العربية.. لغة عالمية ولكن
غدت العربيةُ المعاصرة، بعدما طرأَ عليها ما طرأ من تغييرات جوهرية، موضوعاً للدرس اللساني، يعكف عليه المختصّون في ندواتهم ومحاضراتهم، فتُسفِر عن كتبٍ ومقالات. ولا تشمل هذه التغييرات الضادَ بوصفها منظومةً من المفردات والصيغ الصرفية والقواعد التركيبية فحسب، كما كان الشأن في أبحاث النحاة واللغويّين من قبلُ، بل بوصفها نظاماً للتواصل والتعبير بات يتَّسم، في أيامنا هذه، بامتدادٍ عالمي ويُشكّل رهاناً استراتيجياً وقضيّةَ هوية تعيش ضمن منطق الاختلاف والتصارع، لاسيما في قارّتَي أوروبا وأميركا.
ولعل هذه التحوّلات اللغوية انعكاسٌ لما في المنطقة العربية من اضطرابات جيو-سياسية لا تهدأ، ممّا يُضفي على هذا الاهتمام شرعيةً، رغم أنه، في الوقت الراهن، لا يزال غير وافٍ بتعقيدات الضاد وتحوُّلاتها.
من بين المبادرات التي رصدت هذا التحوُّل ندوةٌ عُقدت مؤخّراً في “معهد العالم العربي” بباريس، وفيها تعاقب المحاضرون، الذين جاؤوا من آفاقٍ واختصاصات متباينة، على تفكيك هذه المفارقة الصعبة: كيف نُبرّر توصيف اللغة العربية، في فرنسا، بكونها لغةَ جماعة ضيِّقة (Langue communautaire)، وأنها الأقل تدريساً في المعاهد العمومية، رغم أنها خامس الألسن استعمالاً في العالم، وسادسة اللغات الرسمية في مداولات الأمم المتّحدة وأكثرها حضوراً في القنوات الفضائية ذات الانتشار الكوني.
ومن أجل الإجابة عن سلسلة المفارقات هذه، تصدّت كوكبة من الباحثين العرب والفرنسيّين لعرض جوانب الكونية في الضاد ومظاهر تحوّلاتها.
جُمعت أوراق الندوة وصدرت أخيراً في كتاب بعنوان “اللغة العربية: لغة عالمية” (منشورات لارمتان- باريس، 2018). ضمن التوطئة، بيّنت ندى يافي، المشرفة على إقامة الندوة وإصدار الكتاب، التحدّيات الراهنة التي تواجه اللغة العربية، وتلتها كلمتا جاك لانغ رئيس “معهد العالم العربي” وزير الثقافة الفرنسي سابقاً، ومعجب الزهراني، مديره العام.
أمّا متن الكتاب، فيتوزّع على ثلاثة محاور كبرى: خُصّص الأوّل منها للتأكيد على أن العربية لغةُ حضارةٍ كبرى، ولها بسبب مُكوِّنها الحضاري هذا، أبعادٌ كونية. يتألّف هذا الجزء من أربعة مقالاتٍ: “المعرفة العلمية الرياضية” بقلم أحمد جبّار، و”ترجمة النصوص الفلسفية للعربية” بقلم مكرم عبّاس، ومقال لهاشم فودة حول “دواعي الحديث عن الأدب القديم”، ودراسة طريفة لـ فريدريك لاغرانج حول “لغة الأغاني العربية”، ورصدٌ لأثر الميديا فيها لسعاد الطيّب، وأخيراً بحثٌ عن “اللغة العربية على شبكة الإنترنت” لحبيب عبد الرب السروري.
وأمّا المحور الثاني، فعُني بمستقبل اللغة العربية في الأوساط المهنية، وتضمّن ثلاثة مقالات: “العربية لغة المستقبل للشباب”، و”اللغة بصفتها أحد عوامل التقدّم المهني والاجتماعي” و”أهمية التقييم في عملية نشر اللغات”، لكلّ من مروان لحود وأوليفييه فارون ودانيال أسولين تباعاً.
وأما المحور الأخير، فخُصص لتسليط الضوء على أوضاع تعليم اللغة العربية في فرنسا، وهو يتكوَّن من أربعة مقالات حول قضايا تدريس اللغة العربية في الجامعات ومراكز التعليم وتأثُّره (أي التدريس) بالثورة الرقمية.
ويجدُر التنويه إلى أن سلسلة المحاضرات الثلاث عشرَة، التي أُلقيت بالفرنسية، تُرجمت كلّها إلى العربية، وأُلحقت بالكتاب، في إشارة واضحة إلى أنّ الضاد قادرة على التعبير عن كل المضامين المعرفية والمنهجية وأنها، اليوم، كما كانت في عهد ازدهارها، لغةُ وصف علمي تفي بخصائص موضوعها ولا تُخِلُّ. وقد نهض بترجمة المقالات كلٌّ من ندى يافي وموسى الحوشي وسلوى الخليل ولويك برتراند، وجاء أسلوبهم فيها متيناً.
كما تجدر الإشارة إلى أن الأبحاث المقترَحة في الكتاب تَجاوزت بكثير الحقل الألسني المحض، وطاولت مجالات التاريخ والسياسة بالمعنى الواسع للمصطلحَين: فمن جهة أولى، نُظر إلى العربية، موضوعاً للدرس، ضمن خطٍّ زمني، ضاربةٍ جذورُه في العصر الإسلامي الأوّل وممتدّة إلى يوم الناس هذا، مع السعي إلى رصد تجلّياتها وأشكال حضورها في حقول المعرفة والثقافة والتبادل بين الحضارات الكونية، مثل اليونانية؛ حيث كانت الضاد اللسان الناقلَ للتراث الهليني، ومثل اللاتينية حيث شكلّت العربية المرجعَ الذي استُند إليه في نقل العلوم إلى الغرب إبان نهضته الحديثة.
ومن جهة ثانية، عُولجت الضادّ، هنا، ضمن صراع الهويات وتجاذب السياسة، فليست هي بالتحفة المحفوظة في برجها العاجي، فلا يطاولها شرَرُ التاريخ، بل بالعكس، هي في صميم تنازع الحضارات وقلبِه. ولا أدلّ على ذلك من التصريحات المناوئة والمساندة التي لا يفتأ الساسة الفرنسيون يُدلون بها حول تدريس العربية في معاهد الجمهورية، رابطين إياها تارةً بالطائفية، ومن طرف خفي، بالإرهاب، وتارة يُعيرونها بأنها لغة هوية تلحق الضيمَ باللسان الفرنسي، ولا تهمّ سوى فئاتٍ من المجتمع الفرنسي، أي المهاجرين وأبنائهم، وتارةً أخرى يجعلونها مصدر سحر وإلهامٍ.
ولذلك، فإنه من مزايا هذا المجموع تَخطِّي الفضاء الأوروبي لمعالجة وضع العربية في العالم المعاصر بأسره. فالمقصد، كما يُشير إليه العنوان، وفيه شيءٌ من الدهاء، هو إبراز قدرة الضاد على الإسهام في تراث الإنسانية وصنع خطابها المعرفي، ماضياً وحاضراً، مع تأكيد مدى “عبقريتها” في أن تكونَ جزءاً من الرصيد الكوني الحالي في مجال العلوم والدبلوماسية والسياسة. وهكذا لا تتعلّق القضايا المطروحة بإشكاليات تعليم هذه اللغة في فرنسا فحسب، بل تتّصل بما لحقها من تطوُّر في المناهج وطرق التلقّي والانتشار.
وأمّا الميزة الثانية، فتتمثّل في حمل الناس على التفكير في اللغة العربية ووضعها في العالم والتساؤل عن إشكاليات هذا الحضور وكيفياته وغاياته. وهذا النوع من التفكير يُكمّل الدرس الألسني المحض الذي يركّز على القواعد والنظام الصوتي والصرفي… ولا شك أن فرنسا من أكثر دول الغرب اهتماماً بالضاد بحكم تاريخها الاستشراقي الذي حَكم معارفها في الماضي، ثم بحكم التزايد الديمغرافي لأبناء الجاليات العربية التي اتخذت من فرنسا وطناً ومَوطناً، وباتت اليوم، بحركة عودٍ طوعي، تتطلّع إلى معرفة لغة أسلافها وإتقانها.
إلا أن المَأخذ على هذا المُؤَلَّف هو عدم التركيز المعمَّق على محور واحدٍ، ذلك أنّ كل جانب من الجوانب المعالَجة يستحق أن تُخصَّص له كتب ومحاضرات كاملة، وهو ما أضفى على بعض الفصول طابع السطحية والارتجال، دون تعمُّق في رصد النتائج وربطها بالأسباب.
وكان للكتاب أن تكونّ مضامينه أكثر دقّةً لو رَكّز فيه أصحابه على تحوُّلات الضاد ضمن المفارقة الأصلية، دون التعريج على الموضوعات الجانبية والمعلومات المألوفة. كما أن أسلوب التحرير فيه متفاوتٌ: فبعض المتدخّلين خاض في قضيته بشكل أكاديمي، مثل هاشم فودة الذي أجاد في حديثه عن شرعية الأدب والشعر القديم في فرنسا اليوم، أو أحمد جبار الذي استعاد علاقة الضاد بالرياضيات… وبعضهم الآخر اكتفى بملاحظات يَعرفها القاصي والداني.
والخلاصة أنَّ مثل هذه الأعمال تفتح باباً جديداً في الاشتغال على الضاد بحُسبانها قضيةَ مجتمع وسؤالَ دولةٍ. فلم تعد مجرَّد شاغلٍ نخبوي، بل هي همٌّ جمعيٌّ، ينفتِح على كل الحساسيات والرؤى وشأنٌ عام، يهمُّ كافّةَ أطراف المشهد الثقافي في الغرب.
وفي الختام، من المشروع أن نتساءل: هل يصل صدى مثل هذه الأبحاث والندوات والمؤلَّفات حول العربية المعاصرة إلى المتابِع العربي، سواء ضمن دوائر التخصُّصات اللغوية والألسنية أو خارجها؟ وهل توجد جهود عربية داخل الجامعات والمؤسَّسات الثقافية ودور النشر، لمتابعة الدراسات التي تُعنَى بالعربية في العالم، وبمواقعها، وسبل تطوّرها، وهي مشاغل ينبغي أن تأخذ حيّزاً كبيراً لدى من يتحرّك ضمن أفق لغوي بالأساس، سواء في البلدان الناطقة بالعربية أو التي تحضر فيها هذه اللغة بشكل ما.
لا ينبغي أن يقتصر وصف العربية بأنها لغة عالمية فقط على قرار أممي رسمي، بل ينبغي أن يكون قبل ذلك وبعده جهدَ أصحاب اللغة نفسها، بترسيخ موقعها وتحيين رهاناتها، وهو ما يتطلَّب من أهل الاختصاص العرب مزيداً من الانفتاح الذهني والتعمُّق المنهجي حتى تصير الضاد، كما كانت دوماً، لغةً كونية تصنع العالم وتمُدُّه بعناصر الأصالة والوثوق.
تعليقات