قراءة في رواية “رعشة الجنون”
محمد سعيد
ما هي الرعشة؟
ليسرً فيك مبدأ الحياة ينبغي أن تسمح لـ”الرعشة” الأصلية أن تمسك وتنقل مبدأها إليك (هذا ما يجعلها رعشة) لوجودك الصامت غير المرتعش، فالأصل في الرعشة هو “الرًفرَفة”، فما هو أسلوب “الرفرفة” في الوجود؟
في البداية يكون الشيء موجوداً، لكن في رواية “رعشة الجنون” للرفرفة معنى مرتبط بماهية الإنسان وكنهه.. الرعشة مرتبطة بقلق السؤال والكينونة والتأنسن عند بطلها المجنون العاقل.
تذكر أن الرعشة هي أن “أحس” (أن أكون)، وأن الرفرفة هي أن يختفي المرفرف ويظهر بحيث يتجه الزمن الذي يفصل بين الظهور واختفاء الشيء. فما الذي يثيرنا في هذه الرواية؟..يثيرنا موقف المجنون وزوجته. هذا المجنون شخصية حقيقية أم غير حقيقي؟ في الوقت نفسه نحن نعرف أن هذا المجنون مجرد وهم وليس أكذوبة وهم.
الكاريكاتور، مثلاً، يكون جيداً بقدر ما يمكننا من التعرف على الشخص الذي يدل عليه بسهولة، رغم أن الرسام يُبعده عن حقيقته بالتغييب..المبدأ نفسه يعمل في سيكولوجيا الدغدغة..لكي تدغدغ يجب أن تلمس جزءا حساسا من الجسد بشكل خفيف يوهم بأنك لا تلمسه، هذه هي رعشة التفكًه.
مما لا شك فيه أن الإبداع فعل أنطولوجي، يمارس نوعا من التطهير حسب أرسطو لنفوس اشتعلت جذوة الإبداع في أغوارها، ولأرواح تحترق في أتون قلق السؤال والوعي الجحيمي بالذات والوجود، قلق يدفعهم إلى المقاومة ومجابهة كل سطحية وابتذال يهدد وجودهم.. “وكلما كان الإنسان واعيا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه”، كما تقول نوال السعداوي، قلق يجعلهم على شفا حفرة من الجنون، ليغدوا الفعل الإبداعي ضرورة نفسية أكثر مما هو ضرورة ثقافية، يلجم جموح كل سوداوية وحالات اكتئاب، وقد يمتص كل عصاب أو توتر.. أحيانا يكون السبب في توهج قلمه الإبداعي.
وإن كان جنون بعض المبدعين والمفكرين الغربيين مرضيا أكثر منه إبداعياً، لم يقو الإبداع والفكر على مقاومته، لكنه أنجب أعمالاً عظيمة، لذلك امتدحه “ميشيل فوكو” بكل حماسة في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، خاصة جنون الشاعر هولدرلين وجيرار دونيرفال، والفيلسوف نيتشه الذي تفاقمت حدة جنونه مع تفاقم حدة تطرف أفكاره، وكذا جنون فانسان فان كوخ، الرسام الهولندي المشهور الذي أدخل المصحة العقلية ومات منتحرا.
هي إذن حالات هذيان وتوتر لم تعرف حدودا في الانفعالات، انغمس فيها هؤلاء العظام، والتي أعتبرها كلفة لحرية وعمق أفكارهم، أو الجن الذي يلهم الشعراء من مس الجن ومن شيطان ينفث في روعهم الشعر، ولم يخل شاعر جاهلي من قرينه.. أشهر الشياطين على الإطلاق هو “لافظ بن حافظ” وتأتي شهرته من كونه قرين “أمرؤ القيس” شخصيا. هناك قرناء أقل شهرة مثل “هبيد بن الصلادم” و”هاذز بن ماهر” و”مدرك بن واغم”، وهم أصحاب عبيد بن الأبرص والنابغة.
نجد مبدعين أصابهم مس من الجنون، كمجنون ليلى. وهناك أنطولوجيا للشاعرة جمانة حداد “سيجيء الموت وسيكون له عيناك”، ذكرت فيها 150 شاعرا انتحروا في القرن العشرين، من بينهم مثلا الشاعر خليل حاوي والشاعران العراقيان إبراهيم زاير وقاسم جبارة…وهو انتحار سبقته في أغلب الظن حالات من الاكتئاب والخيبات السياسية كما يرجح.
وأقف هنا،عند الاكتئاب الذي أنهى حياة باحثة البادية، أو ملك حنفي ناصف، في حالة من الاضطراب العصبي، مثلما كانت نهاية مي زيادة في مستشفى الأمراض النفسية.. وإن كان يرى أغلب الكتاب والباحثين (عبد الله الغدامي، مثلاً) أن هذه الحالات السيكولوجية المضطربة للكاتبتين كلفة تؤديها المرأة الكاتبة حين تجرأت على الاقتراب من مملكة الرجل الحصينة، وحين خرجت من “رحم الحكي إلى نهار اللغة الباهر للبصائر”؛ على اعتبار أن الكتابة عند المرأة تنشأ في علاقة جبرية مع الاكتئاب ويتلازم القلم والألم، وأن الهستيريا والألم والحزن كلها أمور ترتبط في الذهنية الثقافية بجنس المرأة، مع أن تاريخ الثقافة الإنسانية يشهد أن حالات الاضطراب النفسي لم تكن بملامح أنثوية فقط، بل لازمت كل قلم أفرط في حساسيته وعزلته ورهافته، وفي لا رضاه وعدم قناعته بما يحوم حوله، وأن هذه الحالات السيكولوجية المضطربة تنبجس من رحم تمزقات داخلية وخيبات، وانكسارات المبدع، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية.
لكن حيال هذا الجنون المرضي هناك جنون جميل مستحب يثري العملية الإبداعية أكثر مما يعرقلها، “يكسر لحسابنا سنة التعود”، وفق سان جان بيرس، ويخالف الجاهز والمألوف ويميل لصوفية وعزلة متوحشة، وينسج أجواء من المغايرة والانزياح والاختلاف والغواية والتمرد، والانتشاء بالذات والوجود داخل عوالم اللاعقل واللاوعي واللانظام، جنون يحتكم إلى رؤية عقلانية.. وكما يقول أندريه جيد “إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل ينبغي التموقع بينهما بالقرب من الجنون حين نحلم، وبالقرب من العقل حين نكتب”.
يقول الكاتب في الصفحة 90 / 911 “يبتسم المجنون على مضض ابتسامة محبطة تعبر عن هزيمته النكراء ويقول بيأس أخير: “ولكن ما وقع لم يكن وهما، ولا هلوسة وليس حلما، إنه الحقيقة مجردة”، وهنا يبدو لنا تأثر الكاتب بنجيب محفوظ، وهذا لعله راجع إلى قراءته لروايته القصصية “همسة الجنون”.
الكاتب الراحل حسن الحلفيشي صاحب هاته الرواية يفقه فقه اللغة، ويتبين أنها مرتبطة بحياته المهنية، إذ الراحل أستاذ للغة العربية، هذا ما نكتشفه من طريقة كتابته وسرد روايته، فاعتماده على الروابط التداولية (التقرير، الاستفهام، التعجب، السؤال والجواب) يظهر أنه منتم إلى بلاغية أرسطو والبلاغيات الحديثة (chaim perelmane et lucie olbrecht tyteca.).. لغة الرواية تحمل وظيفة حجاجية (أزفالد ديكرو)، وهذه اللغة الحجاجية تؤدي إلى نتيجة معينة، هذه النتيجة هي الخلاصة التي عنونت بـ”رعشة الجنون”.
يتبين هذا الحجاج الروائي من داخل الفصول السابعة والعشرين للروائية.. ونوضح هنا بالأمثلة التالية عن هذا الحجاج:
هذه الرواية الجميلة، والتي تشبه في سردها رواية “رعشة السَراب في حضر المسافة” للكاتب رضا إبراهيم، والتي حدثَ وبنت جيلها وعصرها..أدواتها مختلفة، أشبه بشريط مُصورَ بلغة الكتابة..أحداثها مُعاصرة وأبطالها حقيقيون، كالراوي والمعلم والأستاذ، وهناك أبطال خياليون كالكلبة مسعودة وأبنائها..فالرواية التي لا ترويني لا تقرأ.
*عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية (mada)
تعليقات