حياة اللغة العربية بالمغرب بين التطويع والإغناء أو الإقصاء

1٬128

إن التفكير في تطوير اللغة العربية قضية بالغة الأهمية، لها صلة وثيقة بسيادة الأمة العربية على ثقافتها وفكرها، وعلى كيانها الحضاري، وعلى حاضرها ومستقبلها. فهذه قضية سيادة بالمعنى الشامل، وليست مجرد قضية لغوية وأدبية وثقافية. فاللغة كائن حيّ، يعتريه ما يعتري أيّ كائن من عوارض، ويخضع لتقلبات الزمن نتيجةً للتطورات التي تقع، وللمتغيّرات التي تحدث، وللمستجدات التي تطرأ. وحياة اللغة من حياة أبنائها، لكونها عنصرا فاعلا في الحضارة، وعاملا مؤثرا في النهضة، فكلما قامت حضارة ونما فرعها ازدهرت اللغة واغتنت، وامتدَّ إشعاعها.
ومما لاشك فيه أن اللغة العربية تتبوأ مكانة عالية بين اللغات العالمية، فهي تجمع بين أبناء الأمة العربية في وعاء لغوي واحد ، كذلك تعد – برأي- جميع اللغويين أنها تمتلك كل مقومات اللغة القادرة على استيعاب العلوم والفنون والآداب كافة، أي أنها لغة الحضارة العالمية؛ لهذا لابد من وضع آلية لغوية عربية شاملة تقوم على الاهتمام باستخدام العربية الفصحى المبسطة التي تستعمل في مجالات الحياة العلمية والعملية في أنحاء الوطن العربي، وذلك حفاظاً على هويتنا القومية.
وهكذا نجد أن اللغة العربية اليوم تشهد تحديات عربية وعالمية في العصر الحالي من خصومها، بسبب الظروف الراهنة التي تحيط بها، منها إطلاق الدعوات إلى تهميشها، أو تغيير سماتها، أو الانتقاص من وظيفتها، هذه الظروف تفرض علينا إعادة حيوية اللغة العربية من جديد بأسلوب جذاب عن طريق تعليمها وظيفياً في ميادين العلم والمعرفة والصناعة.
وإذا كانت هذه اللغة تعرف هذا التطور والتقدم فإنها تواجه التهميش والإقصاء والتقصير عن مواكبة متطلبات الحياة المعاصرة. هذا الواقع يفرض على أبناء الأمة العربية إثبات خصائصها ووظائفها في المجالات كافة. فهي لم تعجز عن استيعاب العلوم المحدثة، لأنها ذات قدرة توليدية غير محدودة. وليست أقل شأنا وقيمة من غيرها من اللغات التي احتضرت طويلا، وتناقص عدد متكلميها لحدود عتبة العقد أو العقدين من المتكلمين بالعالم بأسره وتم إنقاذها وإنعاشها. ولعل لنا في العبرية مثالا صارخا وواضحا على ذلك بحكم قربها من لغتنا. وهذا يدعونا إلى ضرورة التفكير في مستقبل لغتنا، واستشعار حجم الخطر المحدق بها، والمسارعة إلى نشر تعليم اللغة العربية في المراكز الثقافية، لأنها مركز حضاري للثقافة اللغوية المجتمعية، وتلافي ما من شأنه أن يفاقم أوضاعها أكثر ليودي بها إلى لاندثارها أو انقراضها. فما هو الاندثار أو الانقراض اللغوي؟ ما هي الآليات القمينة بإنقاذها من هذا الخطر؟ وما هي السبل المفضية للارتقاء بها وبمتكلميها؟
من هنا يحاول هذا المقال إلقاء الضوء على الآلية التي تسهم في ازدهار اللغة العربية والارتقاء بها، كما يكشف عن ملامح من الأزمة اللغوية التي يعيشها العرب في هذه المرحلة من تاريخهم. فالمفروض أن يكون الوضع اللغوي بالبلاد العربية واضحاً بيناً ومسألة انتهى النقاش فيها، ولم تعد موضع تساؤل أو دراسة. لكن لسان الحال يقول بأن اﻟﻤﺠتمعات العربية على اختلاف تنوعاتها تشترك في تهميش اللغة العربية وتأزيمها، وعدم الاهتمام بها باعتبارها عنوان الهوية ووعاء الفكر والثقافة والحضارة العربية. ففي أحايين كثيرة يتقدم الأمر لحدود معاداتها والإساءة إليها، والتطاول عليها، والعمل على الإضرار بها، ومحاربة من يحافظ عليها ويتمسك بها.
1- ما هو الانقراض اللغوي وما هي اللغة المنقرضة؟
ظاهرة موت لغة ما أو انقراضها تتلخص في تراجع عدد متكلميها الذي يقل عن الألف نسمة. وهي ظاهرة متزايدة باستمرار تتهدد كل اللغات. والعربية من أكبرها وأكثرها استهدافا وتعرضا لتلك التهديدات. وذلك نتيجة انتشار العولمة والنزوع للاختزال الدالي، وسيادة نظم الرموز والشيفرات العلمية المختصرة. زيادة على هجوم اللغات العالمية الأساسية، وانخراطها في سباق استنزاف واستقطاب المتكلمين من نظم لغوية أخرى. وهي حرب لغوية شعواء تستخدم فيها كل الإمكانيات والأسلحة. لا مجال فيها للمتخلفة عن الركب، أو قليلة النفس والحيلة والوسيلة، أو المترددة. لذلك فتلك الحرب القذرة تزداد ضراوة يوما عن يوم بين الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية. فهل ستظل العربية في موقع المستسلم المستكين؟ أم في موقع المدافع المنافح؟ هل دفاعها سيقتصر على البعض وفي لحظات معينة؟ هل سيتجاوز هذا الدفاع الأساليب الماضوية ومجرد البكاء على الأطلال إلى الهجوم واقتحام المعركة؟ أم سيظل مجرد خرخرات محتضر على فراش الموت ينتظر الخلاص؟ هل نتوفر على الوسائل والأسلحة والخطط لخوض غمار هذه الحرب المحتومة أم أننا سندفع نحو الانتحار؟
إن الأمر لمقلق فعلا وللغاية خصوصا إذ علمنا أن 97% من سكان العالم الموزعين على أكثر من مائتي دولة مستقلة يتكلمون 4% فقط من اللغات و96% منها لا يتكلمه سوى 3% من سكان العالم. وأن لغة من بين لغات العالم تموت وتختفي كل أسبوع أو أسبوعين. فيكفي أن نقول أنه على مدى الخمس قرون الأخيرة اختفى ما ينيف عن نصف لغات العالم من الوجود. والأسباب متعددة ومتنوعة منها العضوي ومنها الخارجي.. والخارج لساني المرتبط بالسياسة والاقتصاد والمعرفة والعلم. سواء العلم والوعي بوضعية التدهور اللغوي والحالة المتدهورة للغة لحظة احتضارها. أو العلم بشكل عام، والذي يؤهل للخروج من الأزمة، وتلافيها والقدرة على تجاوزها، بالبحث والتخطيط لتحصين الهوية من خلال التحصين اللساني الذي لا يمكن أن يكون إلا بسن سياسة لغوية متبصرة قادرة على مقارعة الخصوم داخل السوق اللغوية بحسن الدراية اللسانية، والتخطيط اللغوي لاستشراف أفق دورة الحياة الثقافية للأمة. فموت اللغة هو بالضرورة موت نمط معين من الثقافة وفهم للعالم كان قد تبلور عبر قرون وفق نمط عيش معين. فالحادثة تتجاوز زوال معجم لغة ما، وصرفها ونحوها فحسب، إلى فقدان تراث ثقافي معين، وفلسفة حياة، وانغلاق نافذة معينة طالما كانت مشرعة على العقل البشري. وزوال التعدد اللغوي، يؤول إلى زوال تعدد أنماط التفكير. فاندثار لغة ما إذن انهيار فكر وقومية، وانتماؤها الروحي والثقافي الإنساني ككل. ولعل أهم أسباب هذا الموت سواء التدريجي نتيجة تدهور الحالة الصحية للغة، أو الموت الفجأة، وسواء تعلق الأمر بلغة قديمة أو حديثة، يحدث عندما يتخلى المتكلم عن لغته الأم. ويجعلها تحتل المكانة الثانية بعد لغة أجنبية، في الغالب هي لغة هجوم وغارة، ورثها هذا المتكلم من المستعمر. فتكلم بها لسبب من الأسباب، من حيث يدري أو لا يدري دافعا بلغته للهاوية. طمعا في حظوة أو مكافأة معينة، من نوع معين، من جهة أو جماعة معينة. وهو نوع من الانتحار الهوياتي الذي تعيشه العربية وكل شعوبها التي تعيش حالات الثنائية أو الازدواجية اللغوية، إن لم تكن حالات التعدد أو الفوضى والتلوث اللغوي الحاد. ومنه يتبدى لنا جليا أن حالة الموت اللغوي نتحمل فيها كمتكلمين وكأسياد للغة مسؤولية كاملة. إذ أن لغتنا لا تنتزع منا بقدر ما نتخلى نحن عنها. بمقابل براءتها هي من كل التهم التي نلصقها بها، من حيث أنها هرمت، وشاخت، وذبلت، ووهنت إلى أن سقطت أرضا، جراء عمرها المديد. لن يحتاج تشخيص حال متكلمي اللغة العربية إلى إطالة النظر، أو الاستناد إلى دراسات وتقارير جهات معينة، كاليونسكو والأمم المتحدة وغيرها… فيكفي أن نتأمل حال العرب وحال لسانهم وتخاطبهم اليومي، لنكتشف مدى تخليهم عن لغتهم في تواصلهم الشفهي، باعتبارها موروثا شفهيا ولغة محكية. وكذا تدني مستويات الإنتاج الأدبي بها أو الكتابي حتى الصفي المدرسي منه. وانتشار اللحن والخطأ في جميع الأوساط لدليل عن هذا الوضع المريب. والتخلي الإرادي للعرب عن عربيتهم التي طالما اعتبرت ديوانهم وجامعتهم وهم مفرقون مشتتون. مما يوحي بمدى تفاقم حالة انفصامنا الهوي. نحن غير ملزمين بإيراد الإحصائيات والمعطيات العددية التي يعرفها الجميع. والتي تبصم عن مدى تراجع العربية بمقابل لغات العولمة، ولغات التخطيط والقوة والهجوم. وحتى باعتماد منطق الإحصائيات والأرقام، الذي نحاول تلافيه هنا، لكي لا نساهم بطريقة أو بأخرى في الهجوم عليها، وحتى لا نستند لمعطيات قد تغيب عنها الموضوعية، لسبب أو لآخر، والتي نقابلها نحن أيضا بدورنا هنا بذاتية أخرى، كنوع من عدم الاستكانة والاستسلام، تجعلنا لا نقبل بالتكهن بانقراض لغتنا الذي أطلقته اليونيسكو، إذ أكدت أن العربية ستكون من ضمن اللغات المرشحة للانقراض خلال القرن الراهن، وإلا فما جدوى هذا الكلام؟ ! وما جدوى الكتابة في هذا الموضوع بهذه اللغة؟! وما الذي يدعو دراسات جيو-استراتيجية كثيرة أن تتنبأ انطلاقا من مؤشرات عديدة بأن اللغة العربية (إن عني بها العناية الضرورية) ستتبوأ موقعا محوريا في المجرة اللغوية الكونية بحلول 2050 (انظر أبحاثGraddol ، مثلا)، وستكون من بين خمس لغات رئيسية عملاقة في المجرة اللغوية. فيكفي أن نعلم أن عدد العرب اليوم يصل إلى حوالي 400 مليون نسمة، وعليه فالعربية يجب أن تحتل المرتبة الثانية بعد لغة المندرين الصينية في المرتبة الأولى من حيث عدد الناطقين بها، قرابة التسعمائة مليون، وقبل الإنجليزية بواقع 322 مليون متحدث وقبل الإسبانية بواقع 266 مليون ناطق بها. يتبدى لنا جليا ذلك التردي المقلق الذي تعيشه اللغة العربية. لن نخوض أكثر في أسباب هذا التراجع على اعتبار أننا سنتطرق لها في اللاحق من فقرات المقال.
2- قيمة اللغة العربية:
تنحدر اللغة العربية الحالية من اللغة السامية كما هو معلوم، وتمتد بتاريخها إلى قرون عديدة قبل ظهور الإسلام… وإذا كانت لها نظيرات عديدات من اللغات التي تشترك معها في الأصل، إلا أنها تميزت عنها جميعاً بقوة الصمود، والمحافظة على الروابط التي تصلها باللغة الأصل، مما جعل أخواتها يكيدون لها ويمكرون بها، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل تاريخية وجغرافية ودينية. يأتي في مقدمتها ارتباطها بكتابها المقدس الذي حفظته وحفظها بكيفية مكنتها من التغلب على جميع اللغات التي احتكت بها بعد الفتح الإسلامي. وأقوى دليل على ذلك أن أية لغة في العالم اليوم لا تكاد مفرداتها تصمد في الاستعمال بالألفاظ والدلالات ذاتها لعشرات السنين دون تغيير.
وبهذا فقد أظهرت اللغة العربية قوتها في القرون الماضية. وتستطيع هذه اللغة اليوم بفضل ثراء أصلها التاريخي، ولما اكتسبته من الظواهر الجديدة مثل كثرة المصطلحات العلمية والفنية الجديدة أن تساير التطور في جميع مراحله ومجالاته. وهو ما يؤكد أن اللغة العربية لغة علم وأدب وفن وحضارة وتاريخ. إلا أنه قد جرى عليها ما جرى على لغات أخرى، إذ ﺗـﺮاﺟـﻌت وأﺻـﺎﺑﻬـﺎ اﻟـﻀـﻌﻒ واﻟﻬـﺰال ﻋلى مدى أﺣـﻘﺎب وفترات طويلة إﻟﻰ أن عادت لها الحياة من جديد في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بفعل تزايد نشاط حركة الكتابة والتأليف العربيين، بعد فترة ركود وانحطاط طالت. فتأسست المطابع وصدرت الجرائد والمجلات. ونشرت المؤلفات العربية والمترجمة في مختلف فروع الثقافة. وظهرت المعاجم العربية، وبدأت مع مطلع القرن العشرين تجربة نشر دوائر المعارف، وأنشئت الجامعات بعد المدارس، واستكمل المسار بإنشاء المجامع اللغوية التي عنيت بتطوير اللغة، وتطويعها وهو الأمر الذي لم يستكمل بعد. الأمر الذي يسمح بقيام الهوة السحيقة بين الواقع اللغوي المعاش وبين اللغة العربية الفصحى، وكذا بين الواقع العلمي والمادي وما يشهده من تطورات متتالية واللغة العربية الكلاسيكية بتراكيبها وتعابيرها التي تستدعي من متكلم اليوم البحث المضني كي يفهم اللغة أولا. وهو ما لا يسعف فيه لا الوقت، ولا الجهد، ولا الوسيلة التقنية. مما يدعو للإذعان والمساكنة، ومنه يشرع باب التبسيط والتسهيل المتفه الذي يحد من قدرات المتكلم التوليدية والتفاعلية الإنجازية الإبداعية. فيجعل معجمه الذهني جد قاصر ومحدود إذ لا يستخدم من كلماتها سوى 0,04 %. ولا يقوى على رصف وتصفيف فيالق التسميات والعبارات التي توفرها العربية حيث أن رصيدها المعجمي، يتجاوز 12 مليونا و300 ألف كلمة. ويمكن اشتقاق أكثر من 95 مليون فعل فيها، حتى لتبدو له ضاربة في الغرابة والقدم، متناسيا تمام التناسي، أن قدم تلك اللغة هو أحد أهم مميزاتها وعلامة عراقتها وقوتها. فاقدا كل ثقة له فيها، فينساق في الخندق المظلم من التدبيج إلى التلهيج، ويبدأ بتوجيه سهام الاتهام لها، والإساءة إليها، والسخرية منها منخرطا في حرب يشنها بالنيابة عن أعدائها من الداخل. فيتكفل بمحاربتها عوضا عن الخصوم واللغات الأخرى. وهو الأمر الفريد الخاص بالعربية الذي لم يسبق حدوثه لأي لغة من اللغات عبر العصور. فيصعب، إن لم نقل يستحيل، أن نجد اختلافا وتنازعا وتضاربا في المواقف إزاء اللغة من متكلميها ومن أبنائها، لا من أبناء ومتكلمي غيرها من اللغات. وهو ما يزيدها أيضا تميزا ومناعة وقدرة على الصمود والتحمل. ويؤكد قوة هذه اللغة الخارقة، ويوضح مدى استعدادها لاكتساح ساحات الحرب اللغوية، وقدرتها على البقاء الذي لا يضمن إلا للأقوى ، ويؤكد بالضرورة طرح المؤامرة والتكالب على العربية من طرف خصومها الذين يعون ويعلمون علم اليقين قدرتها وإمكانياتها للبقاء والتحمل أكثر من أبنائها، تلك المؤهلات التي تستدعي منهم هجوم العمالقة عليها، هجمة رجل واحد لإضعافها وتأجيل انتصارها ما أمكنهم من الزمن.
3- استعمال اللغة العربية وتحديد مظاهر وأسباب التهميش:
إن التأمل والتدقيق في الأسباب التي أدت إلى ظهور ضعف اللغة العربية، هذه المشكلة التي ترقى إلى درجة الأزمة، يضعنا أمام الصورة الحقيقية للمسألة اللغوية المتعلقة بالطابع الثقافي والحضاري للوضع اللغوي العربي بشكل عام والمغربي بشكل خاص. فعلى الرغم من كون العربية لغة القرآن الكريم، وهي الركن الأساسي للعرب، وهي لغة التعليم والتعلم في مختلف المدارس الإسلامية، على اختلاف إحداثياتها على البسيطة، في جميع مراحل ذاك التعليم. وهي أيضا لغة الكتب والمجلات، والصحف التي سبق وأشرنا لتاريخ انتشارها في كل الأقطار العربية أعلاه منذ القرن ما قبل الماضي. إذ شكلت الفترة الذهبية للغة العربية التي أنشِأ فيها بيت الحكمة، والتي تميزت بإغناء مفردات اللغة العربية، وأساليبها لتعبر عن ثقافة عالمة بالأساس، ثقافة مزجت بين علوم الدين والفلسفة والعلوم الطبيعية. وتميزت فترة النهضة بظهور عربية فصيحة جديدة بفعل الدور الذي لعبته الصحافة وانتشار الطباعة التي كان من نتائجها انتشار القراءة. الأمر الذي يفترض معه إتقانها استماعا وتحدثا وقراءة وكتابة. وهو ما لم يعد متحققا اليوم، مع ضعف متكلميها، وتردي مستوياتهم الذي يؤجل التقدم الحضاري والإبداع الفكري، والتماسك الثقافي والقومي للأمة الإسلامية. ففي المغرب يتسم الواقع اللساني بضبابية كثيفة وانعدام الوضوح. فمنذ فجر الاستقلال شكلت المسألة اللغوية عنصرا رئيسا في تشكيل الحس الوطني والوعي بالانتماء الحضاري والتحرر من براثن الاستعمار. لكن سرعان ما وسم هذا الوضع بالتعدد الذي تحتل فيه العربية والأمازيغية الصدارة. فالتاريخ والواقع يشهدان، منذ الاستقلال السياسي، تعددية غير عادلة، تتمظهر في الإعلام والتقاضي والإدارة والتعليم والصحة وكل الشؤون العامة من خلال سيطرة شبه مطلقة للفرنسية كلغة تداول أساسية، تشعر بالضيم والغبن اللغوي، وتحيل على غياب أية عدالة لسانية مفترضة مع مجيء دستور 2011 ومن أسباب ذلك:
– أن المتحكمين في أجهزة الدولة كما يقول (غرانغيوم) هي :”فئة مفرنسة في أغلبيتها جعلت معرفة الفرنسية سمة أساسية للتميز الأرستقراطي والانتماء إلى هذه الشريحة، كما ترتكز هذه الفئة على اللغة الفرنسية في سلطتها وإعادة إنتاجها؟” وهي الصورة التي تفسر تلكؤ المشرع المغربي والفاعل السياسي منذ الاستقلال إلى الآن في إنتاج وتسطير سياسة لغوية مندمجة متوازنة.
– فشل السياسة اللغوية الحالية كما بين ذلك الفاسي الفهري (2003).
– غياب خطط لغوية تدعم اللغة العربية حتى تتغير الوضعية الراهنة من أجل الرقي بها. وهو الأمر الذي يقتضي إعداد خطط لغوية من مستويات مختلفة، مثل ما تقوم به الدول المتقدمة التي تضع قوانين لحماية لغتها حتى تسلم من الأخطاء اللغوية ومخالفة الضوابط والقواعد، وحتى تتمكن من الاستقرار والفعل في المحيط (في التعليم والإدارة والاقتصاد والإعلام…إلخ).
– إبعاد اللغة العربية عن مجال التفاعل مع العلوم الحديثة المختلفة في التدريس والبحث والتأليف والترجمة، وبالتالي إبعادها عن مسايرة العصر التكنولوجي الراهن باستيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة.
– اللغة العربية في الوقت الراهن باتت مرتبطة بقضايا أمنية وبالتحولات التي تعرفها المنطقة العربية.
– أصبحت لغة عنف وإرهاب وتفجيرات.
– لغة بؤس وفقر وشقاء.
– الغزو اللغوي.
– إظهار اللغة العربية في موقف العاجز عن مسايرة التطور العلمي والحضاري، الأمر الذي يؤدي إلى تبني لغة علمية جاهزة .
– تصاعد استعمال اللهجات في مقابل تقلص استعمال العربية الفصحى.
– كثرة اللهجات المتفرعة من اللغة الأصل.
– السياسات المتبعة للنهوض بالعربية لم تكن مجدية، ومن ذلك خلق مجامع للغة العربية، والتي انحصر عملها في إعداد قواميس لترجمة المصطلحات العلمية، لكن ليس هناك من يطلع على هذه القواميس.
– هيمنة اللغة الفرنسية كلغة ثانية في المغرب مثلا.
– تخلي العرب عن لغتهم أحد أهم مقومات هويتهم التي باتوا يتنصلون منها لأنها تشكل لهم مثار ازدراء من قبل الغربيين الذين ينبهرون بهم ويميلون لتمجيدهم، وتمجيد لغتهم وتهميش اللغة الأم.
– تراجع المتخصصين وفقهاء اللغة العربية.
– تراجع الإبداع باللغة العربية، وميل الأدباء والشعراء إلى استعمال لغة بسيطة.
– انعدام إنتاج البرامج المعلوماتية الناطقة بالعربية، النابع من عدم اقتناع المدرسين والعاملين في الحقل التعليمي باستخدام الوسائل التعليمية والتكنولوجية الحديثة في تعليم وتعلم اللغة العربية.
– بؤس الكتب المدرسية الخاصة بتدريس هذه اللغة في مقارنتها بكتب اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية.
– غياب التبويب الجيد للمواضيع والدروس في منهاج تعليمها، وارتجال وفوضوية وضبابية المفاهيم النحوية المقدمة مما ينفر التلميذ منها، ويخلق له صعوبات وتوثرات في متابعتها واسيعابها.
– عدم تشجيع المدارس والمدرسين لتلاميذهم على التحدث بالفصحى.
– عدم التزام شرائح واسعة من معلمي اللغة العربية أنفسهم باستخدام اللغة العربية أثناء تدريسهم لفروعها المتنوعة.
– عدم اهتمامهم بتصحيح وتقويم أخطاء متعلميهم اللغوية.
4- الأسباب التي أدت إلى تردي واندحار اللغة العربية وكيف يمكن تلافيها؟
كلما أثيرت مسألة ضبط الفوضى التي تعم المشهد اللغوي العربي والمغربي تحديدا، إلا وأثيرت النعرات، وتحركت أياد خفية لتعويم النقاش وتحريفه عن مساره الذي ينبغي له أن يكون علميا متزنا ليصبح شعبويا غوغائيا. وأمثلة ذلك كثيرة ولعل مجال التعليم يشكل النموذج. فبعدما تم التوافق بين أعضاء المجلس الأعلى للتعليم على وضع خطة تعمل مبدأ التناوب اللغوي، جاء وزير القطاع بخطة مغايرة تتحيز للفرنسية ولوبيها. فتفرض الفرنسية علينا بالمدرسة المغربية فرضا بقدرة قادر خفي. وهناك أمثلة كثيرة أخرى صارخة تعتبر حجر عثرة في درب البناء الديمقراطي بالمغرب ومبتغيات الإصلاح. بدءا بالإصلاح الدستوري الذي يظل ناقصا طالما أن ترسانته لا تتضمن قانونا تنظيميا للمجلس الوطني للغات والثقافة الذي يظل حبرا على ورق دون أية نية للتفعيل، وضبط فسيفساء الخليط اللغوي بين اللغات الرسمية واللهجات كما صور لنا دستور 2011 ذلك. وهي كلها مؤشرات تدل على أن النقاش اللغوي ومساءلة حال العربية اليوم ببلادنا ليس لا نقاشا علميا ولا أكاديميا ولا حتى اجتماعيا. ما دام رأي المواطن مغيبا وغير مأخوذ به في هذا الإطار، وإنما هو نقاش سياسي، وهو الكفيل بتفكيك الحالة الراهنة الموبوءة بتهميش العربية ومحاولة الإجهاز على مجالاتها التداولية. فالقرار اللغوي ينبت ويتخذ داخل البيئة السياسية، انطلاقا من العلاقة الوثيقة بين السياسة اللغوية والتوجهات اللغوية التي يخطط لها. فالسياسة اللغوية سياسة أولا، وهي من اختصاص السياسي الذي عليه أن يتدخل في الشأن اللغوي بغية بناء واجهة هوياتية موحدة ترتكز على استراتيجية التنميط والتنشئة والتربية على نفس المنوال من القيم درءا لكل تصادم أو تنافر بين مختلف العناصر المشكلة للعشيرة اللغوية والمجتمع اللغوي، ضبطا للإيقاع الفردي الضامن للتماسك والحصانة والأمن اللغوي. ويتبدى لنا هذا الدور بجلاء في تدخلات السياسيين الغربيين من أجل بناء نظامهم اللغوي، الذي يومنون فيه بالتماهي بين اللغوي والسياسي والاقتصادي…وهو الأسلوب المفتقد في بلداننا العربية وفي المغرب بالتحديد.حيث تسود الارتجالية والتسرع وانعدام الوعي بجوهرية اللغة، ودورها في توطيد التماسك والاستقرار الاجتماعي داخل البلد الواحد. فما يغلب على التدابير المتخذة في هذا الباب هو العمل بما هو آني ومتاح دون أدنى اهتمام بالحاجات الحضارية للأمة. وهذا ما يؤكد غياب أي تخطيط ولا سياسة لغوية مع غياب أية عدالة لغوية، في ظل ضيم وغبن لغوي مقيت. هو المخيم عموما على أحوال المتكلم العربي الذي لا يعتد له برأي في هذا الباب رغم أن هويته من أهم محددات مصيره وتقريره. الأمر الذي يجعل الوضع اللغوي المغربي والعربي ككل وضعا مقلقا كثير الالتباسات التي تتجسد في العلاقات بين مكونات ذاك المشهد اللغوي المتردي. مما يفسح المجال أمام كل المتربصين من اللوبيات والخصوم للرهان على اللغة الأجنبية في المدرسة والشارع والإعلام والاقتصاد وغيرها، بإشاعة خطاب تيئيسي محبط والتسويق للبديل الذي يفتح آفاق أمل زائف زيف ماء الأفق في الصحراء الذي يتراءى متموجا متلألئا حتى إذا أتيته لم تجده ماء، وإنما محض سراب. يكون الهدف منه الحرص الشديد على ربط كل تنمية محلية بالراعي الكولونيالي باعتباره نموذجا يتأسس على استيراد التمدن والحضارة، وخلق هرمية اجتماعية تتشكل باعتبار العلاقة بالمركز الاستعماري، الذي يغدق العطايا ويتيح كل أنواع الامتيازات والاستفادة من فرض الثقافة الفرنسية في الاقتصاد والتعليم والإعلام وعائدات الاستثمار في لغة الاستعمار. إذن التردي الذي نعيشه كمتكلمين للعربية مقصود وممنهج ونابع من خوف من اللغة العربية ومن سيادتها، وخوف من امتياز اجتماعي وسياسي خصوصا وأنها لغة عريقة، شاملة، موحدة وموحدة، محصنة ومحصنة، تعتبر أغنى “رأسمال غير مادي” في عصرنا، مرنة في الاقتراض والاستيعاب (من دوارجها ومن أخواتها ومن خارجها) تملك سوقا مباشرا من حوالي 400 مليون نسمة، وغير مباشر من مليار يستعملون حروفها، وأكثر من مليار وسبع مئة مليون مسلم، يحمون ويقدسون كتابها، الذي يربطهم إلى بعضهم، ويربطهم مع السماء (الكتاب المقدس الوحيد في لغته عالميا وراهنا). المرشحة لدور لغة كبرى خامسة (بعد الصينية، الهندية، الإسبانية والإنجليزية) وقرائن ذلك متعددة: 60 مليون يستعملونها في الشابكة حاليا بزيادة تصل 2500%، وهي الأسرع انتشارا في العالم الراهن، حتى مقارنة بانتشار الإسلام نفسه (كما كان الأمر قبلا في العصر الوسيط) والتي أظهرت نجاعة استثنائية بل وريادة في الإعلام الفضائي الدولي، والأيسر في الترجمة الفورية بالنسبة لجميع اللغات السائدة، والوحيدة التي تسمح للأطفال والمراهقين الناطقين بها، من الاتصال المباشر ودون وسيط أو ترجمة، بنصوص تعود إلى 1500 عام (=عمرهم الثقافي عمليا). وما تعيشه العربية بالمغرب، باعتبار أن المغربية شكلت إلى زمن قريب أقرب عامية للعربية المعيار، يعتبر إبادة لغوية وهوياتية تقودها اللوبيات الفرنكوفونية التي تتحكم في القرار السياسي والثقافي بالبلاد. هذا القرار الذي يعتبر المدخل لرد الاعتبار للعربية وإنصافها باعتبارها عنوان الوجود الوطني والتحرر من التحكم الاستعماري، واستكمال الإصلاح السياسي والديمقراطي الذي يظل معطلا طالما أن حملات التلهيج مستمرة بالتوازي مع الإرهاب اللغوي الفرنكفوني. فقد تابعنا بقلق شديد دعواتهم لإحلال الدارجة المغربية مكان اللغة العربية في التعليم، بدعوى أن الدارجة هي اللغة الأم، وهي التي نستعملها في تواصلنا اليومي، ويجب أن تكون هي لغة الإصلاح، وأن العربية ليست اللغة الأم، وأنها ليست لغة العصر، وأنها لا تصلح للتعليم، وأن كل التدنيات فيه ناتجة عن اعتمادها كلغة لتدريس المواد العلمية، أو العلوم الحقة. لتنكشف بعد كل ذلك اللغط دعواهم الحقيقية باعتماد الفرنسية في تدريس تلك المواد باعتبارها الحل والمخرج من الأزمة. وزعمهم هذا ينطلق من تصور خاطئ، ليس من الناحية السياسية، والمجتمعية والتاريخية والثقافية فقط، وإنما أيضا من الناحية العلمية، فما يزعمونه لا أساس علمي له، وقد أثبت الواقع ذلك، كما أنهم يدعون وجود صراع بين الدارجة والفصحى، والحال ألا تخاصم ولا صراع بينهما. فاللسان الفصيح، هو اليوم الموحد عموديا للمكونات الجهوية والدينية والطبقية والقبلية والطائفية.. لكل شعب عربي على حدة. والفصحى وحدها اليوم مع رصيدها الثقافي، من يوحد العربيات إلى بعضها والعرب إلى بعضهم. ولهذا هي محاصرة ومستهدفة بالحروب من قبل الاستعمار الجديد والصهيونية… وذلك بعد أن نجحوا، مؤقتا، في إشاعة التنافر الاقتصادي والبلقنة السياسية في الجغرافيا العربية مشرقا ومغربا. فالإصلاح الذي يحتاجه التعليم، هو ما تحتاجه العربية، وتحتاجه كل جوانب حياتنا العامة. الإصلاح الثقافي-الديني-التربوي والأخلاقي…
فإصلاح التعليم، لن يتأتى بالانقلاب على التعريب، ولا بنكران العربية كلغة للتدريس، ولا بنكران فضائلها التي تتميز بها كما للغات الأخرى ميزات وفضائل. وفضائلها تتلخص في ذكائها وعبقريتها الخاصة، من حيث أنها لغة انصهارية مكونة من سوابق + أواسط + لواحق، وهذه خاصية لا حضور لها في أية لغة من لغات العالم. تكتب بدون حركات، وتقرأ بالحركات، أي أنها تقرأ بالدماغ وليس بالبصر، وهو أمر منعدم في اللغات الأخرى. أصواتها تغطي كافة جوانب جهاز النطق، خلافا للغات العالمية التي تغطي أجزاء متفرقة منه. تتكون من الجذور والوزن، والكلمة التي لا جذر ولا وزن لها، ليست من نظامها، وهذه أيضا خاصية لا توجد عند غيرها. قابليتها الجبارة على التوالد والنمو الذاتيين، اعتمادا على قواعد رياضية بسيطة ومحدودة. انضباطيتها ومنعتها الذاتية، من خطر السقوط في ما يتهدد اللغات السائدة اليوم (الإنجليزية خاصة) من تضخم وفوضى سرطانية لمصطلحاتها. وبما أن ذاك الإصلاح المأمول لن يتم بخرق القانون أو التهرب من المسؤولية. وبما أن التشريع المغربي يبدو واضح المعالم وحاسما إلى أبعد حد حينما يقر دستور المملكة بتعددية لغوية تتسم برسمية العربية والأمازيغية وتعايشهما من جهة، والانفتاح على لغات العالم الأكثر تداولا، وبما أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين يقر أيضا بضرورة الاهتمام باللغة العربية وتعزيزها واستعمالها في مختلف مجالات العلم والحياة، كما يقر أيضا بضرورة التفتح على الأمازيغية والتحكم في اللغات الأجنبية. وأيضا رؤية استراتيجية (2015-2030) تؤكد أن العربية لغة رسمية للدولة، ولغة معتمدة في تدبير الشأن العام، ومقوم أساسي من مقومات الهوية المغربية، واللغة الأساس والأولى للتمدرس، فلم هذا النكوص والتراجع؟ ولم يتم السكوت السلبي عن ثنائية وضع الواجهة ووضع الواقع المعاش؟ لم يتم التعاطي مع الوضع بمنطق دعه يعمل، دعه يمر؟ أليس الأمر مبيتا؟ ألا يفسح المجال أمام دعاة الفرنسة ليصولوا ويجولوا ويضمنوا استمرار مصالحهم ومصالح حواشيهم؟ ألا يشجعهم على المغالاة في سياسة الهولوكوست ضد العربية والسعي للقضاء عليها تحت مطية الإصلاح والانفتاح ووو؟ لم لا يتم تجريم الميز اللغوي الذي يرعونه ويكرسونه؟ لم لا تتدخل الدولة ومؤسسات الدولة للسهر على سيادة القانون وضمان العدالة اللغوية؟ لم لا يتم القطع مع المخالفة الصريحة للدستور من طرف لوبيات الفرنكوفونية والفوضى اللغوية التي تنوع شعاراتها ودواعيها بحسب كل مرحلة من مراحل حربها على العربية؟ ونحن هنا لا نقصد إلا رصد وضع شاذ مخالف للقانون بغض النظر عن الموقف من هذه اللغة أو تلك، وبغض النظر أيضا عن قيمتها ووظائفها وأدوارها.

المراجع:
– جلبير غرانغيوم، اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي، ترجمة: محمد أسليم، مكناس، الفارابي للنشر.
– روبرت ل. كوبر، التخطيط اللغوي والتغير الاجتماعي،ترجمة وتحقيق،خليفة أبوبكر الأسود،مجلس الثقافة العام.
– عبد السلام المسدي، السياسة وسلطة اللغة، 2007، الدار المصرية اللبنانية.
– عبد السلام المسدي، العرب والانتحار اللغوي، 2011، دار الكتاب الجديد المتحدة.
– عبد القادر الفاسي الفهري (2005)؛ “دعم اللغة العربية تعزيز للهوية القومية والتنمية المجتمعية.”
– عبد القادر الفاسي الفهري،”السياسة اللغوية في البلاد العربية: بحثا عن بيئة طبيعية، عادلة، ديموقراطية، وناجعة” (2013)،دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت،لبنان.
– محمد، الحناش، استخدام اللغة العربية في تقنية المعلومات، مجلة التواصل اللساني.

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات