سعيد خطيبي: لماذا فشلت اللغة العربية في الجزائر؟

334

أطل علينا، قبل أيام، أحد الوزراء المحسوبين على التيار الإسلامي، بقرار تداولته وسائل الإعلام بشكل واسع، بل منها من جعل منه خبراً رئيسياً، فيما أفردت إحدى الجرائد مساحة لمُناقشته وإثرائه والثناء عليه، خيل لنا، في البدء، أن الأمر يتعلق باكتشاف لقاح للجائحة، أو ابتكار أساليب جديدة في الوقاية منها، لكن هذا القرار لم يكن سوى أمر بضرورة استخدام اللغة العربية في الإدارات.
نعم، بعد كل هذه العقود، لا نزال نتعامل مع لغة بمنطق الأوامر والتعليمات والقرارات والمراسيم الرسمية. كان للعربية دائماً تاريخ لغوي، لم تتخط كونها مسألة ثقافية أو هوياتية، عدا في الجزائر فإن للعربية تاريخا سياسيا، يعود النقاش حولها بقرار سياسي ويتراجع بقرار سياسي، صُرفت أموال كبيرة، ونُصبت مؤسسات من أجلها، وفي النهاية لا تزال لغة معتلة في الجزائر، غير قادرة على الاستواء في مكانة واضحة.
إن فهم علاقتنا المضطربة بالعربية يُمكننا من فهم جزء من تاريخ البلد، منذ الاستقلال إلى الآن، حيث أن اللغة كانت من المشاغل الأساسية في أجندات الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم. أحمد بن بلة، أول رئيس للجزائر، اختار من البداية العربية لغة وطنية للبلد، بدون مغالاة، اكتفى بمادة واحدة في دستور 1963 تُفيد بأن العربية لغة وطنية ورسمية للدولة، بدون أن يعترض في مادة أخرى من الدستور ذاته، عن اللغات الأخرى، لكن حكمه لم يستمر كثيراً، لذلك لا يمكن أن نصف مرحلته بأكثر المراحل هدوءاً، فمباشرة عقب انقلاب 1965، تحولت العربية إلى قضية مصيرية في نظر الجماعة الحاكمة، سارعوا إلى اختراع قوانين لها، والأغرب من ذلك تعريب البلد بأكمله، وقد خرج لتوه من 132 سنة من الوجود الفرنسي. فجأة، بين عشية وضحاها، استفاق الجزائريون من نومهم، ليجدوا أن البلد كله صار مجبراً على النطق بالعربية لا غيرها، لكنها كانت عربية عرجاء حينها، متسرعة، فقد تم تغيير تسمية كل الشوارع والمدن واللافتات الإرشادية بالطلاء، وفي عتمة التسرع تحول المشهد إلى ما يُشبه العبث، حيث تم تعريب مثلاً أسماء مدن أمازيغية، صارت (إن صالح) في الجنوب عين صالح، واستحالت إن أميناس (عين أم الناس). لكن تلك الحملة الأولى من التعريب لم يكن الغرض منها خدمة العربية ولا حباً بها، بل أرادوا منها محو الفرنسية من العقول، اعتقاداً منهم أن أمراً سياسياً من شأنه أن يمحو لغة عاشت أكثر من قرن بين الناس، ويستبدلها بلغة أخرى، لم تكن تنطق بها سوى أقلية، بحكم أن الغالبية تعودت على عربية عامية، وليس عربية الكتاب المدرسي.

كان للعربية دائماً تاريخ لغوي، لم تتخط كونها مسألة ثقافية أو هوياتية، عدا في الجزائر فإن للعربية تاريخا سياسيا، يعود النقاش حولها بقرار سياسي ويتراجع بقرار سياسي، صُرفت أموال كبيرة، ونُصبت مؤسسات من أجلها، وفي النهاية لا تزال لغة معتلة في الجزائر، غير قادرة على الاستواء في مكانة واضحة.

في عام 1971، ظهرت وزارة تورطت في صراعات العربية في الجزائر، أطلق عليها «وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية»، أشرف عليها مولود قاسم نايث بلقاسم، على الرغم مما يُشهد لهذا الرجل على اطلاعه باللغات، ما يفترض أن يكون من المدافعين عن التعدد اللغوي، فقد انحاز نحو العربية بشكل سياسي غير مفهوم، ملغياً اللغات الأخرى، منع كل المراسلات الرسمية بغير العربية، كما زاحمت وزارته وزارة التربية، ووجد البلد نفسه أمام هيئتين مسؤولتين عن التعليم، من جهة المدارس الحكومية، ومن جهة أخرى مدارس التعليم الأصلي، التي استنجدت بمعلمين قادمين من مؤسسات دينية، أو من دول شقيقة، بعض منهم منتمٍ إلى ما يُسمى تنظيم الإخوان المسلمين آنذاك، فتحولت المدرسة الجزائرية إلى حلبة نزال أيديولوجي، طفا الدين على التعليم، وصارت العربية غنيمة الإسلاميين. ثلاثة قطاعات راهن عليها المتحمسون إلى تعريب الجزائر بأوامر سياسية: الثقافة والتربية والشؤون الدينية، وعلى الرغم من أن أحمد طالب الإبراهيمي ـ الذي كان وزيراً للثقافة والإعلام ـ أقر باستحالة التعريب في بضع سنوات، لكنه استمات في ذلك الخط (مع العلم أنه نفسه لم يكن يصدر كتباً سوى باللغة الفرنسية).
لم يكن إذن الغرض من التعريب كسب معركة لغوية، بل كانت له غاية سياسية، التضييق على الفرنسية، بالتالي على نخبة مُفرنسة تبوأت مناصب متقدمة في الدولة، لأن الفرنسية كلغة لم تكن يوماً لب الإشكال في البلد، اللغة الفرنسية لم تمنع الجزائري من الشعور بجزائريته، ولم تغير قناعاته في الانتماء إلى منشئه أو إلى عقيدته التي اختارها. في غمرة معاداة فرنسا والفرنسية، محيت كل اللغات الأخرى بما فيها الأمازيغية، فالنظام الجزائري لم يكن معادٍ للأمازيغية في حد ذاتها، بل أزاحها كي لا تشوش عليه دفعه بالعربية، التي ظلت حبيسة القرارات دائماً، ففي الشارع كانت الحياة تسير بشكل مختلف، الفرنسية لم تفقد مكانتها، فمن بين ما يعيبه الناس على مسؤولي تلك المرحلة، أنهم كانوا يُرسلون أبناءهم للتعلم في مدارس وجامعات أجنبية، بينما يفرضون العربية بحمولتها الدينية على عامة الشعب، فظل التعريب معركة سياسية خاسرة، مع أن دستور 1976 اقترح تعميمها، لكن إلى غاية الثمانينيات لم يتغير الوضع، فبحسب إحصائيات 1986، كان سحب أسبوعية (Algérie-Actualité) يتجاوز سحب كل الجرائد الناطقة بالعربية مجتمعة. لكن حقبة الشاذلي بن جديد استمرت في سياسة التعريب، تعريب التعليم والجامعات، وساهمــــت بقوة في تأجيج ذلك الصراع بين معربين ومفرنسين، وهو صراع وُلد من هذه النزعة نحو محو الفرنسية واستخلافها بالعربية، بدون تفكير أو تخطيط، بل بالقرارات والأوامر فقط.
أصدر الشاذلي عاماً قبل نهاية حكمه (أي في يناير/كانون الثاني 1991) ما أُطلق عليه قانون تعميم استخدام اللغة العربية، وهو قانون لاقى مباركة واسعة من الإسلاميين، تضمن كثيراً من النقاط الجدلية، فهو يعتبر العربية من مقومات الشخصية الوطنية، بالتالي يلغي كل ما هو غير عربي في البلد، يُبطل كل الوثائق الرسمية المحررة بغير العربية، يفرض غرامة مالية على كل من يُدرِّس بغير العربية أو يحرر وثيقة بغير تلك اللغة، والغريب أن هذا القانون افترض إتمام تعريب الجامعات في أجل أقصاه عام 1997، لكن الرئيس محمد بوضياف جمّد العمل بهذا القانون عام 1992، والغريب ألا أحد احتج، كما لو أن الجميع كان متفقاً على عدم منفعة التعريب بقرارات سياسية. هكذا ظلت العربية تتكرر في الدساتير المتوالية في الجزائر، رافقتها في السنين الأخيرة الأمازيغية ـ التي لم تتقدم خطوة للأمام أيضاً لأن مبادرات تعميمها لم تخرج من الورق والوثائق والقرارات ـ بدون أن يتغير الشيء الكثير على أرض الواقع، لم تنعم العربية بتطور طبيعي لها، كما هو حال أي لغة، لم تخض في طريق لغوي اعتيادي، بل بقيت أسيرة الأوامر والتعليمات، كما فعل ذلك الوزير، الذي ذكرناه في بداية المقال، قبل أيام.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات