دَرْجِنُوهُ وبيعوه..نحن سوف نعيش !
رامية نجيمة
في المغرب، لا يزال النقاش على أشُدِّه حول اعتماد الدارجة (اللهجة العامية) في التعليم عِوض العربية الفصحى. عن نفسي أتساءل فيم يُفيد هذا النقاش؟
مَشروع التعليم بالعامية فكرةٌ تمخّضت عن ندوةٍ قدّمتها مؤسسة زكورة للتربية، ورفَعت على إثرها مُذكرة لملِك البلاد. وبعد ذلك تولى الدفاع عنها باستماتة رئيس المؤسسة السيد نور الدين عيوش، رجل الأعمال المغربي الذي يُعرِّفه مَوقع ويكيبيديا الشهير على النحو التالي:
“نور الدين عيوش رجل أعمال وناشط جمعوي مغربي، مؤسس ورئيس وكالة شمس للإشهار، ومؤسس وعضو مجلس إدارة مؤسسة زكورة للتربية. ورئيس جمعية زاكورة للقروض الصغرى، ورئيس مجموعة الديمقراطية والحداثة.”
وسيجد أي باحثٍ في هذا الشأن نفسَه مَذهولا أمام السؤال التالي: وما شأنُ السيد عيوش رجل المال والأعمال بأمور التعليم، وما أدراهُ بشِعابه وأغواره ؟
وهنا أنا أختلف مع الكثير من الآراء التي يأتي بها المُثقفون العاجِيون (نسبة إلى أبراجهم العاجِية) إذ يستغربون مِن صلة السيد نور الدين عيوش بالتعليم، ويشجبون تدخّله فيه بأي شكل، ناهيكم عن دعوته إلى جعل العامِية المغربية لغةً للتعليم. دعكُم مِن أنّ السيد نور الدين عيوش هو ناشِطٌ جَمعوي فيما يخصّ قضايا التعليم، ومواطن مغربي حقُّه في التعبير عن رأيه بخصوص المَوضوع مَكفولٌ لا يُجادَل.. لكن هل انتبَهتُم أيضا إلى أن السيّد عيوش، هو رجل مِن أصحاب رؤوس المال ؟
منذ بدء الحضارة الإنسانية، ومنذ استطاع الكائن البشري التمييز بين الثراء والفقر، صار بديهيا أنّ صاحِب وسائل الثروة.. هو الأقوى، هو صاحب الكَلمة الأولى والأخيرة. أما أهل العِلم والفكر والأدب فيُمكنهم أن يصرخوا حتى تتمزّق أحبالُهم الصوتية، ويكتبوا حتى يجف مداد دواتهم، وتصاب أصابع أيديهم بالاتهابِ المَفاصل، ولن يُغيّر ذلك مِن واقع الأمور شيئا.. بإمكان الفَيلسوف والأديب أن يُؤلِّفا ما يُقنع الحَجر ذاته أنّ الحياة عَدمية عَبثية، لا جدوى تُرجى منها على الإطلاق، في حين سيستمِّر الأثرياء في مُراكمة الثروات وصرفها بأشكالٍ تتأرجح بين إسعاد الآخرين وإلحاقِ الكثير مِن الأذى بهم..
وبإمكان الأطباء في كلِّ أنحاء العالم، أن يُندّدوا بأضرار التدخين والكولا والإندومي والشيبس واللانشون، والأطعمة المُعدلّة.. لكن الشركات المُنتجة لهذه المواد، لا تُغلَق ولا تتوقّف عن البيع.. بل تجعل، بسِحر المال، كلِّ القنوات العالَمية تلهث لتحظى بفرصة لعرض برامجها الإعلانية، أما برامج التوعية بمضار ما تبيعه، فإنها كذرّة سُكر في إبريق من القهوة السوداء.
في الأوساط العلمية ثمة حديث عن الأبحاثِ التي تُجرى لتؤكِّد فوائد هذه المادة الغذائية وتتكتّم عن أضرارها فقط لأنها (الأبحاث) مُموَّلة من إحدى تِلك الشركات العملاقة التي تُنتج المنتوج المقصود والتي يهمُّها أن تزداد مَبيعاتها منه.
في أمريكا فاز الميلياردير دونلد ترامب بمقعد الرئاسة، رغم كل الأصوات التي بُحّت والمداد الذي أُهرق في رفض هذا الرجل الذي ما فتئ يطلق في الهواء تصريحات عشوائية، يُمجِّد العنصرية.. وأفكارا، يُفترض، أنّ حضارة الولايات المتحدة قد بُنيت على أنقاضِها، ليُعيد هو إحياءها من جديد.. كيف حدث ذلك؟ للمال سطوة لا تُرد !
الحروب التي عرفها العالَم وراح ضحيتها ملايين الأبرياء، هل كانت تُخاض حقا من أجل المبادئ؟ أم كانت وسيلة لبيع المزيد من الأسلحة وإشباع جشع الشركات المتاجرة بها؟
في عام 2004 أطلقت وكالة الناسا مسبارا فضائيا: غرافيتي بروب بي (Gravity Probe B)، والذي يحوي جيروسكوب يستطيع قياس تأثيرات ا لنظرية النسبية العامة (اختبارٌ لنظرية أينشتاين النسبية حول انحناء الزَّمَكان) الوكالة الفضائية ملايين الدولارات ونصف قرن مِن العمل الجاد. وبعد عام مِن مراقبة تحرّك المِسبار تم اكتشاف خطأ في عمل الجيروسكوبات يتطلّب إصلاحه ملايين الدولارات، ثم كادت الناسا، في عام 2008، تتخلى عن هذا المشروع العلمي العملاق بسبب نفاد الموارد المالية المخصصة له، لولا أن ظهر في آخر اللحظات، مصدرين للتمويل: هبةٌ قدَمها نجل ويليام فيربونك أحد الفيزيائيين الثلاثة الذين تبنوا فكرة الجيروسكوب الفضائي، وتمويلٌ ضخم جداً قدّمه الأمير السعودي الدكتور تركي بن سعود بن محمد آل سعود.
المال يعني القوة، ويعني التحكّم أيضا.. وهكذا إذا قال الأثرياء في هذا الوطن إنّ التعليم يجب أن يُدرّج، فإنه سيُدرَّج، وإذا رأى معليهم بأنه يجب أن يُنجلز (من الإنجليزية) فإن ذلك يجب أن يحدث، ولن يكون لرأي بائسَةٍ مثلي أي اعتبار في الموضوع. لذلك كما ذكرت، أحتفظ برأيي لنفسي. هكذا أتجنب التعرُّض للإهانة يوم يُصبِح اسم السيارة في الكتاب المدرسي “طوموبيل” !
بيع التعليم أو دَرجَنتُه.. وبعد؟
تعاقبَت الحكومات على المغرب منذ استقلاله، وأياً تكن التغيرّات التي طرأت على البلاد منذ ذلك الحين، فإن الشيء الذي ظلّ ثابتاً على حالِه هو أنّ عامَة المغاربة لا يملكون أي اختيارات فيما يخّص حاضِرهم ومُستقبلهم.. هناك دائما من يقرّر عوضا عنهم وينفذ دون أن يشاورهم.. مَن يضع هذه القوانين والتشريعات، من يتقدم بها؟ هي فئةٌ قليلة تحكم فئة كثيرة. والمواطنون العاديون، أقصد الذين لايجمعهم بالسلطة قرب ولا يملكون صولجان رأس المال، يحتجون على الدوام، كأنهم غوغاءٌ في مرَكب وسط المحيط إبان عاصفة هوجاء.. يصرخون ويصرخون لكن حبل التواصل مقطوع. وليعذُرني هنا المفكر السياسي البروفيسور دفيد إيستن لأنّ نظريته حَول الأنظمة في العُلوم السياسية ليسَت في حالتِنا هذه إلا صَرخة إضافية ضائعة !
في السنوات الأخيرة ، خضع التعليم المغربي لعدَدٍ مِن التجارب العشوائية التي لم تنقذه مِن براثِن الرتب الأخيرة على الصعيد العالمي، آخرها كان فكرة إلغاء مجانية التعليم. والمواطن المغربي، كعادته، لم يسكُت؛ لقد صرخ وندّد وَبرى أقلامَه.. لكن هل تغير شيء حقا؟
والواقع يقول إن التعليم في المغرب لَم يعد مجانيا منذ زمن بعيد، اللهم إن كنا سنُسَمي الجلوس قُبالة الصبورات المَثقوبة رديئة الطلاء، وعلى المقاعِد المهترئة، والكدّ من أجل الالتحاق بتلك الأبنية الآيلة للسقوط تعليما !
سبق لي أن خُضت تجربة التدريس في مؤسسة تعليمية خاصة حيث يدفع الأولياء عصارة دمهم هَربا مِن المدارس العمومية سيِّئة السمعة، ولو زجوا بأبنائهم في إحدى أبسط المؤسسات التعليمية الموجودة في المدينة من حيث الخدمات والبنية التحتية وأقلّها تكلفة. الفصول فيها مزدحمة، والمُقررات المتنوعة بين مَحليٍّ ومُستورد تُشتِّت ذِهنَي المعلم والمتعلم على السواء. لَم يكُن هناك ساحة يمارس الأطفال فيها ركضهم وغُمّيضتهم خلال فترة الاستراحة، بل مجرد بهوٍ متوسط المساحة، يضم ثلاثة مغاسِل ومثلها مِن المراحيض “البلدية” أو المغربية، أو التركية.. وإني أعني تلك المراحيض التي لا يمكن للفرد اقتعادها، طالما ليس فيها كرسي. ولكم أن تتخيلوا طفلا صغيراً عمره بين الخمس والسبع سنوات وهو يقرفص ليقضي حاجته في مدرسة يدفع فيها والداه عرقهم ودمهم !
اختيار الأساتذة أيضا كان يتم فيها خبط عشواء، أنا مثلا خريجة قانون باللغة الفرنسية، كنت أُدرِّس قواعد هذه اللغة التي صارت بئيسة هي الأخرى يوم جرى تدريسُها في المغرب بعد جلاء الفرنسيين، فلا نجحت الدولة في تلقينها لعامة الشعب، إذ ظلت لغة محكرة من قبل النخبة وقلة قليلة من المحظوظين، ولا هم تركوها واستوردوا عوضا عنها لغة سهلة في تركيبها تمنح نافذة أوسَع على العالم كالإنجليزية تحديدا.
ومازلت أتذكر ذلك اليوم الذي زارتني فيه والدة أحد تلاميذِ الفصل الذي كنتُ أدرّسه، وقد كانت تشتغل مُدرِّسة في مؤسسة عمومية. نعم، و ليس في الأمر ما يدعو للاستغراب.
ألقت السيدة، مِن مكانها قُرب الباب، إطلالة على القسم وصاحت:
“ياه، كلّ هذا الاكتظاظ هنا؟ فيما فصول المَدرسة العمومية شبه خالية !”
والواقع أنّ الناس في مدينة كالناظور، قد هجروا المدارس العمومية (المجانية) تماما، إذ لم يتبق فيها غير بؤساء هذا الوطن الذين يبيتون على الطوى.. أما أصحاب الدخل اليومي المحدود (ومنهم من يبيت على الطوى أيضا !) فقد هاجروا بشكل جماعي نحو المدارس الخاصة، التي صارت تتنوع بين قليلة التكلفة ومتوسطة وباذخة بحسب حاجة “الزبون” وظروفه. وهكذا كان عندي في الفصل، ابن فرّاش (البائع الذي يعرض بضاعته على الأرض) مع ابن الطبيب وابن المحامي وابن الموظف البَسيط.. في مُؤسسةً تضم ذلك التنوع الذي طالَما زخرت به المدرسة العمومية فيما مضى لما كانت لها هيبتها لكن، بمُقابل يُثقل الكواهل.
التعليم في المغرب إذن، قد ضُربت مَجانيته منذُ أصبح ذَوو الدخل المحدود يَستدينون ويبيعون ممتلكاتهم، كي يَضمنوا لأبنائهم مقعداً في مؤسسة خاصة ولو قرفص فيها أبناؤهم.. إلغاء مجانية التعليم هو تفعيل لما هو واقِع بالفِعل.
النكتة في الموضوع أن يتعهّد المسؤولون عن التعليم في هذا البلد، بأن يتمّ إعفاء المُعوزين مِن دَفع تكاليفِ التعليم في المُؤسسات العمومية، لله دَرُّهم مِن مسؤولين! وهل بقي في المدارس العمومية غير المعوزين؟ !
ثم سيصبح التعليم بعد هذا بالدارجة، ويمكنهم أن يجعلوه بالهيروغليفية أو الفينيقية حتى، فإن ذلك لَن يجعله أسوء، ومن يدري، قد يجعل ذلك بين شباب الغد المغاربة علماء أركيولوجيا بارعين.
قد تضحكون من كلامي هذا، لكن إن طال بكم العمر، فإنكم ستقرؤون مقالات وقُصاصات إخبارية وقِصصا بإحدى لَهجاتنا العامية.. وقد يأتي ذات مستقبل بعيد رجلٌ يدعو إلى “فَصحنة” التعليم فيُسخر منه كلّ السخرية. الخلاصة إذن: فليُدرجنوا تعليمنا، أو يُنجلزوه « Take it easy ! » لأننا نحن المغاربة لن نموت من جرّاء ذلك !
ramianjima7@gmail.com
تعليقات