شفشاون.. غرناطة المغرب

802

رياض بنخنو – باحث أكاديمي في الآثار

سقطت غرناطة، فخرج كثير من أهلها وتفرقوا في بلدان مختلفة. وإلى عدوة المغرب هاجرت أسر غرناطة عديدة، منها من اتجه إلى مدن كبيرة كفاس وتلمسان ومراكش وتونس والقيروان، ومنها من اختار الالتحاق بحصن شفشاون الجهادي شمال المغرب الأقصى، الذي كان في حرب ضروس ضد أساطيل وجيوش البرتغال. وعلى منحدرات جبال شفشاون الوعرة قاموا بتخطيط أحيائهم، فتحول حصن شفشاون، في بضعة عقود بعد تأسيسه على يد الأمير علي بن راشد، إلى مدينة مغربية جديدة مزدهرة، امتزجت فيها ثقافة أهل غرناطة بثقافة أهل جبال غمارة.

 مساكنهم الجديدة بنيت من حجارة وطوب وقرميد، وخشب وتراب وجير. لكل دار مدخل ملتو، يحجب داخلها عن أعين الناظرين، ولها فناء مكشوف تلتف حوله الأروقة والمرافق والغرف والبيوت، يغذيها بأشعة الشمس الدافئة والهواء الصافي النقي، وتزينه أشجار مثمرة، كأشجار التوت والعنب والبرتقال والليمون.

 خرجت منازلهم عن فخامة دور أعيان غرناطة في زينتها، واختارت بساطة دور بسطاء أهلها. فلا زليج ملون على أرضيتها، ولا جص منقوش أو ملون يغطي حيطانها أو مداخل غرفها أو أقواس أروقتها، ولا نافورة مرمرية أو بركة مائية تتوسط فناءها، ماعدا زخارف نباتية وهندسية وخطية ملونة تزين سقوفها. وأما جدرانها الخارجية البيضاء، فتبدو كلباس عزاء أزلي لامرأة فقدت زوجها، أو عمامة رجل صوفي زاهد تجردت نفسه عن ملذات الدنيا، راجية أن يبدلها ربها خيرا من جنة فانية تركتها خلفها.

وفي جنح الليل، تدخل دور المدينة في سكون وخشوع، تكسره قبيل أذان الفجر، تهاليل وأصوات ندية، كلها تسابيح واستغفار وأدعية. تذكر الأندلسي المهاجر بفردوسه الضائع، بأذان مسجد المنصور ومسجد البيازين، ومساجد كان مصيرها الأخير أن حولت إلى كنائس تقرع على صوامعها الأجراس والنواقيس.

شفشاون، مجموعة ظلال على الأفق المشرق، الصروح البيضاء المتوجة بتيجان الحصون، الحاملة خارجا وداخلا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية، شكلا ومعنى

 بيكس آبي
 وبحي ريف الأندلس مسجد صغير، كل بلاط من بلاطاته مغطى بسقف خشبي مائل من كل جانب، يكسوه كما يكسو دور المدينة قرميد أحمر، صنعته أيادي صناع مهرة. ويتوسط حائط قبلته محراب خماسي الزوايا، بجانبه منبر من خشب الأرز، نقشت عليه زخارف نباتية وهندسية بهية. وصومعته مربعة حجرية، تشبه في شكلها وعرضها وطولها وارتفاعها صومعتي جامع غرناطة الكبير ومسجد الطيبين. ومن الشروق حتى الغروب، تنشر الشمس خيوطها الذهبية على دروب وأزقة المدينة الضيقة الملتوية، وعلى أبراج وأسوار وحدائق قصبة شفشاون الراشدية. قصبة أسوارها عالية من تراب مدكوك، محصنة بأبراج شاهقة، يتسيدها برج كبير، يظهر للعيان من بعيد، يعلوها كما يعلو قماريش الحمراء وهي جالسة على السبيكة.

ومن واد رأس الماء تتفرع السواقي، وبماء بارد عذب زلال تجري، تسقي به المساجد والدور والزوايا والحمامات والنافورات و الفنادق والمزارع والجنان. وقرب كل ساقية من السواقي، تتوزع رحى الماء المخصصة لطحن الحبوب. وعلى وقع خرير المياه وأصوات النساء وهن يغسلن صوفهن على ضفاف الوادي، وصرير عجلة الرحى ووقع حوافر الدواب، سمفونية نغمية من الإيقاعات والأصوات تسري في الهواء، كأنها ترانيم عود زرياب مرصعة بأصوات من ذهب، تتردد في أرجاء واد شنيل الغرناطي، مرددة قول ابن الخطيب الأندلسي وهو في محبسه “جادك الغيث إذا الغيث همى، يا زمان الوصل بالأندلس، لم يكن وصلك إلا حلما، في الكرى أو خلسة المختلس”.

وإلى أيامنا هذه، ظل طيف غرناطة حاضرا في ملامح شفشاون، المدينة التي قال عنها الشاعر اللبناني أمين الريحاني يوما “شفشاون، مجموعة ظلال على الأفق المشرق، الصروح البيضاء المتوجة بتيجان الحصون، الحاملة خارجا وداخلا رسالة الحمراء في الهندسة الغرناطية، شكلا ومعنى -جملة وتفصيلا- في النقش والتلوين، وقل التلحين وقل الغناء، وإن أجمل الألحان لفي هذا الزخرف وهذه الألوان”.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات