جدلية اللهجة واللغة بين اللغويين العرب
لم يفطن اللغويون العرب إلى تبعات هذه الازدواجية اللغوية، ومخاطر الجدل حول العامية والفصحى التي حاول الاستعمار توظيفها سياسيا، لتشتيت اللغة العربية وتمزيقها
رفض المفكر المغربي الكبير عبدالله العروي في أحد لقاءاته التلفزيونية فكرة اعتماد اللهجة المغربية الدارجة في حقل التعليم، معتقدا أن اعتماد اللهجة الدارجة على المستويين: التعليمي والرسمي، سيجعل من الثقافة المغربية ثقافة فلكلورية، وهذا من وجهة نظره تبخيس لقيمتها، الأمر الذي جعله يصرح قائلا: «أرفض أن تكون لغتنا الوطنية هي الدارجة، لأن هذا سيفصلنا عن محيطنا وثقافتنا. أنا غير مستعد لأن أفرط في لغة يتكلمها 400 مليون شخص، ويشتغلون عليها لتكون في يوم من الأيام في مستوى غيرها من الأمم».
مضيفا بأن الانتماء إلى المغرب لا يتعارض أصلا مع الانتماء للمجموعة العربية، وإلى ثقافة الجاحظ، وابن خلدون، وألف ليلة وليلة.
يدرك العروي -جيدا- أن اللغة مسألة مصيرية مرتبطة بمصير مجتمع بأكمله، ويعلم أيضا أنه لا يوجد أي ارتباط بين أزمة التعليم في المغرب وبين اللغة العربية الفصحى، وهذا الجدل حول العامية والفصحى لم يقتصر على المجتمع المغربي، فهو جدل حاضر في غالب الجامعات العربية والمؤسسات التعليمية، وحالة الانهزامية للنهوض باللغة العربية الفصحى موجودة في غالب أقسام اللغة العربية في الأوساط الأكاديمية، ومحاولة فرض دراسة العامية ووصفها وإبرازها للوجود، موجودة في غالب أقسام اللغة العربية، تحت شعار مضلل يحمل عنوان: دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها.
إن الجدل حول العامية والفصحى يعكس حالة الانهزامية التي يعيشها اللغويون العرب اليوم، وكما يرى اللغوي الفرنسي كالفت، فإن اللهجة ليست سوى لغة مهزومة، أما اللغة فهي لهجة نجحت سياسيا، وفي الخطاب الاستعماري فإن جميع لغات إفريقيا تعد لهجات أو ربما «رطانات»، وفي كتاب الهيمنة اللغوية يقول روبرت فليبسون «ومن المسميات المتجذرة في ثقافة المستعمر مسمى القبيلة ومسمى اللهجة، ويعكس استخدام هاتين المفردتين طريقة المستعمر في تمييز نفسه عن المجموعة التي يسيطر عليها ويحتقرها، وبذلك فإنها تنبع من أيديولوجية عنصرية في أساسها، ويستخدم المستعمر هاتين المفردتين وفق العبارة التالية: نحن أمة لها لغة، بينما هم قبائل لهم لهجات».
لم يفطن اللغويون العرب إلى تبعات هذه الازدواجية اللغوية، ومخاطر الجدل حول العامية والفصحى التي حاول الاستعمار توظيفها سياسيا، لتشتيت اللغة العربية وتمزيقها، ولا شك لدينا في أن اللغويين العرب قد أكلوا الطعم اليوم، وصاروا يدرسون لغتهم في الجامعات الأجنبية بصفتها لهجة «dialect»، ويزعمون أنهم حين يدرسون العاميات فإن هدفهم النهائي يصب في خدمة اللغة العربية، والبعض يزعم أنه يدرس اللغة في ذاتها ولذاتها، ولا تسألني عن فائدة أو معنى دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها.
هذا الصراع بين العامية والفصحى في العالم العربي يعكس حالة غياب الوعي اللغوي وانعدام التخطيط اللغوي الذي ينبغي أن يكون النهوض باللغة العربية هو ركنه الأساسي، وعدم التسامح مع أي اختيارات لغوية مناقضة لهذا الهدف، فهذا قد يتسبب في تمزيق النسيج اللغوي الذي تشكل على مدى قرون، واختيار اللغة العربية الفصحى لم يكن لأسباب عرقية، بل لأن العربية تلعب دورا محوريا في تلاحم الهوية التراكمية التي تعبّر عن اللغة، كونها امتدادا متكاملا يربط الماضي بالحاضر بالمستقبل.
إن العرب اليوم تميزوا بنقص العناية باللغة كمدخل سياسي وثقافي ضروري وأساسي للتقدم والتنمية، فضلا عن غياب الخطة الإستراتيجية طويلة المدى التي من شأنها تمكين اللغة الفصيحة في بيئتها، ثم ترويجها خارج حدودها الإقليمية، وهذه المهمة -مع أهميتها السياسية والاقتصادية- هي ليست بالمهمة الهينة واليسيرة، لذلك وضع اللغويون العرب حلولا وسطًا، وتسويات لغوية ذات طابع هروبي، ومن هذه الحلول الكسولة: تبسيط اللغة، والتخلي عن النحو والإعراب، والركون إلى العامية، وهذه الحلول المطروحة دائما على طاولة اللغويين العرب، تعكس غياب الرؤية وحالة الانهزامية المنتشرة بينهم اليوم.
فلا توجد لغة انتشرت لسهولتها، ولا توجد لغة اندثرت لصعوبتها، وكما قال عالم اللغويات ماكس فاينرايش «إن اللغة ليست إلا لهجة تملك جيشا وبحرية» إشارة منه إلى أن انتشار اللغة وهيمنتها لا يكونان إلا عن طريق قوة المتحدثين بها من الناحية العسكرية، فاللغة الإنجليزية لم تنتشر وتصبح لغة العلم والعالم بسبب سهولة بنية قواعدها، وندرة تصاريفها، وبساطة استعمالها، ولكن لأن المتحدثين بها يملكون القوة العسكرية والسياسية أولا، والقوة الاقتصادية للحفاظ عليها وتوسيع نطاقها ثانيا.
لم تنتشر اللغة الإنجليزية لأنها لغة علمية أو لأنها علمية في ذاتها، فلا توجد لغة علمية ولغة غير علمية، فهي ليست إلا ادعاءات لمنح الإنجليزية غطاءً علميا خلال توفير مبررات تسهم في خلق حالة من عدم المساواة بين اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى، فالعلم لا يحمي اللغة ولا يعطيها فرصة البقاء والانتشار، فاللغة اللاتينية مع أنها كانت لغة المتعلمين، ولغة المراجع والمصطلحات والرموز العلمية، لكنها انحسرت وتضاءل دورها حتى صارت في عداد اللغات الميتة، بفعل القرار السياسي المدعوم بالقوة العسكرية، الذي استبدل اللاتينية بالقشتالية وبالفرنسية وغيرهما، مع أنهما لا تحملان المكانة العلمية التي تتمتع بها اللاتينية آنذاك.
محمد السعد
الوطن أونلاين
تعليقات