“كنز فرنسا”: الضاد بقفّازات دبلوماسية

702

مُرافعةٌ جديدةٌ، هذا الكتابُ، لِصالِح الضاد صِيغت، هذه المرة، بقلم شخصية سياسية وثقافية معروفة، جاك لانغ (1939) الذي شغل عدّةَ حقائب وزاريّة في حكومات باريس الاشتراكيّة السابقة، ويَشغل الآن منصبَ مدير “معهد العالم العربي”، أحد أعْرَق مُؤسسات الثقافة العربية بفرنسا.

في كتابه الجديد، الصادر منذ أيام عن “شارش-ميدي”، بعنوان “اللغة العربية: كَنزُ فرنسا”، ينافح هذا السياسي المُخضرم عن ضرورة تدريس الضاد في المدارس الفرنسية، بمراحلها الابتدائية والإعدادية وحتّى الثانوية. وقد ذكَّر، في سبيل البرهنة على دعوته، بأنّ العربية هي خامس لغة على المستوى العالمي، ومع ذلك، فإنها تظلّ، لدى الجمهور، لغةً مجهولةً، بل مُخيفة، تَكتَنفها هالات متناقضة، تَخوُّفٌ ورغبَةٌ، وتغذيها سلسلة من جاهِزِ الأحكام التي لمْ تخفَّ حدّتُها على مرّ القرون. وهي أحكامٌ لا تفتأُ تردّ الضاد إلى صميم النقاشات والمجادلات السياسية والحزبية. والحاصل تَعاملٌ معها مغلوطٌ، وفي أحسن الأحوال، غير سويٍّ.

في هذا الكتاب الذي أرادَه صاحبُه إسهاماً في النقاش الدائر حاليّاً حول مكانَة الضاد في نسيج الجمهورية، بل وضرباً من “النضال”، والتوصيف له، يتصدَّى لانغ إلى كلّ الأفكار النمطيَّة السلبيّة التي تحيق بالضّاد وتعوق تعليمَها في ربوع فرنسا. فقد دَعا القارئَ إلى الإبحار في التاريخ الثري لهذه اللغة في بلاد “الفرنجة”، وكيف بدأ تدريسها، منذ قرون، حيث تعاقبت أجيالٌ على التعلّق بها، سواء أكانت من رجال الكنيسة أو التجار أو الدبلوماسيين. وقد صارت اليوم، رغم العراقيل المبثوثة في سيبل إتقانها، راسخة الحضور في المشهد الثقافي الفرنسي، بل جزءاً من التراث الوطني لهذا البلد.

وبالاستناد إلى العديد من الإحصاءات والجداول وشواهد التاريخ، دافع صاحب كتاب “ما أعرفه عن ميتران” (2011)، عن ضرورة إيلاء العربية المكانة المكينة التي تستحقّها ضمن النظام التربوي للجمهورية، وأهاب أن تتولّى مؤسساتُها، وعلى رأسها “المدرسة العلمانية”، تدريسَها لأنها “كنزٌ” سيعود بالفائدة على الدولة وعلى مواطنيها”. كما دعا لانغ إلى القطع التام مع التصوّر التقليدي للضّاد الذي لا يرى فيها سوى لغةِ هجرةٍ ومُهاجرين، طالما اقترنت بهم رمزاً على وضعهم المهمّش: غمغمةُ كادحي المغاربة، وبعض مَشارقة، قدموا إلى فرنسا بحثاً عن لقمة العيش. ورأى أنَّ هذا القطعَ العاجل كفيل بإدماج تعليمها داخلَ النسيج المجتمعي والثقافي الفرنسي، وهو ما سَيُعدُّ علامة انفتاح وتعددية لغوية مفيدة.

بيد أنَّ جاك لانغ نادى، ودونَ أدنى مُواربة، إلى “افتكاك” تعليم العربية من أيدي مَن أسماهم “الدينيين”، في إشارة، ربّما، إلى الجمعيات التي تنشط داخل المساجد والمُصلّيات. وهذا الجانب من “بيانه” هو نقطة الضعف الرئيسة، لأنه يفتعل عدوّاً لا وجودَ له ويختلق فزَّاعةً، قاسمة لفئات المجتمع. فليس غالب هؤلاء “الدينيين” سوى فرنسيين مِثله، يعيشون قناعاتهم بما تيَسَّر.

والأجدر اليوم أن تُمدَّ لهم جسور التواصل، لا أن تُشَيطَنَ جمعياتُهم القانونية بشكل منهجي، بل وتشجَّع لأنها تقوم بدور جبّار لا فقط في تدريس الضّاد وإنما في حماية الجمهورية ذاتها. والشاذ نادرٌ. كما أنَّ تعليمَ العربية لغةً، ممزوجةً بمضمون ديني، ليس جَريمة، بل هو مَطلبٌ شعبي لمئات آلاف أطفال الجمهوريّة. وعلى الدولة الفرنسيَّة، ممثلةً في وزارة التربية والتعليم أن تعمَلَ على تطعيم برامج تلك الجمعيات وتطويرها حتى لا تنغلق على نفسها أكثر، ولا تذوي مجهوداتها في مناهج بالية ومضامين رجعيّة. هذا البيان كاد يكون لفتةً إيجابيةً لولا خطاب التأشير إلى الإسلام والاستماتة في فصل الضاد عن هذه الديانة، كأنّما هي وباء، ولولا تحقير منهجيٌّ واستنقاصٌ من عمل الجمعيات والمساجد، وهي التي تضطلع بالدور الأكبر من هذا التعليم، وإن جُحِدَ. لم ينكر أحدٌ أنّ بعضَ العرب غير مسلمين وأنَّ جلَّ المسلمين ليسوا من العرب. ولكن لا يمكن لمعادلة كهذه، وهي بديهة من البداهات السائرة، أن تعطي الحقَّ في مُعاداة أطرافٍ اختارت دمج اللغة العربية في إطارها الحضاري والثقافي-الديني، الذي عنه انبثقت منذ القرن السابع، بل والذي ضمن لها أسباب بقائها والأمان، وإلا لكانت انقرضت مثل بائد اللغات واللهجات، كالآشورية والنّبطية…

نجم الدين خلف الله

العربي الجديد

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات