​تأمّلات في المدرسة النظاميّة ومبادئها

606

على الرّغم من تعالي الأصوات المندِّدة من هنا وهناك باهتراء مؤسّسة المدرسة في صورتها الحاليّة، فإنّ الحسّ الشائع المُشترَك ما يزال يربط بصفةٍ آليّة مفهوم النجاح في معناه العامّ بمِقدار الترقّي في السلّم الأكاديميّ، ويَعتبر الفشل، في صورته الأكثر شيوعاً، رديف الإخفاق في المدرسة. ولذلك استفظع الكثيرون موقف المفكّر الفرنسيّ الشابّ ذي الأصول المغربيّة “إدريس أبركان” صاحِب كِتاب “حرّروا أدمغتكم” لمّا اعتبَر مُصطلَح الفشل الدراسيّ معبِّراً في الحقيقة عن مفهوم فشل المدرسة وليس عن فشل التلميذ كما استقرّ في الفَهم الشائع.

بل إنّه اعتبر مؤسَّسة المدرسة في صورتها النظاميّة الحاليّة المِحضَنة الفضلى للفشل المستقبليّ، والرّاعي الرسميّ للفرص المهدورة، وصوّرها مؤسّسة فاقدة للصلاحيّة تهيِّئ الناشئة للإخفاق من حيث تحاول الترقّي بهم، وذلك بسبب ما ترسّخه في التلاميذ منذ نعومة أظفارهم من عاداتٍ سيّئة ليس أقلّها الطّاعة المثلى والإذعان المُطلَق، وبما تجذّره أساليبها التربويّة القائمة أساساً على تنميط المختلف ونمْذجته وإخضاعه لمعيارٍ واحدٍ، من تدريبٍ مُمنهَجٍ للفرد على التعايش مع الملل ومُعاشرته والألفة معه، ومن إقبالٍ مؤسفٍ على الدخول في القوالب الجاهزة خوف النشوز عن المجموعة.

وبهذا الاعتبار، يُضحي الفشل في المسار المدرسيّ قيمة إيجابيّة، بل يضحي “ديبلوماً” مرموقاً على حدّ عبارة “أبركان”، وهو عنده ديبلوم لازمٌ لكلّ مَن ينوي النأي بنفسه عن الطرق المعبَّدة من أجل المُغامَرة بإنشاء شيء عظيم وغير مسبوق.

والحقيقة أنّنا نجد فعلاً في المساراتِ الفرديّة لبعضِ المشاهير من صنّاع الأموال الطائلة، أو أصحابِ الاختراعات الفريدة أو الآثار الإنسانيّة العظيمة، شواهدَ تدعم هذه الفكرة على غرابتها. فقد لفظت المدرسة الأمريكيّة مبكّراً المُخترِع الألمعيّ “توماس أديسون” بعد أن وجده معلّمه طفلاً بليداً ثقيل الفَهم لا يُرجى منه خير. أمّا “ألبرت أنشتاين”، الذي عانى في طفولته من صعوبات في التكلّم والقراءة والكتابة، فقد طردته المدرسة الألمانيّة ولمّا يبلغْ الخامسة عشرة، إذ اعتُبر مصدر تشويشٍ بسبب ثورته المبكّرة على النظام وولعه بالفوضى. وتكشف سيرة “تشارلز داروين” صاحب نظريّة النشوء والارتقاء أنّه كان طالِباً رديئاً مولعاً بهجْر مَقاعد الدرس ليركَب الخيلَ في براري إنكلترا مُستطلِعاً النبات والحجارة. ولم يكُن “إسحاق نيوتن”، رمز العِلم الحديث، تلميذاً نجيباً أوّل عهده بالمدرسة حتّى أنّ والدته لم تتردّد في سحبه منها لضعف أدائه فيها. ولا تخلو سيَر “بيل غايتس”، مؤسِّس الشركة الإعلاميّة الأكثر شهرة في العالَم، و”ستيف جوبس”، المُخترِع الفذّ في مجال الإعلاميّة والذكاء الاصطناعيّ، و”مارك زوكربرغ”، مؤسِّس الفايسبوك، من حدث الفشل الدراسيّ، فجميعهم أخفقوا في إنهاء تعليمهم الجامعيّ، قبل أن يشيّد كلّ واحدٍ منهم إمبراطوريّته الخاصّة مُستغنياً عن الشهادات العلميّة.

واللّافت للانتباه أنّ هذا التنافر شبه المطّرد بين النبوغ الاستثنائيّ وحُسن الأداء المدرسيّ ليس مُقتصراً على أهل الاختصاص العلميّ، فعددٌ لا يحصى كثرةً من كِبار الكتّاب في العالَم لم يتمّوا تحصيلهم الجامعيّ، أو انقطعوا عن التعليم في مرحلة مبكّرة من مَسارهم الدراسيّ، أو لم يطأوا فضاء المدرسة النظاميّة أصلاً. وإذا كان معظمهم، ولاسيّما في العالَم العربيّ، يتحرّج من الإشارة إلى إخفاقاته الأكاديميّة، فإنّ عدداً منهم لم يستنكف من أن يُباهي بعصاميّة تكوينه. ولنا في سيَر عبّاس محمود العقّاد ومحمّد شكري وحنّا مينة ومحمود بيرم التونسيّ وعلي الدوعاجيّ وفدوى طوقان وغيرهم، شواهد من ذلك.

بيد أنّ هذه الأمثلة، وإن تعدّدت، ليست بعد التمعّن سوى استثناءات لا تخرق القاعدة. فما أكثر ما اقترن الذكاء بالنبوغ المدرسيّ فجَرَيا متلازمَين في مضمارٍ واحد. وما أوفر المشاهير الذين زيّنوا سيَرهم الذاتيّة بشهادات علميّة مرموقة ثمّ شرّعوا من بعد ذلك أبواباً في العِلم واسعةً، وخلّدوا أسماءهم في التاريخ الإنسانيّ. ثمّ إنّ قصص النجاح التي استغنت ضمن فواعلها عن الشهادة العلميّة لا تدلّ على أنّ النجاحَ الباهر في الحياة مشروطٌ بالفشل في المدرسة، ولا هي مفيدة أيضاً في استخلاص علاقة سببيّة ما بين الإخفاق المدرسيّ من جهةٍ والعقلِ الفريد القادر على بلوغ النجاح الاستثنائيّ من جهة أخرى، على نحو ما يحبّ أن يستدلّ عليه منتقدو النظام التعليميّ في صورته الحاليّة من أمثال “أبركان”. بل إنّ مَثَلَ هذه القصص بالنسبة إلى جمهور التلقّي كمثَل الحبوب المضادّة للاكتئاب، تنحصر فائدتها في التحفيز النفسيّ الإيجابيّ، وهي في أحسن الحالات سرديّات طريفة مُمتعة تُقاوِم الشعور باليأس الذي غالباً ما يُلازِم حالات الإخفاق الدراسيّ وتقدِّم لمَن فشلَ في دراسته جرعةً من الأمل ترياقاً مضادّاً للإحباط.

على أنّه ينبغي لنا أن ننتبه إلى أمرٍ آخر. فمن غير المُستبعَد أن يكون إنكارُنا على المُزرِّين بمؤسّسة المدرسة مواقفَهم المتطرّفة، ورفْضُنا جحودَهم فضلَها في صناعة الذكاء، تنفيساً عن عقدٍ نفسيّة زادها توثيقاً تاريخٌ طويل من تقديس المؤسّسة التعليميّة بسبب الخلط بين المعرفة في ذاتها والهياكل المخوَّلة لتقديم تلك المعرفة. ولعلّه يكون من المفيد أن نتدبّر، بهدوء وبعيداً عن السجال، الدواعي التي حملت “أبركان” وعدداً من المتفكّرين في الشأن التربويّ على إطلاق النّار على المدرسة في صيغتها المؤسسيّة.

من المعروف قيام المدرسة النظاميّة على مبدأ أساسيّ هو مبدأ التعليم للجميع، فبعد أن كان التمدرس حكراً على فئة معيّنة من ذوي الحسب أو ذوي المال، سمح تعميم التعليم على الأطفال في سنّ التمدرس، من خلال فرض إجباريّته وتوفيره مجّاناً أو برسومٍ مُنخفضة، من توفير فُرصٍ مُتكافئة أمام ملايين التلاميذ للاستفادة من البَرامج التعليميّة التي تقدّمها المدرسة. لكنّ هذا المبدأ، على نبله، حتَّم على المدرسة طمْس الفوارق بين روّادها ومُعاملتهم كما لو أنّهم نسخٌ متكرّرة مُتماثِلة من كائنٍ نظريّ مُؤمثَل هو التلميذ الأنموذجيّ الذي اصطنعت المدرسة، بالقياس إليه، معاييرها في التقييم.

سلَّمت المدرسة إذن بتطابُق هذه النسخ المُختلفة في شخصيّاتها واستعداداتها وانفعالاتها مع هذا الكائن النظريّ المؤمثَل، وألبستها زيّاً نظاميّاً موحَّداً لتخفيَ رتابةُ مظهرها التنوّعَ في مخبرها. هذه الاختزاليّة المفرطة في التعامل مع ثراء الكائن البشريّ وتعقّده جعلت من الفضاء المدرسيّ فضاء لا يخلو من عنفٍ. ولئن زال اليوم من معظم المَدارس في العالَم العنفُ الماديّ المتمثّل في العقوبة الجسديّة، فإنّ العنف النفسيّ مستمرّ على الوتيرة نفسها منذ قرنَين، وقد أحسنَ أنشتاين وصف مضمونه وهو يروي أمثولة السمكة الحمراء، التي قضت عمرها مؤمنة بكونها فاشلة وغبيّة لأنّها لم تتمكّن قطّ من اجتياز اختبار تسلّق الأشجار.

وبالمثل، فإنّ في اختبار التلاميذ في المسائل نفسها من دون اعتبارٍ مبدئيّ لمؤهّلات كلّ واحد فيهم ولذوقه وميولاته، ثمّ تصنيفهم من بعد ذلك تراتبيّاً قياساً إلى علاماتهم في الاختبارات، هو عمليّة في منتهى الاعتباط، تُكرِه التلميذ على أن يصدّق أنّ قيمته الذاتيّة مساوية لقيمة العلامة التي تحصّل عليها، وأنّه مضطرّ إلى أن يتعايش مع فكرة أنّه غبيّ إلى أن يثبتَ بعلامة مرتفعة في الموادّ جميعها عكسَ ذلك. يسمّى هذا في عِلم النفسيّ العرفانيّ “العجز الملقَّن”، وفيه عنفٌ رمزيّ غير مسبوق وإن كان التواتر والعادة قد أعميا الجميع عن التفطّن إلى ذلك.

وأكثر ما يدعو إلى العجب لزوم المدرسة شكلاً واحداً منذ ظهورها إلى اليوم، وتشبّثها بأساليبها التعليميّة واختياراتها البيداغوجيّة من دون السعي إلى الاستفادة من مكتشفات العِلم الحديث في علوم الأعصاب مثلاً. أفليس العضو الأساسيّ الذي تشتغل عليه المدرسة هو الدماغ؟ فكيفَ تُحافظ المدرسة إذن على خياراتها التربويّة السابقة للثورة المعرفيّة في مجال العلوم العصبيّة كما لو أنّ هذه الثورة لم تحدث قطّ؟ ليس من طاقتي الحديث عن نتائج البحوث العصبيّة التي عَمي المشتغلون بصياغة السياسات التعليميّة عن قيمتها فلم يفيدوا منها في تغيير وجه المدرسة الحديثة، ولكنّني أشير إلى مبدأَين تعلّميَّين تجمع عليهما مؤلّفات عِلم النفس التربويّ ولا تُحسن المدرسة توظيفهما بل لعلّها تُعطِّلهما أصلاً من دون أن تقصد إلى ذلك وهُما الشغف من ناحية والخطأ من ناحية أخرى.

فأمّا الشغف فهو محرِّك الشوق إلى المَعرفة، وهو محفِّز الدماغ على بذل الجهد من دون كلل لأنّ الجهد المرفوق باللّذة يُعتبَر لعباً، واللّعب كما هو معروف مفتاح التعلّم الذاتي، وكلّما كان الإنسان شغوفاً بموضوعٍ ما زادت طاقته الذهنيّة والجسديّة على الاشتغال به والانغماس فيه وسَهُل عليه من الجهة العرفانيّة إدراك مستوى الخبرة فيه. وأمّا الخطأ فهو الأسلوب الطبيعيّ التي يستخدمه الدماغ للتعلّم سواء تعلّق الأمر بنشاطٍ حركيّ أو بمجالٍ معرفيّ، فهو مَعلَمٌ ضروريّ يقيس به الدماغ المسافة الفاصلة بينه وبين المعرفة الصائبة أو الحركة الدقيقة. ويكفي أن نتذكّر المنجز التعلّميّ العملاق الذي يدركه الطفل في وقت قياسيّ حين يتعلّم المشي والكلام، ونستحضر عدد المرّات التي تعثّر فيها جسده فكبا ثمّ استقام، وتعثّر فيها اللّسان فتلجلَج ثمّ أبان، لندركَ قيمة الوقوع في الخطأ في سياق التعلّم الناجع والسريع.

فإذا ما عدنا الآن إلى الأساليب التعليميّة في المدارس النظاميّة ألفيناها قائمة على كبح الشغف من خلال إرغام التلميذ على الاشتغال بالموادّ جميعها بصرف النَّظر عن ميولاته. فإذا عشق التلميذ مادّة ما وخصّص لها كلّ طاقته ونبغ فيها تكفّلت ضواربُ الموادّ التي تحتسب بها المعدّلات العامّة بمُعاقَبة شغفه. فخيرٌ للتلميذ بمنطق المدرسة أن يكون متوسّطاً في كلّ شيء من أن يكون ممتازاً في مادّةٍ واحدةٍ ورديئاً في البقيّة. يُفقد هذا المنطق العمليّة التعليميّة أهمّ روافد نجاحها وهو الفضول المعرفيّ، ويغلّفها بغلالة من السأم تجعل المعلّم والمتعلّم معاً في حالةٍ من المعاناة تفسد البيداغوجيا. ومثلما تُعاقِب المدرسةُ الشغفَ، تُعاقِبُ الوقوع في الخطأ وتعتبره عدوّها اللّدود، فكلّما أخطأ التلميذ عرَّض نفسه إلى عتابِ معلّمه وسخرية زملائه وحَرم نفسه من التقدير الذي توفّره العلامة الكاملة.

هل تُهيّئ المدرسة حقّاً مرتاديها لأن يكونوا خلّاقين مُبدعين؟ هل تدرّبهم على أهميّة العمل الجماعيّ أم تنمّي فيهم قيمَ الفردانيّة وتغذّي منطق التنافس بدلاً عن منطق التعاون؟ هل تَمنحهم فضاءً لتنمية الذّات وتفتيق أكمام قدرات هائلة تنتظر الخروج من طور القوّة إلى طور الفعل؟ أم تكبح بواسطة “العجز الملقَّن” جماحَ تلك القدرة الهائلة فتظلّ في حالة كمون إلى الأبد؟

تحضرني ههنا حيلة كان يستخدمها مدرّبو الفيَلة قديماً لتقييد الفيل الضخم بحبلٍ خفيفٍ عوضاً عن سلسلة الفولاذ الثقيلة. كانوا يربطون الفيلَ صغيراً بحبلٍ في قدمه لا يقدر على قطعه، ويكبر الدغفل ويضحي فيلاً قادراً على كسر الفولاذ.. وتكبر في ذهنه فكرة أنّه عاجز عن قطع الحبل… فلا يحاول قطعه أبداً.

 أميرة غنيم 

نشرة أفق

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات