تزامنًا مع اليوم العربيّ للغة العربية (1 مارس 2017م)، واحتفاءً بالمناسبة، قررت الرابطة المغاربية للدفاع عن اللغة العربية عقد لقاء تشاوريّ بانواكشوط لتعميق ما طُرِحَ من أفكار بتونس، في أثناء الإعلان عن تأسيس الرابطة في 18 ديسمبر 2016م.
وفي هذا الإطار، ينظم المركز الموريتانيّ للدفاع عن اللغة العربية ندوة فكرية تحت شعار: اللغة العربية حافظة العصور وحاضنة الحضارة، يشارك فيها أساتذة وخبراء من دول اتحاد المغرب العربيّ (تونس، الجزائر، ليبيا، المغرب، موريتانيا).
ويسرني بهذه المناسبة، إعطاء فكرة عامة عن وضع اللغة العربية في البلدان المغاربية والخلفيات التارخية التي أوصلتنا إلى هذا الوضع الشاذ المتجسد في هيمنة اللغة الأجنبية في مجال تدريس العلوم (بصفة خاصة) وفي الإدارة وفي العديد من المرافق الحيوية. مع التركيز على البلدان المغاربية التي تعرضت للاحتلال الفرنسيّ.
بصرف النظر عن الطابع الخاص للاحتلال الفرنسيّ الذي كان يركز على الجانب اللغويّ ليجعل لغته تحل محل لغة مستعمَراته، فإنّ وضع اللغة العربية في بلدان المغرب العربيّ لا يختلف كثيرا عن وضعها في بقية الأقطار العربية. مع الإشارة إلى أنه لا خوف على مستقبل اللغة العربية في هذه البلدان، لأنّ اللغة العربية في الوقت الراهن متقدمة عالميا على اللغة الفرنسية المستخدمة في المغرب العربيّ (باستثناء ليبيا)، والاهتمام بالعربية في تزايُد مستمر على المستويين العربيّ والدوليّ.
كل ذلك مع ما نلاحظه فِعلًا من أنّ اللغة الأجنبية (الإنجليزية في المشرق العربيّ والفرنسية في المغرب العربيّ) ما زالت-كما أسلفنا- تهيمن على المجالات العلمية في العديد من المؤسسات والمرافق الرسمية وفي القطاع الخاص، سواء أتعلق الأمر بالإدارة أم بالجامعات والمعاهد المتخصصة.
إنّ أخطر ما تعانيه اللغة العربية يتمثل في غياب قرار سياسيّ حاسم يقضي باستعمالها في الإدارة وفي التعليم الجامعيّ (بجميع أنواعه ومستوياته)، ولعل من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها المسؤولون في هذه البلدان، توقف عملية التدريس باللغة العربية عند مستوى الثانوية العامة، الأمر الذي ترتّبَ عليه أنّ الطلاب المغاربيين يعيشون محنة حقيقية تتمثل في أنهم يتلقوْن دروسهم باللغة العربية –وهو أمر طبيعيّ- إلى أن يحصلوا على شهادة الثانوية العامة(البكالوريا)، وعندما يصلون إلى التعليم الجامعيّ يصطدمون بأن المواد العلمية غير معرّبة فيجدون أنفسهم بين خيارين أحلاهما مُرّ، إما أن يتوجهوا إلى التخصصات الأدبية المعرّبة ويضحّوا بطموحهم العلميّ، أو يحاولوا الدراسة في التخصصات العلمية التي تُدرَّس بلغة أجنبية (الفرنسية بصفة خاصة) زادُهم منها قليل، في أغلب الأحوال، مما يترتب عليه فشلهم في دراستهم أو تعثُّرهم فيها على الأقل. أما التفوق – المُفضي إلى الإبداع – فلا أمل فيه بسبب الحاجز اللغويّ.
يكمن حل هذه المشكلة، في تعريب التعليم الجامعيّ بكيفية تدريجية، مع الاهتمام بالترجمة، وتدريس اللغة الأجنبية التي يقع عليها اختيارهم بصفتها لغة أجنبية لا بصفتها لغة تدريس أو لغة إدارة، والفرق شاسع بين الأمريْن.
من المفارقات العصية على الفهم تمسك الدول العربية-بما في ذلك دول اتحاد المغرب العربيّ-باستخدام لغات أجنبية في الوقت الذي تنص دساتير الدول العربية على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، ومعنى ذلك أن لغة التدريس – في جميع مراحل التعليم – يجب أن تكون العربية.
بخصوص ما يُثار من تشكيك حول مدى قدرة العربية على أن تكون لغة لتدريس مختلِف العلوم، نشير إلى أن علم اللغة الحديث يرى أن جميع اللغات قادرة على مسايرة التقدم الحضاريّ، لا فرق – جوهريا – بين لغة وأخرى، وإنما الفرق في الوسائل المستخدَمة لتحقيق ذلك. بمعنى أنّ العيب ليس في اللغة، وإنما العيب – إن وُجِد – في الناطقين باللغة ، عندما يعجزون أو يتقاعسون عن تنميتها وتطويرها. عِلمًا بأنّ العربية لغة حيّة، تجمع بين الأصالة والمعاصَرة، فقد حملت مِشْعل الحضارة الإنسانية دون انقطاع، وهي اليوم لغة رسمية لمنظمة الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها (من بين ستة آلاف لغة في العالم)، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والصينية.
لو رجعنا قليلا إلى الوراء، سنجد أن إحلال اللغة الأجنبية محل اللغة العربية في مختلِف الأقطار العربية، لم يكن لأسباب موضوعية، وإنما فرضته سياسة الاستعمار ، عند ما كانت الأقطار العربية ترزح تحت نيره، ولعل المحتل كان يخطط بذلك لفترة من الاستعمار الثقافيّ تعقب فترة الاحتلال العسكريّ، وهذا ما حدث بالفعل. في مصر، بدأ تدريس الطب باللغة العربية مع تأسيس مدرسة الطب في أبي زعبل عام 1827م ، وقد انتقلت هذه المدرسة إلى القصر العينيّ عام 1837م ، وظلت تدرّس بالعربية.
بعد أن احتل الإنجليز مصر عام 1882م ، فرضوا تدريس الطب بالإنجليزية عام 1887م ، بحجة عدم وجود المراجع العربية الكافية.
في لبنان، افتتحت في بيروت عام 1866م الكلية السورية الإنجيلية، التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية، وظل الطب يُعلَّم فيها بالعربية، قبل أن يُحوَّل التعليم فيها إلى الإنجليزية عام 1884م ، بحجة عدم وجود عدد كاف من الأساتذة المتمكنين من تعليم علوم الطب باللغة العربية.
الدليل على أن هذه الحجج واهية، هو أننا – في الحالة السورية – نجد أن المحتلين الفرنسيين أرادوا أن يكون التدريس باللغة الفرنسية، لكن الأساتذة السوريين أصرّوا على أن يكون التدريس باللغة العربية، وكان لهم ما أرادوا واستمر التعريب بنجاح في سورية منذ عام 1919م ، حتى يومنا هذا.
في هذا الإطار، نشير إلى صدور قرار في مصر سنة 1938م، بتعريب الطب، جرى تأجيله لمدة عشر سنوات لتهيئة الوسائل المادية والبشرية اللازمة لتنفيذه، وما زال هذا التأجيل –للأسف الشديد- ساريَ المفعول.
في العراق صدر قرار سنة 1979م يوجب تعريب الطب، وأُلفت لجان لتأليف أو ترجمة الكتب الطبية المقررة… و أُجِّل تنفيذ القرار، ولم نجد للتعريب أثراً إلا في حالات قليلة، مثل: الطب الشرعيّ والصحة النفسية، وكذلك الحال في كلية طب صنعاء باليمن التي قررت تدريس الطب الشرعيّ والسموم وطب المجتمع باللغة العربية ، وكذلك الوضع في كلية الطب في الأزهر بمصر، وفي الجامعة الأردنية. في تونس، قام أ.د. أحمد ذياب بتدريس علم التشريح في كلية طب سفاقس باللغة العربية لمدة ثلاث سنوات (1985-1988م) ، لكنه واجه ضغوطاً من إدارة الجامعة اضطرته إلى ترك التعليم وقد ألف معجماً طبّياً.
في ليبيا توجد بعض الكليات تُدَرَّس فيها الموادُّ باللغة العربية، مثل: كلية طب سَبْها، وكلية الطب بجامعة التحدي بسرْت.
في السودان، نجد تجربة ناجحة بدأت بتدريس مواد التشريح ووظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية باللغة العربية في كلّيتي الطب بجامعتي الشرق ووادي النيل، بالاتفاق مع جامعة أم درمان الإسلامية، وبعد اتخاذ قرار سياسيّ سنة 1990م بتعريب التعليم العالي، فإن السودان مُرَشَّح للالتحاق- بسرعة- بسورية التي يتم فيها التعليم باللغة العربية، في جميع المستويات، منذ سنة: 1919م ، كما أسلفنا.
ونحن نتحدث عن وضع اللغة العربية، لا بد من الإشارة إلى أنّ التعليم هو المحور الأساس لكل تنمية بشرية، سواء أتعلّق الأمر بتنمية الفرد أم بتنمية المجتمع.
لقد أدركت الدول المتقدمة هذه الحقيقة في وقت مبكّر فقامت بإعداد الدراسات ووضع البرامج الساعية إلى إصلاح التعليم وتطويره ليستجيب لحاجات ما أصبح يُعرَف بـ:” مجتمع المعرفة “، ومُواكَبةً لهذا التوجُّه العالميّ، يأتي القرار رقم (354) الصادر عن القمة العربية التي عُقدت بالخرطوم، في شهر مارس /آذار 2006م ، الداعي إلى إعداد خُطَّة لتطوير التعليم في الوطن العربيّ، وتكليف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتنفيذها، بالتنسيق مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.
عُرِضت الخُطَّةُ بعد إعدادها على القمة العربية التي عُقِدت بدمشق، في شهر مارس/ آذار 2008م ، حيث أُقِرَّتْ ، و اتُّفِقَ على أن تقوم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بمتابعة تنفيذها، بالتنسيق مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.وجاء في البند (3) من قرار القمة العربية: “دعوة الدول العربية الأعضاء إلى تنفيذ ما ورد في الخُطَّة ، وتوفير التمويل اللازم لإنجازها ، على المستوى الوطنيّ (القُطريّ) ، وتقديم جميع أنواع الدعم المطلوب لضمان نجاحها حسب الإمكانات المتاحة لكل دولة”.
نأمل، في إطار الرابطة المغاربية للدفاع عن اللغة العربية، أن ينجح المركز المورياتنيّ للدفاع عن اللغة العربية في تحقيق ما نصبو إليه من إحلال اللغة العربية المكانة اللائقة بها.
والله وليّ التوفيق.