توفيق رباحي:العرب أعداء أنفسهم يحاربون لغتهم

481

يوم الجمعة الماضي أحيَت بعض الدول والمنظمات اليوم العالمي للغة العربية. الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) يصادف تاريخ تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار إلحاق العربية بقائمة اللغات المستعملة في مكوناتها وأعمالها.
كان الاحتفاء متواضعا، بل محتشما، يعبّر بصدق عن حال المُحتفى به. الاحتفال باللغة العربية في هذا الزمن يشبه احتفالا بعيد زواج مريض يعاني بشدة من الإهمال، منذ مدة طويلة، لكنه يرفض أن يستسلم للموت.
العربية من أجمل لغات العالم. لكنها تعاني من أسوأ ما في البشر من آفات: الجهل والكراهية. في كل مكان تعاني اللغة العربية من الجهل بها ومن كراهتيها (بسبب الجهل بها). وأحيانا يضاف لهما الاحتقار والاستهتار.
أكثر المساحات التي تعاني فيها العربية وتتألم، هي مساحاتها التي يُفترض أن تزهر فيها وتنتشر.
لكن الواقع أعوج ومُر. ففي المجتمعات التي تتحدث العربية، من المحيط إلى الخليج، مع فروق بسيطة، الإنسان الناجح هو الذي يُتقن لغة أجنبية على حساب العربية. وهو الذي يتشكل كلامه من خليط من اللغات واللهجات ليس بينها العربية الفصيحة.
في المجتمعات العربية لا يستحي الإنسان من الإقرار بجهله باللغة العربية، ولا يتورع عن تهشيمها، فلا يستوقف الأمر أحدًا. لكن كل الناس، وخصوصا من لهم فرص وإمكانية الحديث العلني، يخشون من «تهشيم» الفرنسية أو الإنكليزية، ويشعرون بعقدة أمام الآخر بسبب جهلها.
يبدو الأمر أكثر فداحة في المستعمرات الفرنسية سابقا، دول شمال إفريقيا. هناك تصبح اللغة معضلة وعامل تفرقة ثقافية وسياسية، وحتى طبقية، مخيفة أحيانا.
العربية هي اللغة الوحيدة في العالم التي يشعر العرب الجاهلون بها بالفخر بدل العار. وهي اللغة الوحيدة التي لا يتباهى العارفون بها بينما لا يتوقف مَن حفظوا حروفا معدودة بلغات أخرى عن استعراض عضلاتهم اللغوية في المجتمع. الردّة التي تعانيها العربية هي جزء من عتمة أكبر متعددة الأوجه تعيش فيها المجتمعات العربية. والأسوأ في الأمر أن هذه العتمة تتسع وتزداد سوادا، ومعها واقع اللغة العربية.
في بلدان الغرب وأوروبا، العربي الناجح هو الذي يجهل لغته ولا يؤلمه جهل أولاده بها. لكن الأجنبي الناجح، في المجتمعات ذاتها، ليس هو من يجهل لغته الأم (إن وُجد).
عندما يشارك جزائري أو تونسي أو لبناني في نقاش عام ويتكلم لغة عربية سليمة سلسة خالية من الأخطاء، ينظر إليه مجتمعه بطرف عين. وعندما يتحدث فرنسي أو سويدي أو بريطاني كلمات عربية، ولو نصف مهشّمة، ينظر إليه ذات المجتمع بإعجاب وحب، وينظر إليه كنموذج للاجتهاد والاستثناء.
الأجنبي الذي يعيش في دولة عربية، أو يقصدها لتعلم اللغة، ليس مُطالَبا بإتقانها بدقة وإحكام. أما العربي الذي يعيش في دولة أجنبية فمُطالب بإتقان لغة ذلك البلد على حساب لغته.

المجتمعات العربية غارقة في جهلها بالواقع اللغوي العالمي، مثل غرقها في جهلها بالواقع العالمي الاقتصادي والأمني والثقافي والعلمي

هذا عرض حال لواقع مُرّ يجعل الاحتفال باللغة العربية أمرا عبثيا، مثل الاحتفال باليوم العالمي للمرأة في مجتمعات منافقة تغتصب الفتيات بلا رادع، وبين احتفال واحتفال ترمي آلاف النساء وأطفالهن في الشوارع باسم الشرف وغيره من الأكاذيب.
هذا الواقع المُرّ سببه المتحدثون باللغة العربية من أهلها بالدرجة الأولى، ثم تأتي مسؤولية الآخر، وقد لا تأتي.
المجتمعات العربية غارقة في جهلها بالواقع اللغوي العالمي، مثل غرقها في جهلها بالواقع العالمي الاقتصادي والأمني والثقافي والعلمي.
هناك تقصير فادح من أصحاب اللغة العربية في إدراك أن العالم بحاجة إلى لغتهم وإلى من يتقنها ويُفيد بها. عُقدة النقص والتبعية للآخر أعمت عيون الناس عن استيعاب أنهم يمكن أن يكونوا في موقف قوة، وأن لغتهم ورقة قوة في أيديهم وليس العكس. يحتاج العرب إلى إدراك أن الآخر لن يحبهم أكثر إن تخلّوا عن لغتهم.
العرب الذين يدَّعون أن العربية لغة شعر وطرب فقط، إنما يفعلون لإخفاء جهلهم بها وتبرير فراغهم. حتى لو كان الأمر صحيحا فليس في الطرب والشعر عيبا أو نقصا، لأن أفضله في العالم، عبر التاريخ، نُطق وكُتب بالعربية. لكن كم من العرب يعرف هذا؟
صحيح أن كل اللغات مرّت أو تمر بمراحل صعبة وخطيرة. وكلها تدفع ثمن العولمة المتوحشة وكلفة تغوّل الإعلام الاجتماعي وفتكه بمقومات الشعوب وضمنها اللغة. لكن لغات قليلة جدا، وربما غير موجودة، باستثناء العربية، تواجه كراهية وجهلا متعمدا من أهلها، على الرغم من أن العالم لا يعاديها بالضرورة. فباستثناء فرنسا، ولجهل فادح وأسباب عقائدية خاصة بها، ليست هناك دولة غربية تشنّ حربا صريحة على اللغة العربية. جهل فرنسا ومؤسساتها السياسية والثقافية والإعلامية جعلها تربط بين العربية والإسلام، ثم بين الإسلام والإرهاب، واستنتاجا بين العربية والإرهاب. بينما العربية، في واقع الحال، أقدم من الإسلام، وهي أيضا لغة كنائس الشرق وبها أيضا كُتبت الكثير من الأعمال الدينية والثقافية اليهودية.
من المفارقات هجر العرب للغتهم يتزامن مع إقبال الآخرين عليها. فبينما يبحث العالم عن تعلم اللغة العربية، يصرُّ العرب على تركها.
مرة أخرى، ليس من تفسير لهذه المفارقة العجيبة سوى الجهل وقصر النظر. سيبقى العالم بحاجة إلى اللغة العربية طالما بقيت المنطقة العربية وسكانها تصنع الحدث وفي قلب الأعاصير السياسية والعسكرية والاستراتيجية الدولية. هذا وحده يكفي للحفاظ على العربية حيّة. ويكفي لفرضها باستمرار في خطط عمل وتفكير الدوائر السياسية والأمنية في كل الدول الغربية، وإنْ مبتورة أو مختزلة إلى لهجة مشرقية بعينها. ويكفي لإبقاء البحث عمّن يتقنونها مستمرا.
لكن هذه أنصاف حلول. إنقاذ اللغة العربية التي تأبى أن تموت متوقف على جهد أكبر يبدأ أولا من شفاء أصحابها من ضحالتهم السوسيوثقافية العميقة والمتشعبة.

القدس العربي

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات