اللغة العربية لغة بيولوجية ووجودية الجزء الثاني: الضمائر ووظيفتها الوجودية ج 2
د. محمد إسماعيلي علوي
نواصل – بإذن الله – سلسلتنا التوضيحية لجماليات اللغة العربية، ونبيّن بالدليل العلمي والبيولوجي واللساني ارتباط هذه اللغة الإنسانية بالوجود الإنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ما يجعلها لغة قوية يستحيل أن تفنى أو أن تموت.. وهو ما أهّلها أيضا لجعلها لغة الوحي بامتياز حاملة لمعانيه ناقلة لألفاظه بالدقة التي يتسحيل أن يأتي بمثلها ابن آدم.
ومعلوم أن كل اللغات تعتمد على الضمائر في أداء المعاني وإضمار الفاعل الحقيقي إما تجنّبا للتكرار أو رغبة في إخفائه لغرض دلالي، أو لأسباب أخرى معروفة.. لكن ما ينبغي الوقوف عنده أولا هو أنّ الضمائر في اللغة العربية تعكس الواقع الحقيقي للإنسان عامة، وليس للعربي الذي يتكلمها بشكل خاص فقط، خلافا للغات الأخرى؛ فإنها تعجز عن مجاراة كل تفاصيل الحياة وحركة الإنسان فيها. لقد جعلت العربية لكل مكوّن إنساني، ولكل موقف في الحياة ضميرا دالا عليه ناطقا باسمه ومعبرا عنه. والوجود كله قائما على ثلاثة مبادئ أساسية:
– مبدأ الفردية: إذ لكل شيء كيانه الخاص الذي يتفرّد به عن غيره، فلابدّ له إذن من ضمير يميز فرديته هاته عن المكونين الآخرين؛
– مبدأ الثنائية: التي يستحيل أن تستمرّ الحياة من دونها (ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين)، ويستحيل إيجاد مجتمع (أو جماعة) من دونها؛ إذ لابد للفرد (إنسانا كان أو نباتا أو حيوانا) من فرد آخر يكمّله ويتمّم وظيفته ليتحقق الإعمار في الأرض ويحفظ النوع ويستمرّ النسل. وما دام الأمر على هذا النحو الذي لا يستطيع أن ينكره حتى الجاحدون، فإن اللغة العربية سارت وفق هذا المبدأ الإنساني والوجودي فاتخذت المثنى طرفا وسطا (بين اإفراد والجمع) في التعبير.
إن الثتنية في الوجود كله لهي القنطرة التي يستحيل المرور من الفردية إلى الجماعة إلا بواسطتها وعبرها. ولذلك من قوانين الوجود الإنساني أنّ الفرد يستحيل أن يعيش في الحياة بمفرده مؤديا كل الأدوار فيها متحملا كل أتعابها ومشاقها، ثم معمّرا وخليفة فيها كما أمر الله. كما أنّ الجماعة لا تتحقق إلا بالتناسل وبالتوالد وبالتزاوج، وبها يتحقق الإعمار والاستخلاف في الأرض. وهذا لا يتم إلا بالتثنية (ومن ك شيء خلقنا زوجين اثنين)
– مبدأ الجماعية: رغم أن لكل شيء صورة وجوهرا وشكلا يميزه عن غيره من الموجودات من بني جنسه، فإنه يستحيل عليه أن يعيش منفردا ووحيدا. لقد اقتضت فطرة الله في الأرض أن تعيش مخلوقاته في جماعات (ليتخذ بعضكم بعضا سخريا) ويحتاج بعضنا إلى بعض، وتعمّر الأرض، وتكون هناك حياة عليها.
نعود الآن إلى علاقة كل هذا باللغة العربية ثم بباقي اللغات الآخرى لنقول إن اللغة العربية هي الوحيدة التي تستحق أن تعتبر اللغة الإنسانية بامتياز لأنها تساير أمر الله ومشيئة الله ورغبة الله في خلقه. لذلك نجد فيها ضمائر المفرد لتطابق مبدأ الفردانية، وضمائر المثنى لتطابق مبدأ الثنائية، وضمائر الجمع لتطابق مبدأ الجماعة.
وأذكر مرة وأنا أعلّم طلبة أجانب اللغة العربية فسألتني طالبة أمريكية في حنق واضح وضيق صدر بالعربية بسبب ما رأته كثرة في الضمائر من دون طائل، وقد استدلت على أن إنجليزيتها أسهل وأيسر وأحسن من العربية الحمقاء (هكذا وصفتها بقولها بالإنجليزية: Arabic is the crazy language). وبعد أن ابتسمت في وجهها عملا بقول الله (ادفع بالتي هي أحسن) قلت لها بإنجليزيتها (this is kind fo human rights) والمعنى (هذا نوع من حقوق الإنساني في عربيتي) ففهمت قصدي واندهشت وقالت (I didn’t realize that before) والمعنى (لم أدرك هذه الحقيقة من قبل). وما هي الحقيقة؟
الحقيقة هي أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي تحترم حقوق الناس أجمعين في التعبير، فجعلت لكل واحد منهم ضميرا. وأكثر من ذلك، فالمرأة لا تجد التكريم في اللغات الآخرى أكثر مما تجده في العربية؛ فكما أنّ لكل مذكر ضميرا (مفردا كان أو مثنى أو جمعا) نجد للمؤنث ضميرا مقابلا وبالتساوي لا ينقص منه شيئا. وهذا لا يوجد في اللغات الآخرى؛ ففي الفرنسية مثلا نجد ذلك حاضرا ولكن بشكل مقتضب (Il-Ils) في مقابل (Elle – Elles) في حين لا نجد مقابلا للمؤنث في الضمائر الأخرى. وفي الإنجليزية نجد (He- She) فقط ولا نجد تفريقا في باقي أنواع الضمائر الآخرى. لكنّ اللغة العربية جعلت لكل ضمير مذكّر صيغة مقابلة مماثلة دالة على المؤنث (أنتَ/أنتِ) (أنتما/أنتما) (أنتم/أنتنّ) (هو/هي) (هما/هما) (هم/هن). أفلا يكون هذا نوعا من حقوق الإنسان؟ أفلا تكون العربية اللغة الإنسانية – بامتياز – التي تحترم المرأة وتمنحها من الضمائر للتعبير عن كينونتها وخصوصيتها كما للمذكّر؟ بلى والله، إنها أحسن اللغات احتراما للمبدأ الإنساني: مبدأ التمايز والاختلاف.
هذا ما يجعلنا نؤكد على أنّ اللغة العربية لغة بيولوجية ولغة إنسانية: لغة بيولوجية لأنها تحترم الطبيعة البيولوجية للمخلوقات التي تخضع بالضرورة لمبدأ الفردية ومبدأ التثنية ومبدأ الجماعة. وهي لغة إنسانية لأنها تحترم خصوصيات النوع الإنساني بين التذكير والتأنيث فتجلعل لكل نوع ما يستحقه من أدوات التعبير المناسبة، فكانت الضمائر المختلفة سبيلا إلى هذا التمايز، ووسيلة خاصة للتعبير عن النفس. إن تعبير الرجل عن نفسه يختلف عن تعبير المرأة، بل إن الرّجل كيانا وشكلا ومقومات جسدية ونفسية يختلف عن المرأة التي ميّزها الله بجسد ومشاعر خاصة. فلم لا يكون لكل واحد منهما أدواته الخاصة أيضا في التعبير؟ ولم لا يكون لكل واحد منهما ضمائره الخاصة به الناطقة باسمه؟
تعليقات