السلفيّة اللّغويّة أو تحنيط اللّغة العربيّة
محمّد أنيس مورو* – مؤسسة الفكر العربي
يبدو أنّ المنهج السلفيّ لم يعُد مذهباً دينيّاً خالصاً، ذلك أنّنا نراه اليوم حاضراً حضوراً قويّاً في مجالات أخرى من الحياة كالسياسة واللّغة ونحوهما. والحقّ أنّ العودة إلى الأصول الصافية النقيّة فكرة مثاليّة تُراوِد كثيرين ممَّن صاروا يصدعون بالنكير على مَن يرنو إلى التطوير وتبنّي الأفكار والمناهج الحديثة ويرونها عِبئاً يُستحسَن العدول عنه. ارتبط مصطلح السلفيّة طبعاً بمبحث العقائد الإسلاميّة أساساً؛ ولكن لو ألقينا نظرة فاحِصة على المجال السياسيّ، على سبيل المثال، لألفيناه قائماً على فسيفساء من الأحزاب التي تحمل إيديولوجيّات ماضويّة على الرّغم من الخيبات المُتتالية التي شهدتها هذه الإيديولوجيّات.
أفَلَيست العودة إلى الأفكار الماركسيّة أو البورقيبيّة (في تونس) أو الديغوليّة (في فرنسا)، على سبيل المثال، شكلاً من أشكال “السلفيّة السياسيّة”؟ يبدو أنّ هذه النزعة إلى العودة إلى الأصول انتقلت من حقلَي السياسة والإيديولوجيا لتنسحب على مناحي الحياة كافّة حتّى اللّغوية منها.
تعجّ المكتبة العربية راهناً بالمصنّفات التي تحمل همَّ تَنْقية اللّغة من “الأدران” التي كدّرت صفوها تحت مُسمّى “الأخطاء الشائعة في اللّغة العربية” غالباً. ويكاد البعض يُشكِّك في كلّ ما نقول ونكتب زاعمين أنّ اللّغة التي نتكلّمها اليوم ليست عربية، بل هي خليط هجين. “لا تقلْ كذا… بل قلْ كذا”، “الخطأ كذا…. والصواب كذا”: هذا غيضٌ من فيضِ العبارات التي يستعملها “صائدو” الأخطاء الشائعة في العربية في كتاباتهم ويصدرون بواسطتها أحكامهم على الألفاظ والأساليب التي باتت مُستعمَلة على نطاقٍ واسع.
تنظر الكثير من الجماعات إلى اللّغة باعتبارها مُقوِّماً من مقوّمات الهويّة الوطنية أو القومية. وتُعَدّ فرنسا من بين البلدان التي تعالت فيها الأصوات منذ أمدٍ بعيد مُندِّدةً بتقهقر الفرنسية وتراجُع مكانتها لدى الفرنسيّين جرّاء استفحال ظاهرة الاقتراض المعجمي والمُصطلحي من اللّغة الإنكليزية في المجالات المختلفة. وقد أدّى ذلك إلى إصدار قرارات للحدّ من تغلغل الوحدات المعجمية الإنكليزية في اللّغة الفرنسية لتحلّ محلّها وحدات معجمية فرنسية. وقد سُنَّت أحكامٌ جزائية تصل إلى حدّ “تغريم المؤسّسات التي لا تستخدم الفرنسية في فرنسا”. كما شنَّت الحكومات الفرنسية المُتعاقِبة حرباً ضروساً على المصطلحات الأجنبية فقامت ﺑحملة صليبية (كما يصفها لويس جان كالفي مؤلِّف كِتاب حرب الّلغات والسياسات اللّغوية) على المقترضات الأجنبية، ولاسيّما الإنكليزية منها. ونَشر أحد الصحافيّين الفرنسيّين مقالةً في صحيفة “لوموند” يُشبِّه فيها المُحْجِمين عن الدفاع عن اللّغة الفرنسية بعملاء النازية.
ولقد ألغى موسوليني في العام 1925 تعليم الفرنسية في منطقة فال داوست، ومنذ العام 1923 مَنَع الكلمات الأجنبية في الملصقات وعلى اللافتات تحت طائلة الغرامة. وفي إسبانيا، وفي عهد فرانكو، تتالت النصوص التشريعية التي تحظّر استخدام كلمات من غير الإسبانية على الملصقات وفي أسماء الشركات. وقد رأى لوي جان كالفي أنّ هذه السياسة اللّغوية فاشيّة.
رُهاب فساد اللّغة
الواقع أنّ رُهاب فساد اللّغة لازَم الكثير من الأُمم قديماً وحديثاً حتّى أنّ عبد الرحمن ابن خلدون عاب على بعض نحاة عصره خرفشتهم وقصور مداركهم قائلاً: “ولا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النحاة، أهل صناعة الإعراب، القاصِرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أنّ البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأنّ اللّسان العربي فسد”. ولقد تنبّه عبد الرحمن بن خلدون منذ ذلك الزمن إلى هذه النزعة الرُّهابية حيال تطوّر اللّغة معجماً ونحواً وأسلوباً، فشدَّد النكير على دُعاة “السلفية” اللّغوية. فهل صار ابن خلدون أكثر تقدّمية ونزوعاً للتطوّر من العديد من “فقهاء” اللّغة المعاصرين؟!
لقد بتنا نشهد مُبالغات وتعسّفاً على المتكلّمين ومحاولة فرض قواعد وألفاظ وأساليب قديمة ليست بنت عصرها. لو افترضنا جدلاً أنّ إنكليزيّاً مُعاصِراً أراد أن يتحاور مع إنكليزي آخر من القرن 13 لاستحال عليهما التواصل بسبب التغيّرات الهائلة التي طرأت على هذه اللّغة. فعَلام هذا النَّدب والعويل على مصير اللّغة العربية وهي التي لم تتغيّر كثيرا مقارنة بما كانت عليه منذ عشرات القرون؟ أليست العربية أفضل حالاً من الإنكليزية في هذا الجانب على الأقلّ؟ فإنّ المثقّف العربي العادي بمقدوره أن يفهم أجزاء كثيرة من النصوص التراثية، وهذا دليل على أنّ العربية لم تتغيّر كثيرا إلى الحدّ الذي يُبرِّر هذا الكمّ الهائل من المرثيّات التي تبكي حال اللّغة العربية، التي باتت تحتضر في نظر الكثيرين.
فلنلاحظ كيف تبحث بعض الهيئات اللّغوية عن تيسير القواعد اللّغوية والتخفيف من تعقيدها حتّى لا يجد المتكلّم صعوبة في حفظها واستعمالها. فقد شرعت الأكاديمية الفرنسية منذ عقود في التخلّي عن بعض القواعد التي عفا عنها الزمن ولم يعُد لها موجب على غرار ما يُعرَف ﺒ “Accent circonflexe”. فلماذا يصرّ بنو جلدتنا على أن نظلّ حبيسي القرن الأوّل للهجرة في حديثنا وكتاباتنا؟
لا شكّ أنّ حماية اللّغة من غزو اللّغات الأخرى المؤدّي إلى اختلال انتظامها المعجمي والأسلوبي أمرٌ محمود، ذلك أنّ لكلّ لغة انتظامها المخصوص الذي يكفل تفرّدها. ولا ريب أيضا أنّ ترك الحبل على الغارب للصحافيّين والمُترجمين والكتّاب غير الأكفّاء للخبط خبط عشواء هو أمرٌ يصيب اللّغة في الصميم؛ إذ لا يجوز التعامل بتسامحٍ مُفرطٍ مع الألفاظ والأساليب الدخيلة، بل ينبغي أن يوفِّق هؤلاء بين الحاجة إلى توليد الألفاظ الجديدة والالتزام بقواعد التعبير في اللّغة. ولكنْ في مطلق الأحوال، ينبغي التوقّف عن التعامل مع اللّغة بحمائية مرضية، وفسح المجال أمامها لتتطوّر ولا تظلّ حبيسةً للقواعد التي صيغت في القرون الخوالي.
* باحث من تونس
تعليقات