التوالد السردي في كتب التراث القصصي العربي ألف ليلة وليلة نموذجا: د.مصطفى عطية جمعة
المقصود بكتب التوالد السردي هي تلك الكتب القصصية التراثية ذات الحكايات والقصص ذات الطول الظاهر وما يتفرع عنها من حكايات وقصص أصغر. ويحرص السارد فيها على رد القارئ -دائمًا- إلى الحكاية الأصلية.
وبعبارة أخرى فإن الحكاية الطويلة تكون عباءة لكل الحكايات الصغيرة التي تندرج تحتها دون إخلال ببنية الكتاب الشكلانية أو الموضوعية؛ ففيه نوع من التوالد السردي أو تعدد في المستويات السردية بين حكاية كبيرة وما يتفرع عنها من حكايات أصغر وتُعرَّفُ بأنها: كل حدث ترويه حكاية هو على مستوى قصصي أعلى مباشرة من المستوى الذي يقع عليه الفعل السردي المنتج لهذه الحكاية، وقد يكون سارد الحكاية الثانية شخصية في الحكاية الأولى سلفًا وأن فعل السرد منتج الحكاية الثانية وهي حدثٌ مروي في الحكاية الأولى. وأيضًا تسمى الحكاية القصصية التالية فالحكاية من الدرجة الثانية شكل يرقى إلى أصول السرد الملحمي ذاتها.
ويصدق هذا الشكل على كتب القصص الكبيرة وأبرزها كتاب: “ألف ليلة وليلة”.
فكتاب “ألف ليلة وليلة” يتألف من حكاية كبيرة تمثل العباءة الجامعة للحكايات الفرعية، وهي حكاية شهريار الملك الذابح عرائسه صبيحة زفافهن له مع عروسه الأخيرة شهرزاد، التي سعت إلى إنقاذ نفسها وبني جنسها. فحين عرض الوزير الأمر على ابنته وكانت قد قرأت كتب التواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضية، فقالت شهرزاد لأبيها: “بالله يا أبتِ زوّجني هذا الملك فإما أعيش وإما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسببًا لخلاصهن من بين يديه” وتتزوجه وتنجب منه ثلاثة أبناء خلال الليالي الألف التي قضتها تحكي له حكاياتها حتى غيرت وجهة نظره عن النساء من خلال حكاياتها التي حوت أهدافًا طيبة في ثناياها.
فالبناء الكلي للكتاب ينطوي على أخبار رئيسية Proposition مترابطة ومعطوفة على بعضها البعض، وهذه الأخبار تتضمن بدورها أخبارا مترابطة ومعطوفة على بعضها وهلم جرا، والخبر الرئيسي: قصة شهريار مع شهرزاد وهو يغطي صفحات قليلة في بداية الكتاب ويطلق عليه القصة الإطارية Frame Story. ولو أسقطنا القصة الإطارية من الكتاب لأصبحت قصصًا غير مترابطة.
وقد اعتمدت تقنية الكتاب على الحكايات الطويلة التي تتجزأ إلى حكايات موزعة أحداثها زمنيًا على كل ليلة من الليالي الألف- هذا لو سلمنا بأن هذا هو سبب تأليفها الحقيقي- ذلك في الوقت الذي يغيب عنا المؤلف الحقيقي لهذه الليالي لتصبح نصًا شعبيًا يضيف ويحذف ويبدل فيه من يشاء حسب ظروف روايته وحسب طبيعة متلقيه. وقد أشار كثير من الباحثين إلى أن ألف ليلة وليلة هو نص تعاقبَ عليه كثير من المؤلفين والرواة، فمن الخطأ أن نظن أنها ذات أصل عربي بالرغم من أن اللون العربي هو الشائع في كثير من قصصها، كما أنها معروضة بأسلوب عربي وترجمت إلى لغات العالم عن العربية، ولكن هناك من حكاياتها ما يعود إلى أصل يوناني مثل قصة السندباد البحري وبعض حكاياتها مستمد من الأدب الشعبي المصري مثل قصة علي بابا والأربعين سارقًا. ولكن تبقى الحقيقة أنها كتاب قصصي يمثل ثقافات وقصص لشعوب عدة اطلع العرب على آدابهم وهضموها ومن ثم صبغوا قصصها باللون العربي: أحداثًا وأمكنة وأزمنة وعادات وتقاليد وأيضًا تطويع القصص المستمدة من مصادر أخرى لبنية الكتاب. وهذا تم في أزمنة عديدة وعلى أيدي النساخ والرواة الذين تلقفوا الكتاب في البلدان العربية وراحوا يبدّلون فيه وهذا واضح بالنظر إلى أصول الكتاب المتعددة والمختلفة في آن.
وبالتالي فإن كتاب “ألف ليلة وليلة” استطاع أن يمثل وعاء عربيًا شعبيًا وأدبيًا استوعب نتاج جميع الحضارات المختلفة التي ازدهرت لدى شعوب المنطقة دون نفي للتفاعل الثقافي بين شعوب المنطقة حيث إن توحيد هذه الشعوب في ظل الدولة الإسلامية وسيادة اللغة العربية لتصبح اللغة المشتركة بين شعوب دولة الإسلام.
ونجد أن السارد في الكتاب يستخدم عادة عبارة “وأدرك شهرزاد الصباح فسكت عن الكلام المباح” لتكون لحظة توقف زمني من السارد يعيد القارئ/ السامع إلى أجواء الحكاية الكبرى (شهريار / شهرزاد). كما أن الحكايات نفسها تتجزأ إلى حكايات فرعية ولنأخذ أمثلة لذلك:
(حكاية الملك شهرمان وابنه قمر الزمان) وتتفرع منها: حكاية قمر الزمان والعفريتة ميمونة، وحكاية ميمونة ودهنش، وحكاية قمر الزمان والوزير، وحكاية قمر الزمان وخادمه، وحكاية قمر الزمان مع أبيه، وحكاية السيدة بدور مع أبيها.. إلخ.
ومن دون سرد لمضمون الحكايات نلاحظ في الحكاية السابقة شهرمان وابنه قمر الزمان (حكاية الملك) أنها حكاية أصغر متفرعة عن الحكاية الكبرى/ العباءة (شهريار وشهرزاد) ويبدو الأثر الفارسي واضحًا فيها من خلال أسماء الشخوص. وقد تفرعت عن الحكاية الأصغر حكايات صغيرة تشكل في رسمها الورقي- إن جاز التعبير- الشكل الشجري الذي يتكون من جذر وساق وتتفرع عن الساق أغصان كبيرة ويتفرع عن كل غصن أغصان أصغر وهكذا دواليك.
هذا البناء يتجزأ إلى حكايات صغيرة تختص كل حكاية بموضوع محدد يخدم الموضوع الأصلي، فحكايات قمر الزمان مع دهنش وخادمه والعفريتة وأبيه ثم الابنة بدور مع أبيها وأخيها مرزدان ثم سفر مرزدان. فنجد تعميقًا للشخصيات الأربع الرئيسية في الحكاية وهي: الأب شهرمان وابناه قمر الزمان ومرزدان وابنته السيدة بدور بجانب الشخصيات الثانوية: العفريتة ودهنش والخادم وغيرها.
وقصة قمر الزمان والعفريتة ميمونة تنقلنا لأجواء القص الغرائبي بما فيه من جن وشياطين وهذا متكرر كثيرًا في حكايات ألف ليلة وليلة.
كما اشتملت الليالي أيضًا على قصص الحيوان فتحتَ عنوان حكاية الطيور والوحوش مع ابن آدم نجد حكايات صغيرة متفرعة مثل: حكاية الراعي العابد، وحكاية خبر الماء والسلحف، وحكاية الثعلب والذئب، وحكاية الفأرة وبنت عرس، وحكاية السنور والغراب، وحكاية الثعلب والغراب.
نلاحظ استنطاق الحيوانات والطيور وجعلها شخوصًا حية متفاعلة في القصص تجاور بني البشر وتحاورهم.
وقد يكون التساؤل: ما السبب في تجزئة الحكايات على هيئة فصول قصصية أو قصص متفرعة ولم ترد كرواية قصصية ممتدة؟
ولعل الجواب يتأتى من طبيعة تكوين هذه الحكايات، فقد كانت قصصًا شفهية تُروى من شهرزاد في فترة زمنية محددة طوال الليل وإلى طلوع الفجر فهي في حاجة إلى تجزئتها كبنية حتى يسهل حكيها من جهة ومن جهة أخرى فإن التجزئة إلى قصص صغيرة متفرعة عن القصة الكبرى فيه كثير من الجاذبية والتشويق فالسامع /القارئ مشتاق إلى ختام الحكاية الصغيرة المتفرعة ويريد أن يكوّن صورة متكاملة عن الحكاية الأولى وهذا سيتأتى له من استكمال الحكايات الصغيرة جميعها.
وبالتالي هناك اتساق ما بين بنية حكايات الليالي، وبين طبيعة تنشئة النص وظروف تكوينه، وقد اشتملت القصص في ثناياها على الكثير من الحكمة والموعظة التي يستنبطها العقل من تتابع الأحداث واحتدامها حتى الخاتمة؛ وبالتالي تتقنع الراوية شهرزاد بالقصص كي توصل ما تريد إلى المـلك وترفع عن نفسـها حرج النصح المبـاشر الذي قد يؤلم سامعه/ الملك.
القدس العربي
تعليقات