اللغة العربية و تعزيز قيم الهوية والمواطنة.. مفارقات وتحديات

2٬716

 الحاجة إلى حكامة لغوية جيدة

تتراكم  الأسئلة حول اللغة العربية يوماً بعد يوم لتضيف قضايا و إشكالات جديدة ومتنامية باطّراد تظهر خطورتها في هذا الظرف الدقيق نتيجة جملة من التراجعات التي تعرفها  بلادنا ونخص بالذكر منها ما يتعلق بتفعيل المادة الخامسة من دستور 2011 وكل المرجعيات ذات الصلة باللغة العربية في التعليم والإدارة خاصة ودورها  في بناء المجتمع عامة ….

ونظرا لتعدد جوانب الموضوع وصعوبة مقاربة شق منه دون آخر، فإن البحث في الموضوع تواجهه صعوبات أهمها:

الصعوبة ذات الصلة بالمفاهيم الموجهة للموضوع : المواطنة – الذات الوطنية – الهوية –   القيم التي تحددواجبات وحقوق  والتزامات نحوالمجتمعالذيينتمىإليه الفرد[1]، وذلك على مستوى التحديد النظري وعلى مستوى سياق الممارسة في الواقع.

صعوبة  تتعلق بوضع اللغة العربية في المشهد اللغوي بالمغرب عامة وفي التعليم خاصة

والصعوبة الثالثة مرتبطة بالتحديات والرهانات وبآليات التجاوز .

فإذا كانت اللُّغة أقدمُ تجليات الهويَّة، مُوحِّدة وجامعة في كل المجتمعات، فإن اللغة العربية فضلا عن كونهاوسيلة تواصل وأداة تفاهم، ذات أدوار طلائعية وجذور تاريخية، ضامنة للمحافظة على المقومات الدينية والوطنية والتاريخية والحضارية، ولاستمرار العطاء العلمي والثقافي والحضاري.[2]. إن مفاهيم مثل المواطنة والذات الوطنية والهوية …تحيل علىشبكة مفاهيمية أوسع تؤطرها سياقات متعددة سياسية ودينية و نفسية واجتماعية، عربية وإسلامية وإنسانية و كونية. وما يمنح هذه المفاهيم  قوتها وسلطتها في مختلف المرجعيات المحددة لها قيمة استعمالها و جدوى وفعالية حضورها ليس في التشريعات والخطابات فقط وإنما في الفكر وفي الممارسات اليومية بالأساس .

من هذا المنطلق نشير إلى مفارقات جوهرية باعتبارها تحيل إلى المسافة الفاصلة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، بين الخطاب النظري والورقي وبين التطبيق والممارسة،  وسياقات التفعيل والنقل إلى مبادئ و سلوكات عملية ، أهم هذه المفارقات:

1- مفارقات في الخطاب

2- مفارقات في الوضع اللغوي

-3- مفارقات في ممارسة القيم

المفارقة في الخطاب  

  • تظهر بين ما تنص عليه التشريعات والقوانين وبين ما هو موجود  في الواقع، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ما يسطره  الفصل الخامس من دستور 2011 ”  دور الدولة في حماية اللغة العربية والإشراف على تطويرها وتنميتها” ونصوص ودعامات الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي أعلن عن إحداث أكاديمية محمد السادس للغة العربية قبل عشر سنوات ونيف،  ولا أثر لذلك على مستوى  التنفيذ والإعمال والممارسة .
  • على مستوى خطاب الإصلاح: برامج إصلاحية في التعليم و مخططات وبرامج تمحورت حول ( التعريب – لغة التدريس – تدبير الوضع اللغوي-…). دون أثر لبرامج الإصلاح في الواقع والممارسة، مما يفقد هذه المشاريع الإصلاحية مصداقيتها ويقلل من ثقة المواطن بها.
  • على مستوى نوعية الخطاب: الخطاب حداثي و الممارسات تقليدية، خطاب موسوم بالتمويه والعمومية وغياب أجرأة مضامينه وتفعيلها… ، وهذا يؤدي حتما إلى الانتقائية من جهة وإلى الإقصاء من جهة ثانية، وإلى الخلط والاضطراب ، وإلى الارتجال و المسارعة نحو تبني النماذج الغربية المستوردة  واستنباتها في بيئة غير مؤهلة لاستدماجها.
  •  الخطاب حول المدرسة قائم بدوره على مفارقات في عدة مستويات:  تظهر في المفارقة بين القول و الفعل( خطابات نظرية لا تجد طريقها للممارسة الفعلية بدليل تضخم لغة الأرقام و ضعف المردودية و نوعية المخرجات من جهة، و عدم التطابق بين القيم الملقنة في المناهج الدراسية و القيم السائدة في المجتمع  بدليل  تفشي مظاهر العنف-  الغش – التحرش الجنسي– واستباحة فضاءات المدارس و الإهانات التي يتعرض لها بعض الأساتذة في الفصول الدراسية وخارجها …،

المفارقات في الوضع اللغوي

  • مفارقات في تدبير التعدّد اللغويّ نتيجة هيمنة اللغات الأجنبية واستبعاد اللغة العربيّة عن الإدارات و القطاعات الحيويّة والمنتجة التي لها تأثير كبير في الحياة الاجتماعية، وعدم وجود سياسة لغويّة واضحة وتخطيط لغويّ استراتيجي له أبعاده ومقاصده وغاياته. ممّا يجعل اللغة العربيّة تستبعد عن وظائفها التي يخولها لها الدّستور إذ توكل تلك المهام للغة الأجنبيّة بدعوى عدم قدرة اللغة العربية على مواكبة العصر وصعوبة تعلمها…(؟)، فتفعل اللغة الأجنبية فعلها في المجتمع وفي الثقافة وفي الهويّة، ومن ثمّ، يتعطّل دور اللغة العربية في التنمية بتهميش دورها في إنتاج المعرفة الذي تتأسّس عليه التّنمية.[3]
  • التنكر للغة العربية وإبعادها عن مسارها التاريخ والعلمي والحضاري والقيمي ، وترسيخ تمثلات مغرضة و خاطئة لدى المتعلمين مفادها صعوبة اللغة العربية وعدم قدرتها على التعبير عن روح العصر ومخترعات العلم والتكنولوجيا …
  • وضع اللغة العربية في برامج التعليم ومناهجه بين التعليم العمومي والتعليم الخاص (تباين في عدد حصص التدريس – ضعف المعامل – الامتحانات الذاكرة والحفظ الحرفي للمعلومات،  و غياب تخصيص حصص لتعليم  العربية في بعض مؤسسات التعليم الخاص وتعويض حصصها بالمواد العلمية.

مفارقات  في القيم

إن  انهيار ‘نسق القيم”  خارج المدرسة وداخلها،  وفي مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية   يشير إلى صراع القيم بين خطاب يدعو لأمانة والاستقامة و السلوكات المدنية و الأخلاق وبين واقع يتفشى فيه الغش ويتفاقم العنف و تزداد مظاهر التحرش،  والإفلات من العقاب …، فضلا عن المفارقة بين القيم السائدة في الفضاءات المستقطبة لاهتمامات الشباب و ما تقدمه عوالم مواقع التواصل الاجتماعي ، وبين ما يجده الشباب في فضاءات الأسرة والمدرسة من عوامل محبطة أو منفرة غير حاضنة لتطلعاتهم وغير ملبية لاحتياجاتهم … فيكرس هذا الوضع في العديد من مكوناته أزمة المصداقية والثقة وأزمة الانتماء اللغوي والهوياتي.

أمام هذا الركام من المفارقات  تواجه اللغة العربية اليوم  تحديات وأسئلة مصيرية حول مستقبلها وحضورها الفاعل في مجتمع المعرفة ، ودورها  الهوياتي والحضاري، من هذه التحديات:

1-      ما هو نفسي مرتبط بأسباب استعمارية و فكرية وقانونية وسياسية وتربوية واقتصادية نتيجة ميراث من الجمود واستمرارية البنى التقليدية، ونتيجة كبوات الإصلاح وتعثرها مقابل مظاهر التحديث والتطور المحيطة بنا من كل جانب ، ونتيجة قيود العولمة بكل ما تحمله من آليات الغزو الثقافي واللغوي وأشكال تقزيم الحضارات وهدم خصوصيات المجتمعات وتحويلها إلى أسواق للاستهلاك ليس إلا .

2-      ما هو لغوي يبدو في انقسام أبناء اللغة العربية أنفسهم (بين من يدافع عن لغة الهوية والحضارة والعلم والثقافة ، ومن يدافع عن لغة المستعمر ومن يدعو للتلهيج … )، و تهميش اللغة العربية بدعوى عدم وفائها باحتياجات متكلميها وعدم ارتباطها بالعصر وبمجتمع المعرفة فيتم استبعادها مقابل استعمال الأنماط المستوردة التي تعبر عن مختلف مجالات الحياة اليومية من إعلانات و ترفيه و رياضة و تسلية و موسيقى وفن و تعامل مع التكنولوجيا الرقمية وأدواتها… وتقديمها باللغة الأجنبية .

3-      غياب البعد تدبيري يرتبط بتعثر برامج التعريب التي لم تسفر عن النتائج المتوقعة منها ولم تحقق الأهداف التي رسمت لها .

اللغة العربية في هذا الخضم تواجه تحدياتوجودية تحتاج لتجديد أشكال المصداقية. فأي استراتيجيات للتصحيح ولتجاوز الوضع القائم بمختلف مفارقاته ؟

على سبيل الاقتراح :

  1. التعجيل بتفعيل المادة الخامسة من الدستور 2011 وبنود القرارات الرمية لحماية اللغة العربية وصيانتها، باعتبارهأضحى مطلبا استراتيجيا لتحصين مقومات الهوية الوطنية وحمايتها.  واستخدام اللغة العربية  في المؤسسات الرسمية وفي المراسلات، والإعلانات وفي  وسائل الإعلام  المرئي والمسموع والمكتوب…
  2. زيادة وعي المواطن بلغته، و ربطه بتاريخ أمته ماضيا وحاضراً ومستقبلاً
  3. نشر الوعي بالمواطنة اللغويّة، وتحقيق أسس الأمن اللغوي  وتشجيع مشاريع التنمية اللغوية

وتعزيز  الانتماء اللغوي  لدى الشباب.

  1. تفعيل دور وسائل الإعلام البالغ الأهمية في تحسين مستوى المواد والبرامج المقدمة باللغة العربية الورقية والرقمية وتوجيهها لترسيخ قيم المواطنة وتشجيع الإبداع والابتكار
  2. الحاجة إلى تعزيز مكانة اللغة العربية في المدارس و تنويع مناهج تعليمها و تجديد برامجها ، وتوفير العدة الرقمية  المناسبة لتجديد طرق واستراتيجيات تعليمها وتعلمها، وإغناء محتوياتها بالأنشطة والممارسات الداعمة للهوية الوطنية باللغة العربية.
  3. تحسين البيئة المدرسية وتأهيل الموارد البشرية، والاهتمام بالتكوين الأساس والتكوين المستمر للمعلمي رياض الأطفال والتعليم الأولي خاصة في مجال آليات التمكين من المهارات والكفايات ، وتعزيز قيم المواطنةوتحصين الذات الوطنية .
  4. . توسيع دائرة استعمال الوسائل الرقمية والبرمجيات في تدريس اللغة العربية وتشجيع مشاريع إنتاج البرانم باللغة العربية، وتمكين الأساتذة والمتعلمين منها موازاة مع تأهيل فضاءات  المؤسسات لاستعمالها
  5. تدبير الشأن اللغوي  بابتكار الخطط وإعداد المشاريع ، وإنجاز الدراسات التي  تيسر اللغة العربية و تحمي الهوية العربية من الاندثار ، وذلك  بوضع آليات لمواجهة الغزو اللغوي بالتحصين  ‏العلمي والمعرفي والقيمي .

الحاجة  ماسة إذن  إلى حكامة لغوية جيدة و  مخطط لغوي وطني يتعامل مع هذا الوضع من منظور مستقبلي بما يستلزمه من عدة معرفية متجددة مواكبة للعصر ومستجداته، وعتاد قيمي وطني وكوني، وإلا بقينا لقمة سائغة و” مطمعاً للاستعمار الجديد يفترسنا بضراوته التكنولوجية، و يحولنا إلى متحفً إثنولوجي لإمتاع متذوِّقي العتيق، و يجعلنا لوحة فولكلورية لتسلية السياح،” [4]   

لا أحد يجادل في أن دور اللغة العربية جوهري في تحصين الهوية الوطنية وفي ترسيخ قيم الانتماء الوطني والتماسك الاجتماعي، وأنه بدلاً من الانغلاق على الذات لا مفر من الانفتاح على مختلف اللغات و الثقافات والحضارات، وأن لا مساومة في استبدال لغة الهوية والدين والعلم والحضارة  بأي لغة أخرى.

وتكفي الإشارة إلى أن ما ينفق في الولايات المتحدة الأمريكية على اللغة العربية يزيد على كل ما يرصد لها في جميع العالم العربي[5]. وما تنفقه منظمة الفرانكفونية والكومنولث على اللغتين الفرنسية والإنكليزية من أجل تطويرهما والحفاظ عليهما والتواصل مع العالم بهما يوضح الأهمية التي توليها هاته الدول للغتها الوطنية.

في صلة بذلك ، يقول ابن خلدون: “إن قوة اللغة في أمة ما، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم؛ لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها ومنزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم”.

المراجع+

– المنجرة المهدي، قيمة القيم، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية، 2007

– محمد السعدي، الهوية من الوحدة إلى التعدد، آفاق المستقبل، العدد7 /  السنة2010.

– عبد الله بن مسلم الهاشمي، دور منهاج الّلغة العربية في الحفاظ على الهوية العربية ومواجهة تحديات العولمة، مؤسسة الفكر العربي: المكتبة الرقمية،2010م

– مجلة اللسان العربي، منشورات مكتب تنسيق التعريب، الرباط، العدد 23،   السنة 2012 .

[1]- المهدي المنجرة: قيمة القيم ، المركز الثقافي العربية، الطبعة1،2008.

[2]- محمد السعدي، الهوية من الوحدة إلى التعدد، آفاق المستقبل، العدد7 /  السنة2010.

[4]–  اللغة والهوية، مقال سابق ،(بتصرف)

[5]-  مجلة اللسان العربي، منشورات مكتب تنسيق التعريب، الرباط، العدد 23، ص85.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات