محمد العثماني – طالب باحث
دون عناد، نقرر أن حضور العربية المبهر في بعض المحطات التاريخية شكل صمام أمان للتراث الإنساني بكل ما تمثله العبارة من مقصد، ومن دون أي غلو يمكن أن تُحمل عليه.. ومنذ فترة والسُّوسُ ينخر اللسان العربي، ومُهدِّداته تَطيف به من كل جانب، تتبدى العلامات عليها، ويتنامى ظهور عدد من أبعادها، وتتنوع جهات القصف وإطلاق النيران من خلالها؛ فالاحتفال الممتد بالضاد مسألة مهمة من الزاوية النفسية، وتَمَثُّلٌ مهم لمقاصد المرجعية المؤطرة، ولكنها مهمة أيضا حين تتخذ منحى إيجابيا يسهم في معالجة القضية الكبرى : قضية التهديد التي يمتد الشعور بها منذ زمن طويل من عمر العصر الحديث..
و لعل تدبر الشأن اللغوي بما يطغى عليه من سياسات الجمع والتعدد، من غير الاقتصار على منهجية واضحة في مواجهة تداعيات التهديد: سياسات متباينة مختلفة، بل متناقضة أحيانا، حسب طبيعة المتدخلين وتعارض خلفياتهم أو مصالحهم ؛ يفضي بالخلاص إلى عمق المنخور ويأجج الضمير فضلا عن الفرض الواجب، الداعي إلى مواجهتها بصيغ مُتَّحِدة..
يشهد المنصفون الثقات، أن الضاد عرفت تحولات شبيهة بما يحدث للطائر أثناء الانحسار، حيث يقولون بالتحول الشبيه بتحول اليرقانة عندما تنتقل إلى طور الفراشة؛ إذ شهد الحرف حينها استقرارا وانكسارا على اللسان، ليصير معه الحديث بالشجى سجعا أحايين كبرى..
لا ينبغي استعمال كلمات اللغة في أثناء الاتصال والتواصل استجابة لرغبة المتكلم وميولاته، ولكن اعتمادا على عقد لغوي اجتماعي وثقافي متفق عليه.
لكننا بالرغم من النوم الشتوي العميق الذي ساد عهود الضاد أثناء فترات الانحسار أو الانكماش، والذي كاد يذهب بخلابتها ومستويات فصاحتها من خلال نصوص تُحشى بالأسجاع التي لا تلوي على شيء، يصر بعض أصحابها -مرية وافتراء- على تجليتها في علب ثمينة، ليصير التقليد في إيغال الحرف رجعَ صدى يقطع صِلته بالحياة، ويحرِص على إضافات مُبَهرَّة، عبر التأثر بما دعا إليه بعض من ظنوا سمو أنفسهم، أمراء في البيان، ليبلغوا سمة ــأصنام الشرــ كما نعتتهم جماعة الديوان، أولئك الذين رفضوا لغة الأعراب التي لا تواكب تبدُّلات الحياة المعاصرة، كما يبدو ذلك في العديد من المقالات كتلك التي خطها -خليل جبران-، وبما دعا إليه آخرون من طي الكَشَح عن لغة الماضي والمعجمات، والفحول الخناذيذ والتَرصِيع والتَنمِيق والبيان والبديع والقلائد الماسية، لصالح لغة الدمعة في جفن المشتاق، والابتسامة على ثغر المؤمن، وتلاعب النسيم بأوراق الأشجار..
فتلك الدعوات بلا فصام، تشكل شرا مستطيرا على لغتنا الجميلة، يجب أن نطهرها، من دعوات من لا يتقنون شأوها، فحرصنا على اللغة لا ينبغي أن يقصفها، بل لا ينبغي أن ينسينا القصد منها، فجميل بنا أن نصرف همنا لتهذيبها وتنقيتها، وتنسيقها لنكسبها دقة ورقة، إنما قبيحٌ بنا أن نهمشها ونجعلها وهنا علينا وحمى تنخر تصدعاتنا، وقبيح بنا أن ننسى أو نتناسى كونها رمزا إلى ما هو أكبر وأجل منها بمراحل؛ وأقبح من الأمر أن نحسبها وافية كاملة، وليس لمستزيد في دقتها زيادة.. لأن قولنا بالكمال، يعني إقرارنا بأن الأصل الذي تحدرت عنه، والنحاة الذين قيدوا رونقها بقواعد أصيلة منذ ألفي سنة خلت كانوا فيها أنبياء البيان، بل آلهته..
وإذ المقام والمقال يقتضي الإرشاد إلى وصفة الطهر، فإن الحذر الحذر من الدعوات التي تفتح باب الشر على عُرى الضاد، إذ المُبتغى عشقها لطبيعتها، والعمل على نقل هذا الحب لمن يزين لسانه لهجا بها، وتنبيه العقلاء إلى خطر انتشار الفوضى في ما تعبر عنه العبارات التي نتفوه بها صباحا ومساء؛ فلا ينبغي استعمال كلمات اللغة في أثناء الاتصال والتواصل استجابة لرغبة المتكلم وميولاته، ولكن اعتمادا على عقد لغوي اجتماعي وثقافي متفق عليه، وليس لأحد الفصل في إيجاده؛ لأن العربية أو اللغة بصفة عامة بنت البيئة الثقافية والحضارية التي أوجدتها..