كلمة الائتلاف بندوة: “اللغة العربية والإبداع الفني بين الهوية والحداثة”.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه
السادة الأساتذة والعلماء ورجالات الفن والمعرفة شيوخ الكلمة والنغمة، كل بصفته ومقامه،
حضرات الزملاء والأصدقاء الأعزاء
أيها الحضور الكريم
يشرفني أن استهل كلمتي بالإعراب عن الشكر الجزيل باسمي الشخصي وباسم الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، مؤسساتِ وشخصياتِ وجمعياتِ، لمركز عناية بمراكش في شخص رئيسه الدكتور مصطفى غلمان، أولا على إتاحة الفرصة لزيارة هذه المدينة/ المعلمة التي تؤرخ لمشتركنا الوطني ولعمقنا الحضاري في تناغم تام وفريد بين المجال والإنسان، بين التاريخ والمستقبل، بين التعدد والوحدة. فمدينة يوسف والمهدي شاهدة على تدبير سياسي للغة والهوية دون إفراط في الانتماء المتعدد ولا تفريط في الوحدة الوطنية والعمق العربي الإسلامي.
وثانيا على الإصرار على هذه الفرصة الجميلة والرائعة لتأبين رمز من رموز الهوية الوطنية وأحد المنافحين بصدق وتمثل حقيقي عن لغة الضاد وعن منظومة القيم الوطنية. ترى هل هناك فرق؟. الأستاذ الجندي رحمه الله كان عنوان الفكرة التي آمنا بها منذ انطلاقة الائتلاف وهي أن العربية ليست آلة تواصل وتبليغ فحسب بل هي منظومة قيم وبوجودها يتحقق وجود الجماعة التي سميت مغربا، وكل ضرب في قوتها وتمكينها هو إجهاز على كل القيم من دين وأخلاق وأسرة….والدلائل أمامنا كثيرة. فرحم الله الأستاذ الجندي الذي آمن بفكرة الائتلاف وأصر بالرغم من مرضه على مداومة الحضور في أنشطته بل ونقدنا حين نحتاج لذاك. ودوما نقول: حين يموت الكبار نحس دوما بصغرنا وبمحاولات تآكل ذاكرتنا وبالمسؤولية الملقاة على عاتقنا من أجل استكمال المسيرة ضد الجهل والتشظي والرعونة والابتذال.
أيها السادة الأفاضل
أستشعر أهمية اللحظة إذ نفتتح اليوم معاً أعمال هذه الندوة التي تناقش موضوعاً بالغ الأهمية وقليلا ما يلتفت إليه هو “اللغة العربية والإبداع الفني “. بغية التأكيد على الترابط التلازمي بينهما. فهل يمكن أن نتصور إبداعا راقيا وهادفا بلغة هجينة؟ وهل نتصور الفن مجرد حركات وأًصوات دون وعاء لغوي راق وسام؟ إن اللغة هي عنوان رسالة الفن وميسمه بها يعرف الردئ من الهادف. فنحن جيل أم كلثوم والسنباطي والطيب لعلج وفيروز وبلخياط والزروالي وبرشيد والجندي وكل أعلام الكلمة الهادفة والفن النبيل نأبى أن يختطف ذوقنا وتفرض علينا خردات فنية تضيع معها بوصلتنا في سوق الأمم وبالتالي نفرط في وجودنا الوطني الهوياتي تحت أي مسمى كان. حيث شكلت اللغة العربية الوعاء اللسني الحامل لقيم المجتمع المغربي وتراثه وفنونه. فكانت عنوان الإبداع المستمر القائم على محاولة تخليص الوجدان من قيد الزمان والمكان ورسم معالمه التعبيرية الجذابة. فمن الخط إلى المسرح مرورا عبر الشعر والرواية وغيرها من الأجناس، ظلت لغة الضاد المفضلة عند جل الأدباء والفنانين في التعبير عن مكنوناتهم واستجلاء خوالجهم الروحانية. فبلسان النابغة وأبي العتاهية وطه حسين ونزار قباني استطاع المغاربة أن يبدعوا ويخلدوا فنونهم بل وينافسوا في السوق الإبداعية العالمية. فهل نضيع كل هذا من أجل حداثة لا تأتي وتغريب يأتي على الأخضر واليابس.
أيها الحضور الكريم
هذه الندوة العلمية هي مناسبة كذلك لمساءلة الواقع اللغوي ووضع العربية في زمن فقدان بوصلة الانتماء، هي مناسبة لاجتماع نخبة الأمة من أجل الحفاظ على لغة الضاد عنوان وجودنا الحضاري وتميزنا الهوياتي. فإذا كانت الهوية هي مجموع السمات والخصائص المشتركة التي تميز أمة أو مجتمعا أو وطنا ما عن غيره، وتشكل جوهر وجوده وشخصيته المتميزة، فإن اللغة الوطنية هي الرافعة والوعاء والضامن لكل ذلك. ومدخل الهزيمة والتشظي الملاحظ هو عدم اعتزازنا بثوابتنا ومقوماتنا، وتشكيكنا في تأدية لغتنا الوطنية للوظائف التي تؤديها اللغات الأخرى، بل وربط مصيرنا الثقافي والتعليمي والتنموي بلغات أجنبية قاصرة عن تنمية مجتمعاتها الأصلية. فما تعانيه العربية اليوم من أزمات يرتبط بعضها بوضعها اللساني وقدرتها على مواكبة زمن الحداثة والتقنية والعلم، ويرتبط جزء آخر منها بالحروب المعلنة عليها تحت مسميات مختلفة تارة باسم الخصوصية المحلية وأخرى باسم الكونية والحداثة، ويرتبط جزء آخر بغيابها المتعمد أو التهميش عن الشأن العام والإدارة والإعلام والتدريس، يجعلنا نقف وقفة تأمل ومحاسبة للذات والواقع عن دورنا في الحفاظ عليها. ألا نحس بالخجل ونحن نرى الشعوب الآسيوية والإفريقية ترفع من شأن لغة الضاد ونحن نصر على إقصائها بل والإجهاز على كل منجزاتها؟ إنني هنا لأقول: لا ينبغي الوهم بإمكانية التنمية خارج العربية، ولا يمكن الإبداع خارج لغة الضاد. إن اللغة العربية أدت وظائفها كما شهد بذلك الواقع التاريخي، فالمجتمعات التي اتخذتها لغة لها لبت حاجياتها على أحسن وجه، وأدت الرسالة في حياتها خير أداء، وعبرت عن مطالبها وآمالها وآلامها وعلومها وآدابها وفنونها، وما زالت قادرة في يومنا هذا على لعب هذا الدور، ومستعدة بأن تتسع أكثر من ذي قبل لتستوعب الجديد من الاختراع والابتكار. فالعجز ليس في اللغة العربية، بل فقط ابتليت بأهل لغة عاجزين. والمدخل الفني مدخل أساسي.
السادة الحضور
لقد دأب الائتلاف باعتباره مؤسسة مدنية تضم عددا من الجمعيات والمؤسسات البحثية منذ نشأته على المساهمة في النقاش العمومي حول اللغة وتنزيل مقتضيات الدستور ومقاومة كل محاولات الانقلاب على النص الدستوري الذي وافق عليه المغاربة، وفي نفس الوقت الدفاع عن حق العربية في الوجود والضمانات الدستورية والقانونية، مما جعله رقما صعبا في المعادلة اللغوية. وهذا ما أتاح له مصداقية لدى الفاعلين السياسيين والأكاديميين وطنيا، وخارجيا من خلال عضوية العديد من المؤسسات واللجن. كما اختار الائتلاف منذ بدايته البحث عن المشترك الهوياتي وطنيا وعقديا، لذا جمع تحت سقف العربية كل التيارات والانتماءات دون تمييز أو إقصاء. يختلفون في دهاليز السياسة لكنهم يتوحدون تحت لواء الائتلاف إلى حد أن وصفنا أحد العلماء بأننا ورثة الحركة الوطنية. ونحن فخورون بذلك. لقد أتى الائتلاف تعبيرا عن حاجة أكاديمية ومجتمعية تروم النهوض بواقع العربية علما وتعليما وممارسة. وقد تأسس ليس في وجه لغات أخرى أو لمحاربة استعمالات لغوية معينة بل لإعادة الاعتبار للغة العربية وإعادة النظر في مكانتها بين اللغات الاستعمالية وللمساهمة الفعالة في خلق سياسة لغوية راشدة ومندمجة تحفظ للمغرب عمقه الحضاري وتعدديته اللغوية وأفقه التنموي. فليس من المعقول ولا من المنطقي أن تظل لغة الدستور والأمة بنص القانون والمراسيم الوزارية حبيسة الكتب القديمة والخطابات الأدبية بعيدة عن الواقع العلمي والمهني للأمة. ولن ندعي أن الائتلاف سيكون الوحيد القادر على رفع هذا التحدي الحضاري ومواجهة أتون الفوضى اللغوية، إذ ينبغي تضافر جهود كل المؤمنين بروح الانتماء العربي والحضاري للأمة ، كيفما كانت قناعاتهم الإيديولوجية والفكرية وكيفما كانت منطلقاتهم الإثنية واللغوية. الائتلاف مقصده التجميع وليس الصراع.
أيها الحضور الكرام
يسعدنا أن تكون هذه الندوة المؤبنة للأستاذ حسن الجندي إعلانا عن تأسيس المنسقية الجهوية للائتلاف بمراكش، وبذلك نُطلقُ نجمة جديدة في سماء الوطن والشروع في لم شمل كل المؤمنين بجوهرية العربية في الانتماء الحضاري والعقدي للوطن والمجتمع، المقتنعين بقدرة لغة الأمة على مواكبة عالم التنمية وولوج مجتمع المعرفة والإبداع.
إنّ اللغة العربية لن تخذلنا في مسار التقدم، وقد وسعت كتاب الله لفظا وغاية، واستوعبت تراث اليونان والفرس والهند… إنما يخذلنا أولئك المتلبسون بالتقدم من خلال توسل لغات غيرهم، لغاتٍ تحمل معها لا مفردات العلم ، ولكن وعيَ الآخر ومفاهيمَه للحياة وللإنسان، ورؤيتَـَه الاحتقارية َ لأمتنا وحضارتِنا، أولئك الذين عافَوا صدور أمهاتهم، واستعذبوا ألبان الأغيار، وامتلأت أعينهم بأشياء غيرهم بعد أن قلل الله في أعينهم كثيرَ أمتهم فتباروا في هدمها، وكثـّر فيها قليلَ غيرِها، ليقضي الله أمرا كان مفعولا .
نتمنى لأشغال هذه الندوة النجاح وتحقيق كل الرجاء
تعليقات