وما أنجز منه، حتى الآن، يبيّن أنه مشروع نهضوي ضخم، جديرٌ بأن يسمّى مشروع أمّة، نظرًا إلى خياراته المنهجية والتقنية والعلمية والحاسوبية. وقد حاور ملحق الثقافة الدكتور عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي للمشروع.
– إنها ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها إنشاء مشروع ضخم لمعجم تاريخي للغة العربية، فالبداية كانت مع الألماني، أوغست فيشر، عام 1907، وهو العمل الذي تابعه المصريون ثم توقّف، ثم المبادرة في تونس عام 1990 وأخيرًا في 2006 أنشئت مؤسسة مستقلة لتأليف المعجم التاريخي للغة العربية في القاهرة. فما المميّز هذه المرّة، خاصّة وأنكم أعلنتم قيامكم بدراسات تحليلية نقدية للمشاريع السابقة؟
الواقع أن التفكير في معجم تاريخي له سياق طويل. وهناك عدة تجارب. لكن من المنطلقات الأساسية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية وضع مشروع بخطة تنفيذية. والعنصر الأوّل المميّز هو وضوح التصوّر، بحيث لا يقبل الالتباس أو التداخل أو أي نوع من أنواع عدم الوضوح، المؤدّي إلى ارتباك في العمل أو خلط بين مستوياته، أو التداخل بين مراحله. فالمراد بالمعجم التاريخي للغة العربية، المعجم الذي يُثْبِتُ ألفاظ اللغة العربية، لفظاً لفظاً، راصدًا تاريخَ ظهوره بدلالته الأولى، وتاريخَ تحولاته البنيوية والدلالية، ومستعمليه في تطوراته، مع توثيق كل ذلك بالنصوص التي تشهد على صحة المعلومات الواردة عن كل لفظ. وعادة ما يتمّ الخلط بين مفهوم المعجم التاريخي للغة، والمعجم الموسوعي الذي يشمل كل شيء، وهذا النوع من الخلط بين مشروعين متمايزين في الماهية والوظيفة، هو الذي يؤدّي إلى تداخل في عدد من المهام، وتكون نتيجته تعقيدًا كبيرًا في العمل، وبالتالي عسراً في التنفيذ وصعوبته.
أمّا العنصر الثاني، فهو وضع خطة تنفيذية تبيّن الكيفية التي يمكن بها، وفق مراحل وآليات ومتطلبات محددة، الوصول إلى الهدف ضمن مسار زمني محدد. والعنصر الثالث، عدم إغفال أي شكل من أشكال النجاح أو الفشل في التجارب السابقة للمعاجم التاريخية للغات، سواء أكانت عربية أم أجنبية. فقد استفدنا من المؤتمر الذي عُقد بإشراف معهد الدراسات المصطلحية في فاس، تحت عنوان “المعجم التاريخي قضاياه النظرية والمنهجية والتجريبية”، وقد حضره وشارك فيه أكثر من 60 باحثًا، حيث تناول بالدراسة والتحليل، مختلف الجوانب المتعلّقة بإنجاز هذا المشروع، وتقويم تجارب سابقة عربية وأجنبية، مثل المعاجم التاريخية للغات الإنكليزية والروسية والألمانية والفرنسية والعبرية وغيرها، وقد استخلصنا منه أهم عناصر القوّة في هذه المعاجم، وكذلك عناصر الضعف والمشاكل التي تعوق التنفيذ. كان التقويم جزءاً أساسيًا لبناء التصور الواضح. وصدرت أعمال المؤتمر في كتاب من جزأين بعنوان “المعجم التاريخي للغة العربية قضاياه النظرية والمنهجية والتجريبية”.
– يبدو أنكم اخترتم منهج “الإحصاء الشامل” لا منهج “المصادر المنتقاة”، وهذا الأخير هو المعتمد في المعجمين التاريخيين للغتين الإنكليزية والفرنسية، بينما الأوّل هو الذي اعتمد في إنجاز المعجم التاريخي للغة السويدية. وجلي أن اللغة العربية عريقة وتمتد على مدى زمني واسع، واختيار منهج “الإحصاء الشامل” هو الخيار الأصعب، فلماذا اخترتم الأصعب؟
قبل الإعلان الرسمي عن انطلاق المشروع في 25 مايو /أيار 2013، قمنا بالتحضير له قبل ذلك بسنة ونصف السنة، وكان اهتمامنا منصبا على تقييم مختلف التجارب السابقة وعلى تحديد المتطلبات العلمية والمنهجية والبشرية والتقنية والحاسوبية، وقمنا بنشر كل ذلك في كتاب بعنوان “نحو معجم تاريخي للغة العربية” وهو من منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة. وعلى أساس ذلك، وُضعت الخطة التنفيذية، وتقوم المنهجية المتبعة أولًا على إعداد بيبليوغرافيا شاملة لكل ما كتب باللغة العربية مطبوعًا لا مخطوطًا، وقسّمنا ذلك إلى خمس مراحل.
– قسّمتم وفقًا للمراحل التي نعرفها، العصر الجاهلي، صدر الإسلام، العصر الأموي، الخ؟
لا، لم نتبع هذا الأسلوب، نحن اتبعنا تقسيماً إجرائيّاً لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل السياسية.
– وما السبب؟
لأن الهدف في نهاية المطاف هو المعجم التاريخي يَبسُط تطوّر اللفظ في سياقه التاريخي إلى اليوم. فأي تقسيم إنما سيكون تقسيمًا مرحليًا ومؤقتًا وإجرائيًا. لذلك قسّمنا المراحل بناءً على ما ستحتويه المدوّنة اللغوية من مادة يكون بالمقدور التعامل معها من ناحية حجمها، إذ لو اتسع الزمن واتسع العصر وامتدّ أكثر من اللازم، لا نستطيع التحكّم في حجم المدونة اللغوية الضخم، فكان التقسيم على أساس ما نستطيع التحكّم به في بناء المدوّنة اللغوية ومعالجة موادها. صحيح، لقد اخترنا منهج “الإحصاء الشامل”، وبما أنه لدينا القدرة على الوصول إلى ما طُبع باللغة العربية في مرحلة من مراحل تاريخها، فلماذا نتجاهله؟.
– تمتد المرحلة الأولى للبيبليوغرافيا من عام 430 قبل الهجرة إلى عام 200 للهجرة. ووفقًا لخطتكم فإنها تشمل لا المطبوع فحسب، بل النقوش والبرديات أيضًا، وفي الوقت ذاته فقد استبعدتم المحكية، واقتصرتم على الفصحى. وقد تضمنت بيبليوغرافيا هذه المرحلة حوالى 1970 وثيقة تقريبًا. السؤال عن التعارض بين وجود اللهجات القديمة في النقوش وبعض الكتب. فاللهجات القديمة هي إحدى صور المحكية، كيف تتعاملون مع ذلك، ما المعايير؟
أولّا بالنسبة للرقم الذي ذكرتيه، فهو مؤقت يزيد وينقص بحسب ما تمّ من تمحيص وتدقيق للوثائق. أمّا في ما يخص النقوش والبرديات، فقد تم الاتفاق في الاجتماع الرابع للمجلس العلمي المنعقد بالدوحة أخيرًا على تأليف لجنة خاصّة بالنقوش، وستباشر عملها قريبًا، وهي التي ستتولى جمع النقوش وإمدادنا بمحتوياتها العربية لإدخالها في المدوّنة والتعامل معها.
أما بخصوص اللغة المحكية أقول إن كلّ لغة من لغات العالم بدأت لغة محكية، والكتابة جاءت في عصور متأخرة عنها، وإن كلّ لغة من اللغات لم تبدأ لغة فصيحة معيارية، بل بدأت مجموعة من اللهجات المحكية ثم تآلفت في ما بينها وشكّلت ما يسمى اللغة المعيارية. واللغة العربية خضعت لهذا، فبدأت تاريخيًا لغة محكية شفهية، ثم ظهرت النقوش فالكتابة بطريقة رمزية خطية، ثم تمّ تنميط هذا الرسم فأصبحت كتابة “ممعيرة”، كما تآلفت اللهجات فيما بينها وتراكبت كما يقول ابن جني، لتصبح لدينا لغة معيارية فصيحة ولغات أخرى متداولة يوميًا. لكن حينما نقول إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو معجم يتناول الفصيح من الكلام العربي، فإن المقصود بذلك هو الكلام الذي يخضع لقواعد العربية الفصحى، لذلك أدخلنا النقوش والبرديات.
– في هذه المرحلة أيضًا، لدينا معجم وحيد، هو معجم العين للخليل بن أحمد، فضلًا عن كتب الأمالي ومجالس ثعلب ودواوين الشعراء القدامى، وهي كلّها كتب حين تمّ تحقيقها، أضيف إليها كثيرٌ من الشروح والهوامش، كيف تعالجون الأمر؟
انطلاقا من المنهجية التي تعكس الخطة التنفيذية للمشروع، أي إعداد بيبليوغرافيا لكل مرحلة، ثم بناء المدوّنة اللغويةعلى أساسها، فإن الكتاب لا يدخل في المدوّنة ويصبح جزءاً منها، إلا بعد استبعاد أي كلام كُتب خارج المرحلة، كالحواشي والتعليقات والشروح وغيرها التي يضيفها المحقق للكتاب أو الشارح له. النصوص الداخلة هي نصوص قائليها فقط. وتخضع هذه النصوص إلى ثلاث عمليات أساسية؛ أولًا تصفيتها وتنقيتها مما علق بها من حواشٍ ورسوم وتوضيحات وغيرها، وثانيًا تنميط كتابتها لتصير على شكل واحد. وثالثًا التوسيم، أي وسم كلّ لفظ من ألفاظ المدونة بما يصفه صرفيًا ونحويًا وما إلى ذلك، فإذا كانت الكلمة اسماً يجب أن توسم بأنها اسم، وإذا كانت فعلاً فيجب أن توسم بأنها فعل، وهكذا. هذه العمليات الثلاث تنقل المدوّنة اللغوية إلى قاعدة بيانات قابلة للمعالجة، أي أننا نستطيع أن نبحث داخل هذه المدونة عن أي لفظ من الألفاظ، فنستخرجه مع سياقه ومع قائله ومع سنة قوله ومع توثيقه ومصدره.
– وماذا عن معايير تحديد أفضل النسخ من الدواوين الشعرية المطبوعة؟ هل يتعارض ذلك مع بعض “التغييرات” إن صح التعبير أو التصحيحات التي يقوم بها المحققون؟
هذا موضوع بالغ الأهمية، لأن ما كُتب في هذه المرحلة، خضع في ما بعد للتحقيق. وبالطبع توجد عدة طبعات للديوان الواحد، ثمة طبعات تجارية وهي مستبعدة طبعًا، أمّا الطبعات العلمية، فقد يتعدد القائمون بتحقيق الكتاب الواحد، فنختار الطبعة التي حققها عالم مقتدر، هو المعتمد الأوّل لدينا ثم الأقل رتبة وهكذا. فالمعيار العلمي هو الأساس في اختيار الطبعات.
– ذكرتم أن جزءاً من نصوص مدونة المرحلة الأولى، مشكول شكلًا تامًا، وجزءاً مشكول جزئيًا، وآخر من دون شكل على الإطلاق. وفي ظلّ صعوبة معالجة اللغة العربية حاسوبيًا، كيف تعالجون هذا الأمر؟
التشكيل عنصر مهم جدًا في عملية التوسيم، مثلًا لو أردنا البحث عن لفظ “كتاب” في المدوّنة اللغوية، لدينا احتمالات؛ إذا كان اللفظ مشكولًا، فإن ما نحصل عليه بعد البحث هو اللفظ المشكول فقط ، وإذا حُذف التشكيل نحصل على كلّ الألفاظ التي وردت على صورة كتاب بغض النظر عن شكلها. وهكذا يكون الشكل مهمًا في جانب، وغير مهم في جانب آخر، أي نستطيع أن نحذفه إذا أردنا، وأن نبقيه إذا أردنا، وهذا يتماشى مع متطلبات التقنية وحاجتنا في العمل. ولذلك، بالنسبة لمدوّنة المرحلة الأولى، فإن معظم النصوص التي أدخلت إليها، نصوص مشكلة، لكن نستطيع إزالة الشكل حينما نريد ونستطيع أن نبقيه حينما نريد.
– لكن، ماذا عن الباحث، هل يضع التشكيل أم لا؟ فالجواب يختلف فعلًا. هل طورتم برنامجًا يتعامل مع هذا الأمر؟
إذا أتيح إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية على النحو الأمثل، فسيكون ثورة حقيقية للغة العربية، وللتقنيات الحاسوبية الخاصة بمعالجتها، نحن نعاني الآن من القصور في ميدان المعالجة الحاسوبية للغة العربية، ونقف على الثغرات الكبيرة المتعلقة بحوسبة اللغة العربية، ولذلك نحن نبذل قصارى الجهد، من أجل، لا أقول تطوير هذا المجال، لكن إيجاد البدائل بحسب ما نستطيع لإتمام مشروعنا. وهذه مناسبة للقول إننا استطعنا بفضل تضحيات وخبرات وكفاءات الفريقين الحاسوبي واللغوي، تصميم منصة المعالجة الحاسوبية للمعالجة المعجمية، وهي فريدة من نوعها، ولا أظن أن لها نظيرًا في العالم العربي، أطلقنا على هذه المنصة اسم “Doha Lex “، وهي تتيح للخبير اللغوي أن يستخرج، اللفظ من المدونة اللغوية وأن يعالجه معالجة معجمية بحسب ما صممناه في الجذاذة الإلكترونية. وهي متطورة جدًا وتلبي حاجتنا لبناء معجم معاصر وعلى طراز حديث جدًا. لقد استطعنا بفضل خبرة وكفاءة العاملين معنا، حاسوبيا ولغويًا، أن نطور بعض التطبيقات البرمجية، لمعالجة بعض الأمور الحاسوبية المتعلقة باللغة العربية، التي تفيد عمل المعالج اللغوي .
وهذه تتضمن هذه المنصة البيبليوغرافيا والمصادر المتعلقة بها، وكلّ الأدوات المساعدة من أجل إعداد المداخل المعجمية، والتأكد من الألفاظ وتوثيقها في النصوص والشواهد والتواريخ وغيرها من معلومات أخرى، كل ذلك متاح، إلكترونيًا وعن طريق الحاسوب. نحن الآن في صدد الإعداد لإنشاء بوّابة إلكترونية، ستتضمن كلّ ما يتعلق بالمشروع في جانبيه الداخلي والخارجي؛ الداخلي أي ما يجري من تصميم برامج وبرمجيات حاسوبية متعلّقة بالمعجم والجذاذات الإلكترونية وغيرها، والجانب الخارجي يتيح للمعالجين اللغويين، وللمستعملين من الجمهور المختص، تتبع كلّ ما يسبق من أعمال عن هذا المشروع.
وما يُميز مشروعنا أيضا أنه يقوم على أساس مدوّنة لغوية إلكترونية شاملة، ولا أظن أن مشاريع معجمية أخرى في العالم العربي أُنجزت على أساس من هذا.
– وهل ستكون المعلومات الواردة في البوابة متاحة للجميع؟ وفق أي أسس ستكون المدوّنة متاحة للبحث؟
سنتيح للجمهور البحث داخل المدوّنة، لكننا لن نتيح، وهذا لا يتيحه أي أحد، أخذ المدونة، أي لا يمكن نسخها. فإذا أردت مثلًا أن أبحث عن لفظ ما داخلها، متى ظهر اللفظ؟ كيف ظهر؟ تسلسله التاريخي، نصوصه، شواهده؟ هذا كلّه متاح لكن نسخ المدونة غير متاح. هذه الخدمات المعجمية لن تتاح مع إطلاق الموقع الإلكتروني قريبًا، بل بعد الانتهاء من مراجعتها وتدقيقها.
– وهل تمّ تطوير برنامج المدقق الإملائي؟
كنا نتصور أن برنامجًا مماثلًا موجود. صحيح ثمّة برنامج لكنه دون الكفاءة المطلوبة. لم نتصدّ لهذا الأمر الآن لأننا منشغلون بأمور أخرى كثيرة. لكن أعود إلى الموقع والبوّابة. الموقع الإلكتروني جاهز، وسيتمّ إطلاقه قريبًا، وسيكون الواجهة التي تجمع بيننا وبين الجمهور، حيث سيتابع من خلاله أخبارنا وماذا ننجز من أعمال والتحديات التي نواجهها. ويتميّز الموقع بثلاثة أمور أساسية؛ الأوّل موقع مخصص للبيبليوغرافيا، حيث سنضع فيه ما ننجزه من البيبيلوغرافيات، والثاني الذي نتيح فيه البحث داخل المدوّنة اللغوية الإلكترونية، أمّا الثالث فسنعرض فيه نماذج للمداخل المعجمية التي ننجزها. والهدف الأساسي هو تفاعل الجمهور المثقف والمتابع والشغوف، تفاعلًا إيجابيًا بناء. فهذا مشروع أمّة ونريد من المثقفين والعلماء والخبراء واللغويين والمهتمين أن يستدركوا علينا ما فاتنا، نحن لا نستطيع أن ندعي أن عملنا كاملٌ، خاصّة في مثل هذا المجال المعقّد، ولا نستطيع القول إن ما قمنا به في مجال البيبليوغرافيا كامل، ولا نزعم أن المدوّنة كاملة، ولا أن المداخل المعجمية التي ننجزها، هي على الوجه الأكمل والأمثل، ولكننا نقول إن الجهد الذي بذلناه، نعرضه على الناس وعلى الجمهور المختص، ليستفيدوا منه من جهة ويستدركوا علينا من جهة أخرى، لأن المطلع على تراثنا الفكري واللغوي والحضاري يعرف أكثر من غيره الصعوبات والمشاكل والتحديات الكبيرة. مثلًا من بين العقبات والتحديات في ما يتعلق بتراثنا اللغوي القديم؛ أننا نجد عناوين الكتب، ولا وجود للكتب التي تحمل هذه العناوين، نجد الكتاب ولا نهتدي إلى مؤلفه، وهناك المؤلف الذي تُجهل سنة وفاته، وهناك الكتاب المنسوب لأكثر من مؤلف، والأشعار المنسوبة لأكثر من قائل، والأشعار المجهول قائلها والمجهول سنة وفاته، علوة على المحرّف والمصحّف. كلّ أنواع المشاكل والتحديات والعقبات التي يمكن تصوّرها موجودة في هذا التراث. حين نبني مداخل معجمية للألفاظ، فنقول مثلًا إن هذا اللفظ استُعمل بهذا المعنى من قبل فلان، في سنة كذا، فإن هذا ما استطعنا الوصول إليه، وقد يأتي غيرنا ويصوّبه، لكن المهم، أننا لا نقدم أي معلومة إلا بدليل علمي.
– ومن أجل هذا التفاعل الإيجابي، ستصدرون مجلة متخصصّة عمّا قريب؟
نعم، في المخطط أيضًا إطلاق مجلة متخصصة تابعة لمشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ستعنى بالدراسات المعجمية والمصطلحية، وستفتح الباب واسعًا أمام دراسات ربما تُجرى لأول مرة، لأنها ستجرى على مدوّنة لغوية وعلى ألفاظ بعينها، وعلى مداخل معجمية، وتصل إلى استخلاصات ونتائج، وهذا مهمّ بالنسبة إلينا لأنه سيتيح لنا تقييم عملنا.
– فلنعد قليلًا إلى المعالجة الحاسوبية، هل تمّ تطوير برنامج من أجل المعالجة الدلالية؟
في المعجم، المقصود بالسياقات أن كلّ لكلمة موجودة في المدوّنة اللغوية نص استعملت فيه، وهو ما يُشكل سياقها عند تمام معناها داخله. ولدينا إمكانية في منصة المعالجة المعجمية أن نوسع هذا السياق، حتى يتبيّن لنا بالضبط المعنى الذي تأخذه هذه الكلمة داخل هذا النصّ. أمّا في ما يتعلّق بالمعالجة الدلالية، فنحن نتوقع، وهذا مبتغانا ومطمحنا، أن نبني مع المعجم، أنطولوجيا دلالية للغة العربية، وذلك من خلال استخراج السياقات وتصنيفها تحت عناوين دلالية، ثمّ الربط بين هذه العناوين من أجل خلق حقول دلالية متقاطعة ومترابطة في ما بينها، لتكوين أنطولوجيا دلالية للغة العربية، هذا عمل ضخم وكبير وعظيم الفائدة، وهذا سعينا.
– المشروع ولا شكّ ضخم وطموح جدًا، لكن الواقع مختلف. فكما لا يخفى لا يوجد في كليّات اللغة العربية في الجامعات العربية، اختصاص علم المعاجم، لا توجد مادة معجميات. والصناعة المعجمية لدينا متأخرة. الأمر الذي يعني أنكم تواجهون ربّما مشكلة في إيجاد المختصين.
قد يُظن، وهذا ظنّ غير صحيح، أن العالم العربي مليء بخريجي الجامعات من المختصين باللغة والأدب، وأن لا مشكلة من هذه الناحية لإنجاز المشروع، لكن لا يوجد لدينا خريجون ولو بعدد قليل، من المتخصصين في مجال علم المعجم أو الصناعة المعجمية أو علم المصطلح والصناعة المصطلحية . هناك جهود متفرّقة في هذا البلد أو ذاك، في هذا المجمع أو ذاك، في هذه المؤسسة أو تلك. لكن الثغرة كبيرة جدًا، والتعامل الآن يتمّ على أساس الاستعانة بالخبراء اللغويين الذين لهم صلة بالدراسات المعجمية، أوالباحثين في مجال المعجم، أو الذين شاركوا في تأليف معجم، أو لهم خبرة معينة بحكم تخصصهم أو اهتمامهم البحثي، سواء أفي مجال المعجم أم في مجال المصطلح. ونحن نستعين أيضًا بعلماء الأدب أو المتخصصين في الأدب الجاهلي على وجه الخصوص، لأن المرحلة الأولى من مراحل المعجم، تقتضي معرفة دقيقة بالأدب الجاهلي ونصوصه وألفاظه ومشكلاته. ولكن أقول، انطلاقًا من التجربة، إننا قد نواجه مشكلة في الكفاءات العلمية في المستقبل. في المراحل الأولى قد نستطيع السيطرة على الوضع، والتعامل مع الموجود من خبراء لغويين متخصصين، لكن إذا اتسع المجال، وسيتسع، وإذا كثر العدد، ولا بدّ أن يكثر، فربّما نواجه صعوبة في هذا المجال، لذلك فإننا نعقد ورشات عمل، تمتد إلى أسبوع وأسبوعين وأكثر، من أجل شرح كيفية تعريف اللفظ وتحديد المصطلح، كيف نستخرج اللفظ من سياقه، ونضع له تعريفًا، وخاصة في المرحلة الأولى من مراحل تاريخ اللغة العربية. إنه أمر في غاية التعقيد والصعوبة، ولذلك يقتضي التنبيه إلى أهمية أن تُفتح تخصصات في الجامعات العربية في مجال المعجمية والمصطلحية، وبالمناسبة أذكر، أن معهد الدوحة للدراسات العليا، الذي من المنتظر أن يفتح أبوابه في الموسم الجامعي المقبل 2015، سيفتح برنامج اللغة العربية واللسانيات، ومن مساقات هذا البرنامج، مساق المعجمية والمصطلحية، ومن تخرج في هذا المساق بتفوق، يستطيع الالتحاق بمشروع المعجم التاريخي للغة العربية بعد تخرجه مباشرة.
– أي أنتم تعتمدون التحفيز؟
نعم طبعًا، وهذا أيضًا ممّا ينتظر أن تقوم به الجامعات العربية في الوطن العربي، وأن تهتم بقضايا اللغة العربية، وأن تفتح البرامج والمقررات التي لها صلة بهذه التخصصات، وأن تساهم في حل قضاياها، ومنها قضايا المعجمية والمصطلحية، والاكتساب اللغوي وتعليم اللغات الأجنبية والترجمة وما إلى ذلك.
– عند النظر إلى الفريق المكوّن للمشروع، نلاحظ أنه متنوع مشرقي ومغربي، أيمثل هذا غنى؟ أم سيكون حاملًا للاختلافات التي نعرفها بين مجامع اللغة العربية؟
صحيح، نحن حريصون أشد الحرص على أن يشارك في هذا المشروع كلّ أبناء اللغة العربية المختصين من المغرب والمشرق والخليج، والمجال مفتوح. ومن يطّلع على الأعضاء العاملين في الفريقين الحاسوبي واللغوي، داخل الدوحة وخارجها، سيعرف أننا نحرص على هذا التنوع الجغرافي، لأننا نستفيد منه في أمور عديدة، منها الخلفية اللغوية والمعرفية للخبير اللغوي، ومعرفته بالمصادر والكتب المطبوعة في بلده، والغنى الثقافي والعلمي والمنهجي أيضًا، وكل ذلك من التنوع الذي يؤدي إلى الغنى. ما يوجد ربّما من كتب في المشرق لا يوجد في المغرب والعكس صحيح. نحن حريصون على خلق هذا النوع من الترابط والتكامل والوحدة، لأن المشروع يقتضي هذا، وهو مشروع أمة وليس مشروع جهة أو شخص أو دولة.
– وفي حال اختلاف لفظ أو مصطلح بين المشرق والمغرب، فكيف يكون الحل؟
نحتكم إلى النص الذي يرد فيه اللفظ، والسياق هو الذي يحدد معناه.
– تصدر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم منذ سنوات مجلة اللسان العربي، المختصة بالأمور المعجمية. هل تستفيدون من إنجازات مماثلة؟ وهل تتعاونون مع جهات مشابهة؟
قمنا باتصالات مع عدة أطراف وجهات ومؤسسات، ونحن منفتحون على الجميع من أجل الاستفادة من كلّ إنجاز يستطيع أن يخدم هذا المشروع، ومجال التعاون واسع وفسيح، والمتوقع من كل جهة تملك شيئًا معينًا تستطيع أن تخدم به هذا المشروع أن تتواصل معنا، نرحب بكل الجهود وبكل المقترحات والأفكار.
– لو ننتقل إلى المرحلة الثانية، الممتدة من عام 201 للهجرة وحتى عام 500 للهجرة، إنها مرحلة قمة الصناعة المعجمية العربية، ثمة المعاجم الكبرى المعروفة، كالجمهرة لابن دريد والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده وتهذيب اللغة للأزهري وغيرها، فضلًا عن المعاجم المجنسة، كيف تتعاملون مع هذه المرحلة؟
هذه مرحلة الانفجار المعرفي الذي حدث في تاريخ الأمة العربية، هي مرحلة مهمّة. حاولنا أن تستخلص المعارف والعلوم والفنون التي عرفتها هذه المرحلة على وجه التقريب، فتبين لنا أن هناك أربعاً وسبعين تخصصًا في الفنون والمعارف والعلوم التي ظهرت في هذه المرحلة، أي في كلّ مجال منها أُلّف عدد كبير من الكتب، بل وظهر النوابغ؛ شخصٌ واحد يؤلّف في تخصصات متعددة جدًا، حتى إن بعضهم تصل تآليفه إلى مائتي كتاب. فالمرحلة غنية جدًا ومتفرعة جدًا. لذلك شكّلنا عدّة لجان لجمع ما أُلِّف في هذه المرحلة، وعرضنا ذلك في مؤتمر عقدناه في تونس، وخضع للمناقشة والتقويم، وشكّلنا لجنة لمراجعة جميع الأعمال البيبليوغرافية الممتدة حتى 500 للهجرة، وإذا أضيفت هذه الأعمال إلى بيبليوغرافيا المرحلة الأولى، نكون قد أعددنا بيبليوغرافيا عشرة قرون. وإذا استطعنا أن نحصل على نصوص عناوين الكتب الموجودة فيها، فإنها ستنقل المدوّنة اللغوية من عشرات الملايين من الكلمات إلى مئات الملايين من الكلمات. ستكون نقلة ضخمة جدًا.
– وفي هذه المرحلة أيضًا، ظهرت كتب العلوم، في الهندسة والطب والجبر والكيمياء والفلك، ولا بدّ من أنها تركت أثرًا كبيرًا على اللغة العربية وقتها.
نعم ستعرف المدوّنة في هذه المرحلة كمّاً هائلًا من المصطلحات العلمية في المجالات العلمية المختلفة، وستكون هذه المصطلحات معرفةً بمفاهيم محددة في مجالاتها العلمية، وستشكل كنزًا كبيرًا لتطوير عربيتنا العلمية اليوم، لأن عددًا كبيرًا من هذه المصطلحات غائبٌ عنا اليوم، نحن نفتقده، واسترجاعه بهذه الطريقة، معرفًا محدد المفهوم، منسوبًا إلى قائله، وإلى مجاله العلمي، مترابطًا مع غيره من المصطلحات، موثقًا، استرجاعه يعني الحصول على كنز كبير جدًا لعربية العلم اليوم.
– أي كما قلت في إحدى المحاضرات “إن من شأن المعجم أن يكشف لنا صورة جديدة عن أنفسنا”، خاصّة وأن هذا المشروع وثيق الارتباط بالفكر كما يبدو، لعلّ كل هذا يبرّر خيار “الإحصاء الشامل”؟
اللغة هي الوسيلة التي نعبّر بها عن أفكارنا، وتطور الفكر لا يتمّ دون تطور اللغة، واللغة كما قال الفلاسفة قديمًا هي مرآة الفكر. حينما نرصد تطور اللغة على المسار التاريخي، نحن نرصد، في الوقت ذاته تطور الفكر الذي عبر بهذه اللغة. وحين نرصد تطور المصطلح العلمي، فنحن نرصد تطور العلم. وحينما نرصد تطور العلم، نرصد تطور التفكير العلمي. فنحن نرصد بالفعل كيف تطور الفكر العربي على مدى هذه القرون. ولهذا فإن أهمية المعجم التاريخي للغة العربية، لا تكمن إطلاقًا عند كونه معجمًا فحسب، وإنما تكمن في ما يقتضيه وينتج عنه ويتراكب معه سواء في المستوى الحاسوبي والبرمجيات والتطبيقات والبرامج الحاسوبية، أم في ما يتعلق بما سيتيحه من الدراسات والأبحاث لإعادة التفكير النقدي، ومراجعة الأحكام التي صدرت عن عدد كبير من المفاهيم والافتراضات التي أقيمت في معظمها على التخمين لا على اليقين. وسنتيح بهذا المعجم، المادة التي تسمح للباحث والدارس أن يصدر حكمه بيقين.
– يخطر في البال أيضًا، “الجاسوس على القاموس” لأحمد فارس الشدياق، الذي صوب بعض ما ورد من أخطاء في “القاموس المحيط” للفيروزآبادي، هل تستعينون خلال الإنجاز بمصادر كهذه، أم أنتم متمسكون بدقة بالخطة الموضوعة؟
نحن نسير وفق الخطة التي وضعناها وهي الاستناد إلى النص العربي واستخراج الألفاظ الواردة فيه، والاستناد إلى سياقها من أجل تحديد معناها إذا كانت لفظًا أو مصطلحًا. أمّا السؤال عن دور المعاجم في هذه العملية، فهي ضمن الأدوات المساعدة الموضوعة رهن إشارة الخبير اللغوي الذي يتعامل مع المعجم والمداخل المعجمية، ولا بدّ أن يطلع على ما قالته المعاجم العربية عن هذا اللفظ الذي يعالجه. ولا يمكن أن يستغني عن ذلك لأنها تساعده في تحديد المعنى، وهنا أذكر أمرين مهمين: خلال التجربة التي خضناها وهي تجربة شهرين، تبيّن لنا انطلاقًا من المداخل التي عالجناها أن هناك عددًا من الألفاظ التي لم تدرج في المعاجم العربية،وهناك أيضًا شيء مهمّ، وهو أن ثمة ألفاظاً أُدرجت في المعاجم، لكن لم تدرج كلّ معانيها. نقول هذا استنادًا إلى ما نملكه من نصوص توجد فيها هذه الألفاظ. حينما نبحث في كلّ المعاجم قديمها وحديثها، لا نجد هذه الألفاظ، وقد طورنا أداة حاسوبية تمكننا من جمع الألفاظ والمعاني الجديدة لاستخراجها في ما بعد، من أجل الاستدراك على المعاجم سواء من حيث اللفظ أم من حيث المعنى.
– وماذا عن أسماء الأعلام والمدن؟ نحن نعلم أن لبعضها في العربية معاني ودلالات.
أذكّر بأمر مهمّ، المعجم التاريخي، حسب المفهوم الذي نتبناه، معجم غير موسوعي، أي لا يتضمن المعلومات الموسوعية. الأصل في المعجم التاريخي أن يتضمن كلّ لفظ مقرون بمعنى، أمّا الأعلام التي أُدرجت فيه، فقد أُدرجت لسببٍ واحد ولعلّة واحدة؛ أنها خضعت لعملية اشتقاق تولّدت عنها كلمات أخرى، فإذا حصل اشتقاق من اسم العلم نكون مضطرين إلى وضعه على أساس أنه كان أصلًا لاشتقاق كلمات أخرى. فحين ندرج اسم العلم إبراهيم فلأنه مرتبط بلفظ آخر هوالإبراهيمية.
– لا بدّ وأن سير العمل في المعجم إلى الآن كشف لكم أمورًا كثيرة.
صحيح، لقد أدهشتني ضخامة هذا المشروع وتعقيده، ولكن في الوقت نفسه ثمة المكاسب التي ستجنى من ورائه، وهي لا تقدر بثمن. لذلك بقدر ما فيه من الخطورة والتحديات والعقبات، فيه أيضًا من المكاسب والمنافع والفوائد. لذلك لا بأس أن يغامر الإنسان ويضحي بوقته وجهده وما لديه من خبرة ومعرفة وعمر، من أجل تحقيق هذا المشروع للأمّة العربية جمعاء.
– إلى أين وصلتم في الإنجاز؟
نحن الآن مقبلون على مرحلة إطلاق المعالجة المعجمية الفعلية، فكلّ ما قمنا به إلى الآن هو الإعداد لإطلاق المعالجة؛ فقد وفرنا البيبليوغرافيا، والمدونة اللغوية، والبرامج الحاسوبية التي تتطلبها عملية المعالجة، وكذلك وفرنا طاقمًا بشريًا بكفاءة علمية معتبرة. ووضعنا الأسس الإدارية والمهنية واللوجستية المتعلقة بالمشروع. وللمعجم هيئتان اثنتان؛ المجلس العلمي الذي يترأسه الدكتور، رمزي البعلبكي، والهيئة التنفيذية التي أتشرف بإدارتها، وهناك تنسيق وتعاون بين الهيئتين تحت رعاية الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة.
وهناك تعاون مثمر ودعم قوي وحماس كبير، وإرادة وعزيمة وتضحية من الجميع من أجل تجاوز العقبات والتحديات لإنجاز هذا المشروع.
إن كل مشروع أيًا كان، تجاريًا أو صناعيًا أو علميًا، تتهدده المخاطر وتحدق به، لكن وضوح التصور ودقة الخطة التنفيذية ووجود الإرادة اللازمة والعزيمة والإخلاص، يؤدي إلى نجاحه. نحن في أمس الحاجة إلى توفير العدّة العلمية اللازمة للنهوض العلمي والحضاري لهذه الأمة، إن لم يكن ذلك في هذا الجيل، فيلكن في أجيال لاحقة والمقبلة، لكن دعونا نوفر ما استطعنا من إمكانات لتكون هي القاعدة الصلبة التي يمكن الانطلاق منها لتحقيق هذا النهوض.