اللغة العربية بين خطط التلويث والممانعة
رشيد بوزيان أكاديمي وكاتب مغربي
اللغة العربية في منطقة المغرب العربي وقعت ضحية لخطط تعاقبت على امتداد زمني متصل استهدفت تغيير الخرائط اللغوية والثقافية بالمنطقة.
ففي سياق التجاذب السياسي الحاد الذي استمر عقودا، بين المؤيدين والمعارضين لهذه الخطط، حدث اضطراب شديد للغاية في مسار الخطط والمشاريع المتعلقة بالمجال التعليمي بكل مكوناته وأبعاده ومستوياته.
وتمثل مشاريع التعريب التي اضطربت في هذه المنطقة اضطرابا كبيرا، لم يحدث مثله في أي منطقة عربية أخرى، الوجه الأقبح والأبشع لذلك التجاذب السياسي الذي استبدت فيه بالأطراف القوية الرغبةُ في تركيع الخصوم وتطويعهم ولي أذرعهم، استبدادا أنسى الجميع أقوياء وضعفاء خطورة نتائج ذلك التجاذب اللعين على أجيال المستقبل.
أما الوجه الأسوأ لهذا الأمر فتختزله حقيقة واحدة وهي ما آلت إليه خطط التنشئة اللغوية التي انتهجتها الحكومات، المتعاقبة على الحكم بعد جلاء المستعمر، من أوضاع يمكن تلخيصها في عبارة واحدة وهي التراجع الكبير في جودة الأداء الوظيفي للملكات اللغوية وفي مستوى الطاقات التعبيرية والأداء الثقافي والفكري عموما.
إن التدخل لتغيير وضع لغوي طبيعي فطري وتوجيهه بشكل صناعي لخدمة أغراض سياسية أو ثقافية أو اجتماعية تتحكم فيها الآلة الجيوستراتيجية بكل جبروتها لا تقل خطورته الأخلاقية عما أجمع عليه أولو الألباب والأحلام من أهل زماننا في ما يتعلق بالشفرة الوراثية للكائن البشري.
إن التدخل المذكور يتمثل في كل ما تمتلكه هذه الآلة وتسخره من أسباب القوة والطغيان والمال والسلطان، وهي أسباب تخضع في أساسها الفلسفي العام وفي مقاصدها التفصيلية لمعادلة القوي والضعيف ولمنطق الهيمنة.
هذا المنطق لا يستقيم لأصحابه إلا بإنشاء وإنفاذ الخطط القائمة على تصدير الأنماط الثقافية الجاهزة من الأقوى إلى الأضعف بهدف إعادة تشكيل تمثال الوعي الثقافي والولاء الحضاري القابع في الأعماق الوجدانية لهذا الضعيف وتصويره أو في أحسن الأحوال إعادة تشذيب بعض تفاصيله.
والغاية من ذلك أمران: أولهما التحكم عن بعد في المزاج العام الذي يمليه هذا التمثال الثقافي والحضاري على مستوى الاقتناعات الأساسية والتصورات والأنماط السلوكية (ذات البعد الثقافي والدلالات الحضارية المشحونة والممزوجة باعتبارات الهوية والانتماء)، وثانيهما ضمان التحكم في المنحى الذي يتخذه تصميم العلاقات مع الآخر على أساس كل هذه الاعتبارات.
إن هذا التسلط على الطبيعة اللغوية محاذيره ومخاطره ليست بأهوَن من نظائرها المتصلة بمجالات الجينوم البشري والشفرة الوراثية التي أجمع عقلاء الدنيا على تحريم استهدافها بأدنى ضرب من ضروب التعديل.
الملكة اللغوية بين التطور والتطوير:
إن تطوير الملكة اللغوية أنواع ودرجات، منها ما هو صناعي تعبث به العوامل البشرية الخارجية الضارة، أي العوامل التي يحركها الإنسان تحريكا يخدم أطماعه وعقائده واختياراته الثقافية والسلوكية وما أشبه ذلك مما لا يعد جزءا من الطبيعة الفطرية للأشياء، ومنها ما هو طبيعي فطري يحدث تلقائيا بسبب تنوع التجربة اللغوية لدى المتكلم تنوعا طبيعيا تلقائيا لا تنوعا قسريا مفروضا من الخارج.
نصف هذا الضرب من التنوع والتطور بأنه طبيعي وفطري لأنه يراعي وينفعل آليا بموجبات سنن التطور الطبيعي للملكات الإنسانية العليا التي تمثل الملكة اللغوية مظهرها الأسمى إطلاقا.
وهذه السنن تتداخل وتتفاعل في كيفية عملها وأدائها مع طائفة من العوامل المتنوعة التي تدخل في تكوين الطبائع الفطرية للغات.
إن الميراث الجيني البشري فيه ما يجعل الإنسان قادرا على استيعاب كل المؤثرات لكن هذا التأثر، درجته واتجاهه وسلوكه ومزاجه العام، يكون بحسب جملة من العوامل المحفزة أو المثبطة.
من هذه العوامل عامل العمر، فالطفل قد يكون مزدوجا في ملكته اللغوية الأصلية بسبب تنوع تلقائي عرضي حدث له في تجربته اللغوية الأولى ويسمي المتخصصون هذا بتثبيت الوسائط ( FIXING PARAMETERS) وتوجيه الكليات ( UNIVERSAL PRINCIPLES )في اتجاه يتناسب مع خصوصيات التجربة اللغوية.
لكن أن تتدخل عوامل القوة والجبروت البشري والاعتبارات المشابهة لاعتبارات العولمة في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي كما نعرفها اليوم، في تثبيت هذه الوسائط الفطرية في اتجاه واحد مفروض على الجميع على أساس عدم الاعتراف بحق الاختلاف اللغوي والثقافي، لأن هذا الاختلاف لا يخدم مصالح الأقوى، فهذه جريمة أخلاقية ينبغي أن تنص المواثيق الدولية على تحريمها ومنعها كما تنص على تحريم التدخل في الهندسة الوراثية الجينية للإنسان.
اللغة العربية والطفولة:
في انتظار أن تستيقظ النخب السياسية والجماعات التي آل إليها سلطان الحل والعقد في إدارة الشأن العام للمواطن العربي من سباتها وإهمالها نقول إنه من لطف الله بالشعوب العربية أن قيض لها من يتحدث إليها بالفصيح ويبقي على النزر اليسير من ظلال الملكة اللغوية العربية الفصيحة حيا متوهجا في الأعماق الوجدانية على الأقل، وأقصد الفضائيات الناطقة باللغة العربية الفصيحة والفصحى.
فهذه المؤسسات تمثل حقا علامة مضيئة في هذه العتمة اللغوية والثقافية، لاسيما المشاريع الإعلامية المتميزة المتوجهة إلى الطفل العربي، ملتزمة بقيم الإنسان الأساسية وبحرمة عقله وروحه ووجدانه وبمبدأ وجوب صيانة هذه العناصر والمواهب الفطرية وتلك القيم من عوامل التلوث ووجوب أن يُبتدَأ في كل ذلك بالطفل، والإشارة ههنا أساسا إلى قناة الجزيرة في نسختها التي تخاطب الطفولة، إنه نموذج إعلامي متفرد ومتميز شكلا ومضمونا.
هذه الفضائيات الناطقة بالعربية الفصيحة تمثل بالفعل نقطة مضيئة في النفق اللغوي العربي وهي مشروع نوعي على طريق تقويم وتصحيح الوضع اللغوي العام وتنظيف البيئة اللغوية من جزء لا بأس به من الملوثات التي تحدث في نفس الطفل تشوها لغويا أو في أحسن الأحوال هجانة لغوية تكون على حساب قدراته التعبيرية وطاقاته الإبداعية عموما.
لماذا نؤكد على الطفولة؟ لأن ما يسميه المتخصصون بعملية “تثبيت الوسائط” التي تتم في إطار علاقة تفاعل حيوية بين الثوابت الفطرية الخلقية في الملكة اللغوية في صورتها الأصلية وبين التجربة اللغوية الخاصة، أي متغيرات المحيط اللغوي ومعطياته، وتنتهي بالمشهد الرائع والفريد الذي ليس له شبيه ولا مثيل في عالم الأحياء وهو اكتساب اللغة وممارستها وتوظيف كل طاقاتها وآلياتها في التواصل والتداول ثم في الإبداع والتعبير عن الفكر والوجدان والثقافة..
إن هذا المشهد يبدأ وينمو ويترعرع وينضج وفق سنن فطرية يحددها برنامج خلقي يعتبر جزءا أصيلا ومكونا من مكونات الميراث الجيني للإنسان، ومن هذه السنن والعوامل المحددة جينيا أن هذا المشهد بكل تعقيداته وتفاصيله يجب أن يتم وفق جدول زمني محدد، جدول فيه مساحات فسيحة تمتد سنين من عمر الإنسان ولأجل ذلك فإن هامش المناورة فيها واسع نسبيا.
وهذا الهامش هو الذي يمكّن الإنسان من الاكتساب النسبي والجزئي للغةٍ غير لغته الأم حتى في مراحل متقدمة من عمره، وفيه مساحات ضيقة وحرجة مبناها على منطق الفور والمباشرة.
وفي هذه المساحات تكون الحساسية للعامل الزمني مرتفعة جدّا، فإذا تم فيها تعطيل شيء من هذه السنن أو التدخل في كيفية ونمط عملها فإن النتيجة الحتمية تكون الإعاقة التعبيرية والفكرية والثقافية. وحِدّة الإعاقة تكون بحسب حدة وقوة ومساحة التدخل.
الطفل مثلا يخلق وهو مزود بقدرة محددة بعوامل بيولوجية وجينية على المشي مثلا وعلى تعلم الكلام والتواصل اللغوي مع محيطه لكن إن تعرض هذا الطفل مثلا لسوء معاملة فحُبس حتى جاوز العمر الذي يتعلم فيه المشي أو بلغة العلماء العمر الذي ينص البرنامج الجيني على أنه ينبغي أن تخرج فيه هذه القدرة عند الطفل من حالة “المعلومة الجينية” إلى حالة “السلوك والإنجاز العملي”، فإن مصيره إلى الإعاقة لا محالة وسيصعب بعدئذ علاجه من الإعاقة لا لأن فيه مانعا بيولوجيا ولكن لتدخل الإنسان في سير النمو الطبيعي عنده.
فالتطور الطبيعي للطفل في كل المجالات العقلية والحركية والمعرفية واللغوية وغير ذلك، مشروط بأمرين متلازمين هما وجود المقتضى وانتفاء المانع، فوجود المقتضى -وهو الفطرة والطبيعة والملكات التي يولد مزودا بحظه منها غير منقوص- لا يؤتي ثماره إلا إن انتفت الموانع التي تعرقل السير الطبيعي لتطور هذه الملكات والقدرات.
إن تشويه مسار التطور الطبيعي للجينات اللغوية للطفل بشكل منهجي متعمد ومتحكم فيه -عن بعد أو عن قرب- لزرع بذور العجز فيه والإعراض والعزوف عن تشغيل الملكات اللغوية والإبداعية بسبب العجز التعبيري في اللغة الأم والنزوع بالتالي نحو التخلق بأخلاق الاتباع والتبعية بدلا مما جُبل عليه في أصل خلقته من القدرة على الإبداع، أقول إن تشويه مسار التطور الطبيعي للجينات اللغوية للطفل بشكل متعمد لخلق نوازع وميول التبعية الثقافية لأنظمة حضارية غير التي ينتمي إليها في الأصل جريمة في حق الطفل ينبغي النصّ عليها في المواثيق الدولية.
الطفل له الحق أن يثبت وسائط ملكته اللغوية في اتجاه البيئة اللغوية الأصلية التي ينتمي إليها والتي شاءت الأقدار أن يعيش في كنفها.
نقول هذا ونقول أيضا إنه يصدق حتى على الحالات التي يجد فيها الطفل نفسه يحيا في بيئة غير بيئته ولغة بني جلدته.
إن جودة الملكة اللغوية عند المتكلم وطاقاته التعبيرية وقدراته الفكرية بالتبع واللزوم تتناسب طردا وعكسا مع درجة التزام المجتمع تجاه الطفل في هذا الشأن.
اللغة العربية واللغات الأخرى:
اللغة تمتاز بمرونة طبيعية كامنة في أصلها الخلقي الجِبٍلّي بقدرتها على الاختراق الثقافي والحضاري للأمم وذلك إذا ما تهيأت لها أسباب القوة والمال أو في حالات الاستيعاب التلقائي.
وهنا ينبغي أن نميز بين نمطين أساسيين من أنماط التداخل بين اللغات وتأثير بعضها في بعض:
1- هناك نمط عدواني تحركه آليات هجومية من النمط الحربي المعمول به في التجاذب العسكري بين الأقوياء والضعفاء، حيث تكون العلاقة بين اللغتين المتواجهتين علاقة بين عدو مهاجم وضحية تحاول الممانعة للدفاع عن الهوية الثقافية والانتماء الحضاري والتميز عن الآخر، أيا كان هذا الآخر حتى ولو كان صديقا وحتى لو انصهرت أنساب المتكلمين انصهارا كبيرا كما هو الحال في الحالة الأمازيغية في المغرب العربي.
ففي هذه المنطقة انصهر الدم العربي والدم الأمازيغي على نحو صار معه من الصعب أن ترسم مشهدا للصفاء العرقي العربي أو الأمازيغي إلا في حالات محدودة جدا، وما المآسي اللغوية التي انتهت إليها اللغات البائدة إلا نتيجة لهذا النمط من التدافع بين القوي والضعيف.
وقد اختلفت حظوظ اللغات القديمة من البقاء، فهناك لغات استطاعت أن تصمد أمام أعتى الهجمات التي استهدفتها، وبقيت لغة للتواصل لكن في حدود ضيقة إلى أقصى الحدود، تبلغ في بعض لغات القبائل الأسترالية ولغات قبائل الهنود الحمر في أميركا الشمالية مئات معدودة من المتكلمين وفي حالات أخرى بضعة آلاف تعد على رؤوس الأصابع.
2- هناك نمط آخر من التفاعل الإثني بين المجموعات اللغوية، يمكن وصفه بأن مبناه ومزاجه استيعاب متبادل أساسه الود والاحترام.
في هذه الحالة ينشأ التعدد اللغوي السليم الذي منشأه الرغبة المتبادلة بين لغتين في التواصل، وهنا يخضع مزاج التأثير والتأثر للعوامل الطبيعية والفطرية الموجودة في الظاهرة اللغوية.
فهناك سنن طبيعية موجودة في الأنساق اللغوية الطبيعية تنظم عملية التأثير والتأثر، واحترام هذه السنن وعدم التدخل في طريقة عملها هو الذي يصنع التنوع اللغوي الرائع والسلس الذي تمتاز به العديد من الفضاءات اللغوية في العالم.
ومن أجمل هذه الفضاءات التي أعرف تفاصيلها جيدا بحكم النشأة اللغوية الأولى، ما آل إليه أمر الصلة بين اللغة العربية واللغات الأمازيغية في المغرب العربي.
هناك من يتحدث اليوم عن تعرض اللغات الأمازيغية في المغرب العربي لخطر كبير يهددها بسبب الوضع المتميز للغة العربية على المستوى الرسمي والإعلامي… إلخ وعدم تكافؤ الفرص المتاحة للمنظومتين اللغويتين العربية والأمازيغية.
والمتأمل في هذه المسألة يجد خلاف هذا الاستنتاج إذا انطلق من منظور علمي بحت يستبعد كل عوامل التصادم التي زرعها المستعمر بين العربية وغيرها من اللغات التي يتواصل بها الناس في البادية الأمازيغية بمختلف مكوناتها حيث الكثافة السكانية الكبيرة والتجمعات الديمغرافية الهائلة التي تضمن للغات الأمازيغية هامشا من المناعة ضد عوامل الاضمحلال لا تتمتع به العربية حتى في أقوى معاقلها الرسمية والإدارية والإعلامية.
فالذي يقوي أجهزة المناعة ضد عوامل التلوث السلبي الذي يؤدي إلى الضعف والاضمحلال ثم الانقراض ليس استعمال اللغة في وسائل الإعلام أو الاعتراف القانوني بها لغة رسمية أو ما أشبه ذلك من الإجراءات الصناعية التي تفرضها الفئة القوية بقوة المال أو السلطان وإنما حرية تداولها في الحياة اليومية بشكل طبيعي بين المتكلمين بها.
إن القوة التداولية لهذه اللغات امتياز كبير ضمِن لها الصمود أمام كل المؤثرات، فمن ذا الذي يمكن أن يزعم أن العربية أثرت على الأمازيغية وأنها مارست عليها تأثيرا أضر بنقائها اللغوي إلا مكابر في قلبه شنآن للعربية ولأهلها وثقافتها وحضارتها، ومثل هذا لا يُكلّم أصلا، لأن الداء العضال الذي طوي عليه فؤاده قد أفسد آلة الإدراك والاستدلال عنده.
إن صمود هذه اللغات أمام المتغيرات التاريخية الهائلة التي تعاقبت على منطقة المغرب العربي قرونا متطاولة يدل بما لا يدع أدنى مجال للشك، على أن العلاقة التي نشأت بين اللغة العربية ولغات كل الشعوب التي اعتنقت الإسلام علاقة من نوع ونمط خاص لا نعرف له مثيلا في تاريخ اللغات، إذ إنه ما من حضارة انتقلت خارج حدودها الجغرافية وحملت نمطها الحضاري والثقافي إلى أمة أخرى إلا أدخلت الضيم على اللغات الأصلية للشعوب المضيفة للنمط الدخيل.
إن مقارنة بسيطة بين الحضارات الغالبة والمغلوبة في العالم القديم وما تبع ذلك من توابع وذيول على مستوى الواقع اللغوي للحضارات المغلوبة استئصالا للغاتها الأصلية وطمسا لها تعطي الدليل القاطع على أن اللغة العربية والحضارة العربية والإسلامية مثلت استثناء متميزا في هذا الخصوص.
وهذه مقارنة تحتاج إلى وقفة متأنية وصفًا لتفاصيل المشهد وتفسيرًا لمتغيراته وسيره في الحالتين، لنقارن مثلا بين مآل لغات الهنود الحمر في أميركا الشمالية على وجه الخصوص، وبين ما آلت إليه اللغات الأمازيغية في شمال أفريقيا.
فقد أبيدت لغات الهنود الحمر في بضع سنين أو تزيد وبقيت اللغات الأمازيغية لغة للتواصل في القبائل الأمازيغية على كل الامتداد الجغرافي الكبير لهذه القبائل في شمال المغرب العربي ووسطه وجنوبه.
السؤال بعد ذلك هو لماذا هذه المفارقة؟ الجواب من جهتين: جهة القيم الثقافية والحضارية التي امتلأت بها الأوعية اللغوية للُغةِ الأقوى، وجهة السنن الطبيعية التي تحكم علاقة اللغات بعضها ببعض في الحالات المختلفة.
ومما يقوي الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه من أن اللغة العربية تمثل استثناء في مشهد العلاقة بين القوي والضعيف، أن الحالة الأمازيغية في المغرب العربي ليست فريدة في بابها بل هي مثال واحد له من النظائر والأشباه ما لا يتسع هذا المقال للإحاطة به عدّا وإحصاء.
ويُجزئ من ذلك أن نُذَكِّر بالحالة الفارسية وبالحالة التركية قبل أتاتورك، وكذا بالحالات الآسيوية بمختلف نماذجها، لاسيما في شبه القارة الهندية.
لقد كانت اللغة العربية بالنسبة لكل هذه النماذج ضمانا لاستمرار اللغات وعدم انقراضها وذلك في سياق جدلية التفاعل اللغوي مع المضامين الدينية والثقافية والحضارية التي ارتبطت باللغة العربية بعد نزول القرآن وما تلا ذلك من حراك اجتماعي وسياسي وحضاري وديمغرافي كبير شاركت فيه شعوب الدنيا بأسرها.
فارتباط هذه اللغات التاريخي بالخط العربي أولا ثم بالمقدس الذي كتب بهذا الخط أي النص القرآني والحديث النبوي الشريف وعلوم الشريعة، لم يكن حدثا عاديا بالنسبة لمصير تلك اللغات، فالارتباط بالمقدس يمثل في جوهره عمقا تاريخيا وبعدا حضاريا يحصِّن في اللغات نظام المناعة الذاتي ضد عوامل الانقراض الطبيعية التي تسري على كل كائن حي.
فاللغة كائن حي يسري عليه من سنن القوة والضعف والحياة والممات وتأثر هذه السنن بمتغيرات منطق “أنظمة المناعة” وثوابته، ما يسري على كل نوع من الأنواع الحية.
المصدر: الجزيرة
تعليقات