لماذا تركت العربية الفصحى وحيدة؟
بيار لوي ريمون – جريدة القدس
العرب ولغتهم. عنوان يمكننا أن نضع تحت مسماه فعاليات اليوم العالمي للغة العربية، التي انعقدت بإشراف منظمة اليونسكو يومي 14 و15 ديسمبر/كانون الأول.
ثمة لحظات تكتسب فيها اللقاءات الثقافية بعدا أقرب ما يمت إلى إثارة القضايا المصيرية مما يتصل بمجرد النقاش الثري، وغالبا البيزنطي.
فواقع اللغة العربية اليوم ليس بالأمر الهين. وهذا لأكثر من سبب، من بينها إشكالية الازدواجية بين المستويات العالقة بها، وكان أبو عثمان الجاحظ قد لامسها مبكرا بكلماته الخاصة، حينما قال «لا يشبه حديث الخاصة حديث الأمة والسوقة» وبطبيعة الحال، لا يسعنا اليوم إلا التحفظ على هذا التصنيف، لكن بقي صحيحا ووجيها في الوقت نفسه أن مسألة مستويات اللغة العربية أطلقت للنقاش وهو نقاش لا يزال متداولا إلى الآن.
نعم. السؤال مطروح. بأي عربية سنتحدث من الآن فصاعدا؟ وبالتالي أي عربية سنعلمها لأولادنا؟ تعرف اللغة العربية الفصحى الوسطى بأنها اللغة المتداولة في الأدب الحديث، في الرواية العربية مثلا، أو بوصفها لغة الصحف، كذلك القنوات الإخبارية وغيرها من مجالات المعرفة- بمفهومها الموسع- «ذات الطابع الرسمي». لكن «الطابع الرسمي»هذا يتحرك ضمن إطار ليس جامدا، بحيث «رسمية» مواقف الاعتماد على اللغة العربية الفصحى صار يدب إليها التفسخ. وحينما أقول أنا «التفسخ» فقد يعتبرني البعض مقصرا في حق معطى لغوي لا يجدر به أن يكون محل نقاش، وهو أن اللغة تتطور. فأنا ومن تعلم اللغة العربية من جيلي، خاصة منهم من عاشوا وترعرعوا في بلد عربي، وإن لم يكونوا من الناطقين بها أصلا – وأنا من هؤلاء- تعلموا في سياق يختلف تماما عن سياقنا المعيشي الحالي. كان أساتذة اللغة العربية يحدثوننا بالفصحى فقط، ولم يخطر في بال أحد من المتعلمين التحاور معهم بغيرها، ومن تجاسر، سواء أكان حدثهم بالفرنسية أم بالعامية المغربية، خاصة الأخيرة، كان ينال عقاب الباب… إن لم يكن عقاب «الإدارة».
هكذا كان يجري النظام في درس العربية أيام الصبا، إما أن تتحدث بلغة طه حسين ونجيب محفوظ، وإما تتفضل غير مطرود.
ولئن كان يكتسي هذا النظام ما يكتسيه من المبالغة، يمكننا من جهة مقابلة أن نلتمس له الأعذار… أعذار من مواقف «رسمية» شتى بات الاعتماد فيها على العربية الفصحى أمرا فرضه واقع متعدد الوجوه، على منوال واقع مغربي سآخذه كمثال متجاوز الآن الى حد كبير في المغرب، كما في سواه من مناطق العالم العربي: قناة تلفزيونية حكومية تبث موادها بالفصحى ليل نهار – بما فيها الرسوم المتحركة- إذاعة وطنية لا تبث سوى ساعة من «الدارجة» في اليوم عبر برنامج كان يسمى «دكان الناس» للصحافي المغربي المتخصص في الشؤون الاجتماعية المرحوم محمد أبو صواب، وأذكر كيف التقيت به في دار البريهي للإذاعة المغربية ذات مرة، فقلت له «أنت تتكلم عربية غريبة على الهواء، كيف عملت حتى لا تكون ممنوعة؟» وأترككم تتصورون أزمة الضحك الجماعية التي انتابت الحشد الصغير في الأستوديو حينئذ.
نعم دخلنا عهدا لغويا ذهب البعض في نعته بعيدا، فلم يتوان عن استخدام تعبير «ليسقط سيبويه»! أكيد لم «يسقط» سيبويه…ولكن الأكيد أيضا أن سيبويه «يترنح».
أعرف، سيتهمني مرة أخرى أهل العربية من جيل اليوم بمحاكمة اللغة من منظار متعلم فترة عفا عليها الزمن. ولهذا أطرح السؤال وبإلحاح، أي عربية يعلمها الأكاديمي لأبناء هذا الجيل؟ لو رجعنا إلى مقالة glossia of the world للباحث الشهير Ferguson التي نشرها في نهاية الستينيات من القرن الماضي، لم ينظر هذا الأخير لازدواجية العربية إلا من خطوط عريضة جدا، حيث بقيت «اللغة العربية الوسطى» في هذه الدراسة، في حكم «المنطقة الوسطى» فعلا… لكنها وسطى بين حالات متعددة من العربية الفصحى، بينما،على المقلب الآخر، لم تنل العامية من دراسة العالم الغربي الشهير نصيبها من «الوسطية». وإلى اليوم… فأحدث ما وقع تحت يدي من أبحاث صدرت في الموضوع اكتفت هي الأخرى بحديث عام عن «عربية وسطى» لم تضع «الإصبع على بيت الداء» أكثر من سابقاتها فلم تحلل قابلية الاعتماد على «عامية وسطى».
عامية وسطى…أليست في الواقع قضية الساعة اللغوية ؟ ليس دعوة مني إلى إسقاط اللغة العربية الفصحى من المعادلة بقدر ما تكون محاولة اقتراح لإعادة الأمور إلى نصابها. لنفكر في الكيفية الأكثر تمثلا للواقع اللغوي في حصص التدريس. وقد تتوزع المسألة في شقين: لغة فصحى بالمعنى التقليدي المتداول تسمح للطلاب بمواصلة الانتهال من مصادر التراث قديمها وحديثها، ومستوى لغوي يسعى لجمع أكثر الألفاظ والعبارات العربية تداولا في مواقف الحياة اليومية. ومن هنا دعوتي أيضا إلى التفكير في إنتاج معاجم لغة عربية عامية وسطى.
كما لانتشار اللغة العربية بعد دبلوماسي: للدول العربية سياسات تفرض من خلالها توجهات ذات وزن في الخريطة العالمية، ونعرف جميعا بأن ليس لكل طرف عربي في المنطقة موقف واحد من أزمات الشرق الأوسط، بما فيها أكثرها حدة. وإن لم يكن همنا جيوسياسيا هنا، بل هو مجرد لغوي، فلا بد من الإقرار رغم ذلك بأن لا سياسة خارجية ولا داخلية قابلة للتنفيذ من دون لغة. وإذا كانت اللغة تعد «سلاحا ذا حدين» حسب المقولة الشهيرة، فيمكن تذليل هذا الكلام بإضافة إلى «الحدين» المسلم بهما في القول المأثور، تعدد أبعاد من السهل الدلالة على فعاليتها. يصبح عندنا القول بالتالي: «اللغة سلاح متعدد الحدود».
أجل، ينبغي ألا يفوتنا التمييز الاصطلاحي الذي وضعه عالم اللسان السويسري Ferdinand de Saussure بين «اللسان» و«اللغة»، بحيث تصور اللغات أرضية يتجسد فيها اللسان لتصبح كل لغة حينئذ ناقلة ثقافة المتكلم الذي يحول «اللسان- الآلة» إلى لغة تنقل لباقي المتكلمين «حامضها النووي الثقافي» الذي يطرح للتداول والجدل والنقاش.
اللغة العربية، شأنها شأن باقي اللغات، ناقلة ثقافة، إذن موروث وعقلية، والمشكلة أن قوة هذا الحامض الثقافي، خاصة فيما يتعلق باللغة العربية، لم تنل حقها من القياس السليم. وستناله عندما يفكر جديا في تنظير علاقتها بالواقع أولا، ثم في تطبيق هذه العلاقة ثانيا.
ليست لغة الضاد مجرد لغة سيبويه، وإن تكن كذلك. هي لغة دبلوماسية دولية، هي لغة دين يدين به مليار من البشر، هي أيضا لغة أقليات يدينون دينا غيره، هي لغة تفاوض في صفقات قادرة على تحدي هيمنة الإنكليزية.
اللغة العربية لغة وزن.
لماذا تركت اللغة العربية الفصحى وحيدة ؟ لست أنا من تركها. فهي معشوقة حياتي أحبها إلى درجة الجنون. الواقع هو الذي تركها تسير على سكة غير السكة المعهودة «أيام زمان»!
مسؤوليتنا جميعا أن نجعل سكة اللغة العربية المعاصرة سكة آمنة. وهي مسؤولية جسيمة. فلانهدرها.
٭ باحث أكاديمي فرنسي
تعليقات