البوشيخي: معجم الدوحة التاريخي سيحقِّق نهضة لغوية

1٬483

المحفوظ فضيلي-الدوحة

مضى أكثر من ثلاث سنوات على إطلاق مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وللوقوف على ما تحقق من ذلك المشروع وآفاقه المستقبلية وما يواجهه من تحديات، أجرى موقع الجزيرة نت مقابلة مع المدير التنفيذي للمشروع عز الدين البوشيخي.

ويوافق الحوار اليوم العالمي للغة العربية (18 ديسمبر) ليتساءل عن دور معجم الدوحة في الارتقاء بلغة الضاد، إذ لا يتردد الأكاديمي البوشيخي في القول إن إنجازه “سيحقِّق نهضة لغوية شاملة ليس لها مثيل”.

ويرى البوشيخي أن أهم هدف يمكن أن يُحقّقه المعجم هو “تمكين الأمّة من فهم لغتها في تطوّراتها الدّلاليّة على مدى أكثر من عشرين قرنا. وبذلك ييسّر تحصيل الفهم الصّحيح لتراثها الفكريّ والعلميّ والحضاريّ، بإدراك دلالة كلّ لفظٍ حسب سياقه التّاريخي. ويتحقّق وصل حاضرها بماضيها في المستويات اللّغوية والفكريّة والعلميّة”.

وفي ما يلي نص الحوار:

كيف تُعرّفون مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية؟

المعجم التاريخي للُغة هو سِجلّ يرصد حركتها عبر تاريخها الاستعمالي، فمخزون المفردات الذي يُشكّل معجم لغةٍ ما لم يظهر كُتلة واحدة، ولم تتشكّل معانيه طفرة واحدة، ولم يظهر معزولا عن محيطه اللغوي وبيئته الثقافية، بل خضع لسيرورة تاريخية تدرّج فيها نُموّه في بُناه ودلالاته واستعمالاته، فقد يُستعمل لفظ ما بمعنى ما، ثم تتعدد معانيه، وقد يصير مصطلحا له مفهوم ما في حقل معرفي ما، كما قد لا يُكتب له ذلك فيُهمل ويُصبح مُماتا، وقد يُستعمل من جديد بمعناه الأول أو بمعنى جديد.

من المتوقع أن يستغرق إنجاز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ما ينيف عن 15 سنة (الجزيرة)

ومن الزاوية التاريخية، قد تمتد حياة لفظ ما قرونا مستمرة غير منقطعة، وقد تمتد حياته سنوات فقط. وحالاتُ تَقلُّب الألفاظ في الاستعمال والتاريخ كثيرة متعددة. وعلى أساس من ذلك عُرِّف المعجم التاريخي للّغة العربيّة، في مشروعنا، بأنه صنف من المعاجم اللغوية، يتميز بتضمّنه “ذاكرة” كلّ لفظٍ من ألفاظ اللّغة العربيّة، يُسجِّلُ فيها -حسب المتاح من المعلومات – تاريخَ استعماله بدلالته الأولى، وتاريخَ تحوّلاته البنيوية والدّلاليّة، ومستعمليه في تحولاته عبر تاريخ استعمالاته، مع توثيق تلك “الذّاكرة” بالنّصوص التي تشهد على صحّة المعلومات الواردة فيها.

وانطلاقا من هذا التحديد، يُقدِّم المعجم لكل لفظ من ألفاظ اللغة العربية مدخلا معجميا يتضمن المعلومات الآتية:
– جذر اللفظ،
– أقدم استعمال للفظ المنتمي إلى الجذر مستخلصا من النقوش، مع تحديد معناه وتاريخه والشاهد الذي ورد فيه ومستعمله ومصادره،
– معاني اللفظ مرتبة تاريخيا حسب ظهورها في النصوص الموثقة، مع تعريفاتها اللغوية والاصطلاحية، وتواريخ استعمالها، والشواهد التي وردت فيها، ومستعمليها، ومصادرها،
– تأثيل اللَّفظ، أي نظائره في اللّغات السّامية وغيرها.

بعد أزيد من ثلاث سنوات على بدء العمل في “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”، ماذا تحقق حتى الساعة من ذلك المشروع؟ وهل ينبغي انتظار لحظة الميلاد لمعرفة مضامين المشروع؟

أطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات العمل في المشروع في 25 مايو/أيار 2013، بعد سلسلة من الاجتماعات واللقاءات العلمية. ومنذ ذلك التاريخ، تركزت الجهود على وضع خطة تنفيذية بعد الاتفاق على التصور العام، وتوفير الوسائل والأدوات، وتأهيل الموارد البشرية.

أما الخطة العامة لإنجاز المعجم فتقوم على تقسيم تاريخ اللغة العربية تقسيما إجرائيا إلى خمس مراحل، تمتد منذ أقدم نص عربي موثق إلى نصوص عصرنا الراهن. تقف المرحلة الأولى عند العام 200 للهجرة، وتقف المرحلة الثانية عند العام 500 للهجرة، وتقف المرحلة الثالثة عند العام 800 للهجرة، وهكذا دواليك.

“البوشيخي:يحظى مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية باهتمام واسع من الدوائر العلمية الغربية قبل العربية. فاللغة العربية أطول اللغات العالمية الحية وجودا في التاريخ، وتُشكل مصدرا مهما من مصادر فهم اللغات السامية والعلاقات القائمة بين اللغات”

تُجمع مصادر كل مرحلة في بيبليوغرافيا، وتُجمع نصوص المصادر المُرقمَنة في مدونة لغوية إلكترونية، ثم تخضع ألفاظ النصوص بعد فهرستها للمعالجة المعجمية التي تحدد تحولاتها الصرفية والدلالية في سياقاتها اللغوية الحية على مدى تاريخها الاستعمالي.
من أهم ما أنجزناه حتى الآن:
1. إعداد بيبليوغرافيا تشمل الإنتاج العربي المعرفي على امتداد عشرة قرون (من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الخامس بعد الهجرة) مرتبة ترتيبا تاريخيا.
2. بناء مدونة لغوية إلكترونية تتضمن نصوص المرحلة الأولى (الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى سنة 200 للهجرة).
3. بناء منصة حاسوبية للمعالجة المعجمية تتيح للخبراء اللغويين القيام بعمليات المعالجة المعجمية والمراجعة والتدقيق والتحرير.
4. وضع الدليل المعياري للمعالجة المعجمية لتوحيد الفهم والعمل بين المعالجين.
5. وضع دليل التحرير المعجمي.
6. هندسة كل العمليات التي تتطلبها المعالجة المعجمية في خط إنتاج مسترسل ومتزامن.
7. تكوين فرق المعالجة المعجمية في قطر وفي عدد من البلدان العربية وتدريبُها على القيام بالمعالجة المعجمية.
8. إعداد خمسة آلاف مدخل معجمي كاملة لعينة مختارة من ألفاظ اللغة العربية.

ما الصعوبات التي تواجهكم ومتى تأملون أن يكتمل المشروع وفي أي صورة سيرى النور (ورقيا؟ رقميا…)؟

بالنظر إلى ما ذكرناه أعلاه عن مشروع المعجم، فإن من أهم متطلباته مدونة لغوية تجتمع فيها نصوص العربية منذ أقدم نص موثق إلى أحدث نص حسب المراحل المحددة، إلا أن مشكلات كثيرة تعسِّر تحقيق ذلك؛ منها أن كثيرا من نصوص العربية الأولى ما زال يعتوره النقص في تحقيق متنها وتوثيق مؤلفها وتاريخ تأليفها وشرح الغريب من ألفاظها، ومنها عدم وجود كثير من هذه النصوص بصورة مرقمنة يُطمأن إلى صدقية محتواها، ومنها عدم توافر البرامج والأدوات الحاسوبية ذات الكفاءة المطلوبة التي تيسّر التدقيق الإملائي والتحليل الصرفي والنحوي وغير ذلك من العمليات. إلا أننا قطعنا شوطا مُعتبرا في التغلب على بعض من تلك الصعاب.

أما عن مدة الإنجاز، فمن المتوقع أن يستغرق إعداد المعجم ما ينيف عن 15 سنة. مع الإشارة إلى أن هذا النوع من المعاجم يظل العمل فيه مفتوحا ومستمرا لمواكبة ما جدّ من الألفاظ ومعانيها في اللغة. والصيغة الأنسب لنشره على مراحل هي النسخة الإلكترونية دون استبعاد نسخ ورقية محدودة نظرا لضخامة مواده. ولذلك يجري العمل الآن على تصميم بوابة إلكترونية تُتيح نشر مواده مقرونة بعدد مهم من الخدمات المعجمية، كالبحث في مصادر المعجم، وفي مدونته اللغوية، وغير ذلك من الخدمات.

 كيف يمكن للمهتمين العاديين باللغة العربية وتحديدا الناطقين بها أن يلمسوا حاضرا أو مستقبلا نتائج ذلك المشروع الضخم مع تراجع مستويات التعليم وهيمنة وسائل الإعلام بغثها وسمينها على إدراك الناس؟

لا شك في أن إنجاز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية سيحقِّق نهضة لغوية شاملة ليس لها مثيل. فبإنجازه تُجمع ألفاظ اللغة العربية ونصوصها في مدونة لغوية إلكترونية ستكون الأضخم على الإطلاق، وتُحقَّق كثير من النصوص متنا وسندا، وتُدقّق كثير من الألفاظ ومعانيها والمصطلحات ومفاهيمها، وتُرصد التحولات البنيوية والدلالية الطارئة عليها وتواريخ استعمالاتها، وتُفتح آفاق استثمار كل ذلك في استخلاص أنواع عديدة من المعاجم، كمعجم اللغة العربية المعاصرة، والمعاجم التعليمية، ومعاجم ألفاظ الحضارة، ومعاجم المصطلحات، حسب مجالات العلوم والمعارف والفنون، وغيرها كثير.

يُضاف إلى ذلك توسيع فئة الباحثين اللغويين من أقطار العالم العربي الذين انخرطوا في هذا المشروع وأصبحوا رافدا مهما من الطاقات العلمية المُشاركة في إنجاز المعجم، بعد أن تمرسوا على تقنيات الصناعة المعجمية وعمّقوا معرفتهم باللغة العربية.

ولعلّ أهم هدف يمكن أن يُحقّقه إنجاز هذا المعجم هو تمكين الأمّة من فهم لغتها في تطوّراتها الدّلاليّة على مدى أكثر من عشرين قرنا. وبذلك يتيسّر تحصيل الفهم الصّحيح لتراثها الفكريّ والعلميّ والحضاريّ، بإدراك دلالة كلّ لفظٍ حسب سياقه التّاريخي. ويتحقّق وصل حاضرها بماضيها في المستويات اللّغوية والفكريّة والعلميّة.

 أين يمكن تصنيف معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ضمن المعاجم التاريخية للغات الأخرى خاصة أن قليلا من اللغات العالمية وبينها اللغة الفرنسية لها معجم من ذلك النوع؟

يحظى مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية باهتمام واسع من الدوائر العلمية الغربية قبل العربية، فاللغة العربية أطول اللغات العالمية الحية وجودا في التاريخ، وتُشكل مصدرا مهما من مصادر فهم اللغات السامية والعلاقات القائمة بين اللغات.

ولذلك، يكتسي إنجاز هذا المعجم أهمية قصوى للعرب وغيرهم، وسيكون الأضخم على الإطلاق، يتفرع منه عدد كبير من المعاجم والمشروعات اللغوية، ويُشكِّل أساسا علميا متينا لإجراء عدد من الأبحاث والدراسات اللغوية وغير اللغوية.

 إلى أي حد سيساهم هذا المشروع في معالجة التباينات في استعمال لغة الضاد بين المشرق العربي ومغربه في العديد من المجالات، خصوصا على ضوء تأثر المشارقة باللغة الإنجليزية وتأثر المغاربيين باللغة الفرنسية؟

إنجاز هذا المعجم سيُمكِّن من نشر اللغة العربية بنصوصها وألفاظها ومعانيها على أوسع نطاق، كما سيُمكِّن من توفير عدد ضخم من المصطلحات العربية التي يُمكن استثمارها في مقابلة المصطلحات الأجنبية في مختلف العلوم والمعارف والفنون، وتقريب استعمالها وتوحيده.

إن فوائد هذا المعجم لا حصر لها، وأملنا أن يُكتب له النجاح وأن تتكاثف الجهود من أجل إنجازه على الوجه المطلوب. وما يعضّد ذلك الأمل استمرار دولة قطر في توفير الدعم المالي له، والرعاية الخاصة التي يوليها له المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة.

المصدر : الجزيرة

قد يعجبك ايضا المزيد عن المؤلف

تعليقات