إلى بعض العلوم الإنسانية الحديثة، كعلم النفس بكل أنماطة، وعلم الاجتماع وخصوصا علم الاجتماع التربوي. يتكرر هذا التأكيد على النهل من مختلف العلوم في تدريسبة اللغات، نظرا لطبيعة وخصوصية هذا المبحث، وضرورة استدعاء كل هذه التلوينات المعرفية؛ تأتي استجابة للمراسَة التي يستدعيها  للميدان.

ومادام الأمر يتعلق باللغة العربية، فإن تدريسها يتعلق بالخضوع لما تقتضيه كرونولوجيا التعلم؛ أي “أن تعليم  العربية يقتضي الإيمان بأن الطبيعة الصوتية هي الأساس فيها، بينها الشكل الكتابي يأتي تاليا على مرحلة التعلم بالسماع، لأن السمع سيد الملكات. فالكتابة في الواقع تعتبر تطورا حديثا نسبيا في التاريخ الإنساني، إذا ما قورنت باللغة الشفوية، وكثير من اللغات القديمة والحديثة ليس لها عنصر كتابي ، أي: أنها لغة التخاطب فقط ، وكثير من الناس يعيشون دون أن يكونوا قادرين على الكتابة أو القراءة. على أي  حال، فإن الطبيعة الصوتية للغة تعني أن : أن يبدأ تعليم اللغة بشكلها الصوتي الشفهي، قبل الكتابي ، أي: أن يجيئ تعليم الاستماع والكلام قبل القراءة والكتابة.”[7] كما يتطلب الأمر بالنسبة لمدرسي اللغة العربية معرفة مكامنها ومصادرها، ونسقها البنيوي والدلالي. إضافة إلى المعرفة العميقة بعلم النحو والعروض والبلاغة. أي معرفة بالمحددات التي تهيكل بنية الثقافة العربية، كما فصل فيها القول الدكتور محمد عابد الجابري*، ورصدها في ثلاث محددات هي: البيان والعرفان والبرهان.[8]  ويبدو جليا إذن، أن تدريس اللغة العربية من منظور لساني حديث، سيعيدها للصدارة، ويعيد لها قوتها ووظيفتها وحيويتها التداولية. وذلك” بـ:

  • تجديد وتوسيع متن اللغة العربية.
  • حوسبة معجم اللغة العربية.
  • استثمار الأفكار اللسانية، ونتائج البحث فيها في تدريس اللغة العربية.
  • استثمار التراث النقدي والبلاغي واللغوي العربي القديم، لتطوير اللغة العربية.

 إضافة لاستثمار ما توصلت إليه فروع اللسانيات التطبيقية، في معالجتها لتدريس مكونات اللغة العربية وقضاياها، معجما وتركيبا وصرفا ودلالة وصواتة. وهذا ما يستدعي بالضرورة الإفادة من بعض الأبحاث بالخصوص، كاللسانيات التوليدية الحديثة مع الفاسي الفهري، واللسانيات الوظيفية مع أحمد المتوكل، وبعض أبحاث إدريس السغروشني وغيرها…والهدف هو الخروج بمكون الدرس اللغوي، من الطرائق التقليدية التي تتوخى الشحن، دون ربط التعلم بالسياق التداولي، الذي يمكن أن يستثمر فيه قاعدة نحوية اكتسبها. الشيء الذي يظهر جمالية النحو العربي، وفكه عن العقد والصعوبة التي يسمها به البعض، عن جهل أو بنية مبيتة، تستهدف النيل من اللغة العربية ككل؛ ويرجحون ذلك إلى معياريتها تارة، أو بالدعوة إلى حذف الإعراب ، أو بإطلاق العنان للعاميات في كل المنابر التواصلية والإعلامية( نستحضر هنا بعض الجرائد التي تكتب أعمدتها بالدارجة، كما تم تدريج بعض الأفلام المكسيكسة بدعوى تقريبها من المواطن…لكن القصد أعمق من هذا. إن هذا الأمر يجعل مهمة تطوير اللغة العربية في أعناق الباحثين، بالانفتاح على مستجدات اللسانيات المعاصرة، وتأهيلها لتأدية دورها الريادي في تطوير طرق التدريس، والمساهمة في البحث العلمي .”[9]

ونقول بصريح التعبير، إن كل المعطيات السابقة، تمثل المدخل الأساسي لاختيار طريقة معينة للتدريس، أي اختيار خطة شاملة يستعين بها المدرس لتحقيق الأهداف المطلوبة من تعلم اللغة، وتحديد إجراءاتها وسبلها المنهجية، وإمكانياتها التربوية وتقنياتها الصفية، في ارتباط مع وضعية تعليمية تعلمية. لتكوّن مبادئ هادفة وفعالة، لتذليل الصعوبات التي تعترض المعلم، في ممارسته التي تتغيى إيصال مضامين تربوية هادفة، لبناء تصميم تدريسي،”يعنى بتوصيف القواعد والمبادئ والإجراءات اللغوية، وخلق نماذج ملائمة لتصميم وتخطيط منظومات التدريس. ويشير مصطلح “تصميم التدريس” إلى عملية منظمة،متصلة بتطبيق مبادئ التدريس والتعلم، في التخطيط للمواد و الأنشطة التدريسية. أو هو عملية منهجية أو منظومة لتخطيط منظومات التدريس، لتعمل بأعلى درجة من الكفاءة والفاعلية، لتسهيل التعلم.وعادة ما يستعان لإنجاز هذه العملية بما يسمى بمخططات التدريس.”[10]

يرى كل مهتم بتدريس مكونات اللغة العربية،” أن مكون الدرس اللغوي، يعد ركنا أساسا من مكونات وحدة اللغة العربية، وتكمن أهميته في كونه “واسطة العقد” بين مكون النص الوظيفي،(نص نثري أو شعري يؤدي وظيفة في منظومة من القيم والمجالات) ومكون التعبير والإنشاء؛ فينطلق لتدريسه من أمثلة النص الوظيفي، لدراسة الظاهرة، واستنباط القاعدة اللغوية كما في (البدل-الممنوع من الصرف-المبتدأ – الخبر…). ويتحقق اكتساب المتعلم للكفاية اللغوية، إذا استطاع استثمار مخزونه اللغوي، في مهارات مكون التعبير والإنشاء، فيعبر بلغة فصيحة تراعي القواعد، وخصوصا القواعد المدروسة في مستواه، كنصب المفعول به، ورفع الفاعل، والنسبة والتصغير والنداء… وتمكنه هذه المهارات من ترسيخ الظاهرة اللغوية، مما يجعله قادرا على توظيفها  واستعمالها في أساليبه الخاصة، من خلال التطبيقات؛ لتقويم مدى اكتساب المتعلم للظاهرة اللغوية المدروسة، ومدى استيعابه  وتمكنه من المهارات والكفايات اللغوية المراد بناؤها. وتهدف هذه الخطوات، إلى تمكين المتعلم من تعلم الفصحى عن طريق التواصل بها، و توظيفها والتفكير من داخلها.”[11]ولكن،

  • كيف يفكر الإنسان من داخل اللغة؟
  • هل اللغة منهج للتفكير؟

إن سؤال التدريس، جعل الباحث في” تدريسية اللغات” يطرح السؤال التالي: “هل يفكر الإنسان باللغة؟

لا يوجد اتفاق كامل في الإجابة عن هذا السؤال، وهناك من المناطقة* من يرى أن اللغة لا تستخدم إلا في التفكير في العمليات العقلية العيا، ونحن لا نميل إلى هذا الرأي. أما بعض الصوفيين، اعتبروا أن التجارب الصوفية لا يصفها إلا من يعانيها، وأن وصفها باللغة غير ممكن. ولكننا نميل للقول؛ بأن اللغة نظام للأفكار والمعاني بألفاظ تناسبها، فاللغة هي منهج الإنسان في التفكير، وفي الوصول إلى العمليات العقلية والمدركات الكلية. هنا يدور التفريق بين اللغة كنظام للتعبير عن العمليات العقلية العليا والمدركات السامية، وبين اللغة كمنهج للقيام بهذه العميات؛ فاللغة إذن تجربة عقلية شعورية يتم التعبير بها، من خلال تجربة لفظية مناسبة. لكن هل يمكن القول؛ أن اللغة آلية ووعاء للتعبير عن ما تم إنتاجه في مرحلة التفكير باللغة؟ وهل اللغة منهج للعتبير؟

عندما يتكلم  الإنسان، فهو يستعمل ألفاظا وجملا، وعلى هذا المنوال؛ يمكن القول أن اللغة نظام للتعبير، فالإنسان العادي يعبر عن أفكاره باللغة، هذه الوظيفة وظيفة اتصالية؛ لأن المتكلم المعلم في تعليمه للغة، يراعي نوعية المتعلم ، لأنه يريد التأثير فيه، كما يراعي في مستوى الكتابة، نوعية القراء المستهدفين للغرض نفسه. هكذا نرى أن اللغة كنظام للتعبير، غير بعيدة عن اللغة كنظام للاتصال.”[12] إذن يكمن القول أن المنهج التعبيري يوازي الوظيفة التواصلية للغة، بينما منهج التفكير والإدراك اللغوي، يوازي الكفاءة التأملية أو الغنوصية* للغة.” لتكون العلاقة بين الكفاءة اللغوية والتواصلية مهمة جدا في المرحلة الأساسية التي هي التعلم، في حين تكون الكفاءة اللغوية عفوية ومرنة، بحيث أنها تصحح التلاعب بنظام اللغة اعتماد على مقاييس اللغة الأم، أما الكفاءة التواصلية؛ فهي تنطوي على مبادئ مناسبة من الاستعداد واللياقة، من جانب المتعلم لاستخدام استراتيجيات ذات صلة تداولية، في التعامل مع حالات خطابية معينة، في إطار تعليم اللغة العربية، سواء للناطقين بها أو بغيرها .”

ويمكن القول مما سبق إن الكفاءة اللغوية، أساس الكفاءة التواصلية، ولا تتحدد كينونة ووجودية الكفاءة التواصلية في غياب الكفاءة اللغوية. ومع ذلك  لا يمكن القول إن الكفاءة التواصلية نتاج تلقائي  عن الكفاءة اللغوية، إذ تحددها مجموعة من العوامل المتاخمة للطرف اللغوي، لكن هذا الأخير يعتبر العنصر المهم في تكوينها.

وبشكل أكثر دقة يجوز القول، إن الكيفاية التواصلية في منهجها تعتمد على التطور الوظيفي للغة وليس التركيبي، من خلال منح المتعلمين طرق استثمار اللغة واستخدامها، وليس دراستها والتركيز على مكوناتها، لأن هذا يتم تدارسه في مستوى آخر، من مستويات  الدرس اللغوي. وفي إطار تداولي؛ تكون الطريقة الوظيفية – التواصلية – في جوهرها بديلا للطريقة التركيبية من منظور شمولي مقارباتي لموضوع التدريسية. ويتم  في هذا المستوى- المستوى الوظيفي للغة-  سحب” أندري مارتيني” في الاتجاه الوظيفي، الذي أقر أن هناك مجموعة من الوظائف اللغوية، لكن الوظيفة التواصلية هي أعلى وأهم وظيفة في سيرورة اللغة. ويتم التساهل مع الأخطاء اللغوية، حيث يتم التركيز في الآداء اللغوي التواصلي -في إطار تدريس اللغة العربية- على الطلاقة اللغوية، والتركيز عليها أكثر من الدقة في استخدام التراكيب النجوية. لذلك يتم الاستناد في هذا التصور على التطور الوظيفي والتداولي للغة، وليس التطور الهيكلي.

وهذا ما يجعل كل التصورات التربوية الحديثة، تولي في الصف الدراسي مركزية أكثر للمتعلم منه للمعلم ، وفي إطار هذا الاخذ والرد، يجوز القول أن اللغة ليست شيئا جامدا، بل نظام متحرك متناسل ومتنامي، على المستويين الفردي و الجماعي . لكن في عملية تعليم اللغة، تفرز لنا اللبنية الممارساتية الصفية بعض التقاطعات؛ حيث أن الافكار التي تكون في ذهن المعلم لا توافق الأفكار التي تكون في ذهن المتعلم، على الرغم من التشابه الحاصل في بنية الإدراك. لكن ما يحدث من اختلاف عائد لا محالة عائد إلى الاختلاف في البنية الإبستسمولوجية لكل منهما. وهذا هو بيت القصيد؛ إذ ما يحكم  طبيعة هذه العلاقة في بعدها البيداغوجي، وما يطبعها؛ هو الاختلاف والتباين في المعارف والخبرات. وهذا هو الباعث الذي يهيئ أرضية خصبة لينبلج تعلم ناجع وفعال، يستجيب لكل الشروط التربوية.

إن الغاية الأساسية من تدريس اللغات، هي” إرساء نظام لغوي في الذهن، وإقامة اللسان كملكة لغوية سليمة وتجنب اللحن* في الكلام. حتى إن استمع المتكلم أو قرأ أو كتب، كان ذلك بأسلوب سليم، واضح العبارة. إن تعلم اللغة العربية إذن هو عملية ذهنية واعية، هدفها بناء ملكة لغوية واضحة النسق، لاكتساب السيطرة والتحكم في المستويات الصرفية والتركيبية والصوتية والدلالية والمعجمية، لامتلاك نسق لغوية متين، من خلال دراسة هذه المكونات وتحليلها، بوصفها محتويات معرفية بالأساس. فتعلم اللغة يستند بالضرورة والأساس على الفهم والإدراك الواعيين لنظام اللغة، كشرط للتمكن منها و إتقانها، إذن يجب- من منظور منهجي في تعلم اللغات- على الكفاية المعرفية المتصلة بكل المكونات اللغوية، أن تسبق الأداء اللغوي الواعي، وأن تكون محددا وشرطا لحدوثه”[13].

وفي خضم الحديث عن الكفاية المعرفية، في إطار تدريسية اللغات.”يلزمنا التميز بين الكفاية التواصلية متعددة اللغات، مقابل الكفاية التواصلية أحادية اللغة… ففي إطار التعدد اللغوي، تحدد الدراسات الحديثة الكفاية متعددة اللغات؛ على أنها مجوعة من  المعارف والقدرات، التي تمكن من شحد موارد السجل اللغوي للمتعلمين، فهي كفاية تواصلية متعددة اللغات، تركز على معارف ومهارت فعلية متنوعة،وتتميز بالشمولية والدمج بين اللغات المكونة لها، كما هو وارد عند كوسط (Coste) في مقابل التصور التقليدي، الذي يرى أن الكفاية التواصلية التي يكتسبها المتعلم في اللغة الأولى بالمدرسة، هي كفايات تنظاف إلى الكفاية التواصلية  في اللغة الأم، وأن الكفاية التواصلية في اللغة الأجنبية، تنظاف إلى لغة المدرسة الأولى. ففي هذا التصور الحديث، ما يطبع الكفاية متعددة اللغات؛ ليس هو تجميع لمجموعة من الكفايات في لغات متعددة، بل هناك دمج، أو على الأقل ربط وتعالق بين مختلف مكونات هذه الكفاية.وليس التناظر هو ما يطبع مكونات الكفاية، بل الاختلاف بين تلك المكونات، فهي كفاية تشتمل قدرات مختلفة، وتتميز بعدم التوازن بين مختلف السجلات اللغوية.”[14]

وبناء على ما سبق، تكون الكفاية “متعددة اللغات” -ككفاية معرفية- إذن، لاتنبني على معرفة أحادية، نظرا لطابعها التعددي، بل تمتح من تنوع في المعارف وتلون في القدرات، تغني المعجم اللغوي للمتعلمين؛ بتركيزها على معارف فعلية بالأساس، تؤطرها شمولية في بناء مكوناتها المندمجة كما يرى كوسط. وعلى هذا الأساس تتجاوز هذه الكفاية منطق الكم والتجميع والتخزين، إلى منطق الكيف والتعالق بين المكونات التي تحدد الكفاية، حيث نرصد تجلياتها المفرزة، ملموسة  في الفعل التعليمي التعلمي.

  • بيبليوغرافيا:
  • محمد الدريج ، نحو بيداخوجيا جديدة للتعبير، مقتضيات دراسة النصوص. الدليل التربوي
  • مجلة الدراسات اللغوية والأدبية. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية عبد الوهاب الصديقي
  • نجيب العوفي، الدليل التربوي، تدريسية النصوص، أسئلة النص و أسئلة المنهج.
  • محمد مسكي، الدليل التربوي، النص الأدبي وديداكتيك التحويل.
  • ميلود حبيبي، طرائق تدريس النص الأدبي بالمدرسة الثانوية المغربية وإمكانيات تطويرها، تدريسة النصوص إشراف محمد الدريج
  • مجلة الدراسات اللغوية والأدبية ،. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية عبد الوهاب الصديقي
  • الكتاب الأبيض ، المملكة الغربية، وزارة التربية الوطنية 2002
  • طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية، نخبة من الأساتذة
  • محمدعابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، دارالنشرالمغربية الدارالبيضاء 1973 ط1 .
  • رشدي طعيمه، في تعليم اللغة العربية، جامعة أم القرى، الجزء الأول
  • فاطمة الخلوفي، دراسة بعنوان:أثر المقارنة بين اللغات في بناء كفاية متعددة اللغات والكفايات. ندوة دولية حول:ديداكتيك التعدد اللغوي ، تعليم وتعلم اللغات. إشراف: فاطمة الخلوفي- علال بن العزمية.

إحالات الدراسة:

[1]  نحو بيداخوجيا جديدة للتعبير، مقتضيات دراسة النصوص. الدليل التربوي، محمد الدريج .ص:5

[2]  عبد الوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص:68

[3]  نجيب العوفي، أسئلة النص و أسئلة المنهج. الدليل التربوي، تدريسية النصوص، إشراف محمد الدريج .ص: 25

[4]  ينظر محمد مسكي، النص الأدبي وديداكتيك التحويل. الدليل التربوي، ص 30

[5]  ميلود حبيبي، طرائق تدريس النص الأدبي بالمدرسة الثانوية المغربية وإمكانيات تطويرها، تدريسة النصوص، ص:56

[6]  ينظر، عبد الوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: 61

*. يعتبر الكتاب الأبيض  أول وثيقة رسمية لمراجعة المناهج التربوية المغربية و التي التأمت جهويا و على الصعيد المركزي، بغرض إعادة النظر في المناهج الدراسية و تحيينها في أفق أجرأة اختيارات و توصيات الميثاق الوطني للتربية و التكوين.

وعمل على أجرأة وتدقيق محتويات هذا  الميثاق الذي ينطلق من الفلسفة التربوية لتحديد الاختيارات التربوية الموجهة لمراجعة (وبناء) مناهج وبرامج التربية والتكوين.

[7]  طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية، نخبة من الأساتذة  ص:   ص: 145

[8]   ينظر، عبد الوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: 62

* المسألة التعليمية المغربية حسب موقف محمد عابد الجابري، هي تصور فكري ذي طابع تركيبي معرفي، يصعب فهمه و تمثل أبعاده العميقة، في معزل عن المعالجة النسقية للتراث، بمعنى أن دور المرجعية الفكرية  الثقافية في التراث العربيي حاضرة بشكل كبير فيما يخص دورها الجوهري في التعليم والتعلم، خاصة تعليم اللغة العربية باعتبارها الرهان الأساسي للحفاظ على التراث وضمان استمراريته بكل فعال.

[9]  عبد الوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: 63-64

[10]    طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية، نخبة من الأساتذة  ص:38

*.  المناطقة :من يدرسون صور الفكر وطرق الاستدلال السليم، وفي المقام الأول يدرس تخصصات الفلسفة والرياضيات وعلم الدلالة وعلم الحاسوب. ويعتبر أرسطو أول من كتب عن المنطق بوصفه علماً قائماً بذاته، وتمت الاستفادة من هذه العلوم لتطوير طرق تدريس اللغات.

[11]  عبد الوهاب الصديقي، مجلة الدراسات اللغوية والأدبية. مقال بعنوان، اللسانيات وتدريس اللغة العربية، ص: 65-66

[12]  طرق تدريس اللغة العربية، جامعة المدينة العالمية، نخبة من الأساتذة  ص: 138

 [13]رشدي طعيمه: المرجع في تعليم اللغة العربية، جامعة أم القرى، الجزء الأول ص399. 

 [14] فاطمة الخلوفي، دراسة بعنوان:أثر المقارنة بين اللغات في بناء كفاية متعددة اللغات والكفايات. ندوة دولية حول:ديداكتيك التعدد اللغوي ، تعليم وتعلم اللغات. إشراف: فاطمة الخلوفي- علال بن العزمية. ص:32-33 

البريد الإلكتروني:ilyasskhatri@gmail.com

 

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات