المترجمة السويدية تروي تجربتها في الترجمة من لغة الضاد إلى السويدية وتؤكد أن النصوص التي ترجمتها جيدة بما يكفي لتنجو من كاتبها وزمنها وثقافتها المحلية.
أن يحظى الِكتاب بالترجمة إلى عدَّة لغات، هو ما يُشِعر أيَّ مؤلف بالغبطة، ويؤكد لكل قارئ أنه يمسك بصيد ثمين. أمام هذا العبء الثقيل فيما يختص بالبحث عن الأصل، والبدء بالترجمة وما يحدث بينهما تتحدث صحيفة “العرب” مع المترجمة السويدية ماري أنيل.
تقول أنيل “أترجم كل يوم، أحب أن أترجم كل يوم، أعيش بين لغتين، بين ثقافتين، بين عالمين مختلفين، أكتب ملاحظات، أجمعها، أستخدمها للتحفيز، أتحدث مع صاحب أو صاحبة النص الأصلي، أحاول فهم النص من وجهة نظر المؤلف، أصنع خططا وتصحيحات”.
قصتي مع اللغة العربية بدأت في صيف 1989 في تونس، كانت أول زيارة لي إلى العالم العربي، لم أستطع فهم شيء، كان كل شيء مختلف وغريب، الأحاديث، الشواخص، الحوارات اليومية مع أصحاب المكان، كان شيئا يشبه السحر، تشكلّت لدي رغبة في العودة والبقاء لوقت أطول لأتمكن من رؤية المزيد مما يُكتب في وعن هذا الجزء من العالم، حيث اتخذت بعدها قرار تعلم العربية، بدأت دراسة اللغة العربية في جامعة ستوكهولم، انتقلت بعدها إلى دمشق، القاهرة وتونس تعلمت خلالها الكثير، أقمت في فلسطين، حيث شاركت في مشروع ترجمة أعمال غسان كنفاني، هذا كان بمثابة الحلم، كذلك اشتغلت كقوة مراقبة دولية في مدينة الخليل لمتابعة الاتفاقات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية وتوثيق الانتهاكات بما يخص حقوق الإنسان، هذا العمل أتاح لي المقابلة والتحدث مع الكثير من الناطقين بالعربية في مدينة الخليل”.
وتضيف “أول نص مترجم لي من العربية كان في عام 2008، ترجمت رواية نوال السعدواي ‘إنه الدم’، ‘شيكاغو’ لعلاء الأسواني”. وفي عام 2013 ترجمت رواية الكاتبة السورية سمر يزبك “تقاطع نيران”. بعدها تم ترشيح ماري أنيل للجائزة السنوية للترجمة في السويد، التي توزع في جامعة ستوكهولم وحصلت عليها. وفي عام 2015 قامت بترجمة “بوابات أرض العدم” لسمر يزبك أيضا.
وتتابع “الترجمة من اللغة العربية عالم آخر بالنسبة إلي، عالم مليء بالسحر، حبي للغة العربية دفعني إلى قراءة القرآن، إلى فهم معانيه، التراكيب، الصور البيانية، تعلمت في وقت مبكر جدا أن أقرأ في قلب الضجة، وفي قلب الضجة أيضا بدأت أترجم”.
لكن نحتاج إلى تفاصيل حول من أين تبدئين اختيار النص الذي تريدين ترجمته، هل تعتمدين على آراء أصدقائك الذين يتحدثون العربية؟ كيف تميّزين الرأي والمقترح الموضوعي من الانحيازات الشخصية؟ طريقة الترجمة ومدى خضوع المترجم للموضة والإعلام والعلاقات الشخصية أم أنك متحررة منها؟
أريد ترجمة كل شيء، الأدب العربي الكلاسيكي في عالمٍ أصبح غرائبيًّا بصورةٍ لا تترك أي مجال لدهشة مرتقبة. لكن الإنتاج الأدبي الجديد مغر أيضا
وتجيب ماري “لا أختار الرواية أو النص الذي أرغب في ترجمته حيث يخضع الأمر إلى خيارات دار النشر ولجنة القراءة داخل الدار التي تقوم بدورها بتقديم مجموعة اقتراحات تتوافر فيها المعايير المطلوبة، أهمية الكاتب وانتشاره في محيطه اللغوي، عدد ونوعية المراجعات النقدية التي حصل عليها الكتاب، حيث من الطبيعي أن تنظر دار النشر من هذه الزاوية خصوصا في حالة الأدب القادم من خارج أوروبا، أوروبا الثقافية أقصد، مالك دار النشر يريد الربح بالنهاية، بعد ذلك وعند البدء بالترجمة يكون الأمر مختلفا لأنني أكون في مواجهة حقائق لا أستطيع تغييرها، حيث لا أعتني بالرواية فحسب لكن أحاول أن أٌعنى بشخصيات الكتّاب، بعالمهم الداخلي والفكري، بل هم جزء أيضا من الحياة اليومية بكل تفاصيلها”.
وتضيف “أحاول دائما إيجاد حلول للترجمة، حيث لا يمكن تقديم فكرة عن الثقافة العربية والتي بالطبع لا يمكن اختصارها في مجموعة من الكتب التي ترجمتها، لكن يمكن تقديم فكرة تقريبية باستخدام أدوات تكنيكية عالية التطور، وإنارة إضافية لأكثر الأحداث آنية هناك والتي تأخذ الطبيعة التوثيقية، تُرينا الحقيقة عارية من خلال بعض الأعمال الأدبية التي كتبت بناء على أحداث ووقائع، على عكس ما يكتب هنا ويترجم إلى اللغة العربية من أعمال أدبية تندرج ضمن أدب الإثارة، التشويق المرتبط بعالم الجريمة في بلد يعد من أكثر بلدان العالم أمانا”.
وتتابع “لكنه سرعان ما أدرك أن مسرحا جديدا لا يمكن خلقه من الرواية بصيغته الدرامية والبنيوية. حيث اللغة العربية التي تعد من أكبر وأصعب اللغات في العالم مقارنة باللغة السويدية التي لا يتجاوز عدد المتحدثين بها عدة ملايين، هذه المقارنة مرعبة، لذلك أتجنب أثناء الترجمة استخدام لغة مُتكلّسة ولكنها حيوية بالنسبة إلى آخرين. وهذا صحيح بالمطلق. فهناك شيء مُتكلّس في الأعمال بمعنى عدم قدرتك على تغييرها أبدا”.
حسنا ماري، برأيك هل المطلوب الآن إعادة تدوير اللغة العربية لتناسب القارئ السويدي، الذي يشكل عقبة واقتحامه عسير جدا، والمعروف بمزاجه العالي وانتقائية الحادة؟ هل تقع الكلمات في حب بعضها البعض؟
تجيب “أتماهى حقا مع عملي. أشعر بقرب أكبر إلى الرسام من المترجم، فالرّسام لا يضيّع الوقت. ومع كل نقطة لون يمكنه رسم زهرة. فالفن المعاصر ومنذ صعود الحركة الانطباعية يُبدي تفضيلا للنقاط ويضحي بالسياق غير الضروري حتى يلتقط تفصيلا دقيقا بعينه. أؤمن بهذا كأسلوب أكثر حداثة”.
وتضيف “النصوص التي ترجمتها جيدة بما يكفي لتنجو من كاتبها وزمنها وثقافتها المحلية مُقدر لها بالضرورة وبشكل أساسي أن تُقرأ قراءة ثانية. وكلما ازداد عدد القراءات كلما كان الأمر أفضل. هذا هو الحال في رواية شيكاغو لعلاء الأسواني. حيث لازالت شخوص الرواية تعيش معي تفاصيلها اليومية، حيث فهم الشخصية يأتي من فهم صوتها الداخلي.
هناك مؤلفون يفهمون شخصياتهم من خلال مصائرهم، ومن خلال سلسلة من العلامات التي تحدد حيواتهم وهذا يشبّه بالملحمة. حيث نعايش شريحة خاصة جدا من المصريين، حينما ينتقلون ويعيشون في قلب مدينة شيكاغو الأميركية. نعايشهم ونلمس كيف تنتقل معهم أفراحهم وأحزانهم، حتى وهم ينجحون في الخارج تظل عيونهم معلقة بالوطن، ومشدودة نحوه. لا يعني ذلك أن الحب فقط هو لصيق هذا الاشتياق والتعلّق بالوطن، لكن الكراهية أيضا تعانق الكثيرين منهم ضجْرا من هذا الوطن الذي لفظهم، ودفعهم إلى هذا الخروج المهين”.
تكمل ماريا مع فنجان الشاي “وهذا يتطلب مني التركيز لفترات طويلة والبحث عن الجملة المثالية التي يمكن أن أبدأ بها، حيث أمارس حقي الطبيعي في التواصل مع الآخر(القارئ السويدي)، حيث ما من مكان آخر تختلط فيه مشاكل العالم الأول بمآسي العالم الثالث بهذا الشكل المكشوف، وفي وضح النهار سواء في ذلك الجزء من العالم حيث يطالبون الأصدقاء والناس المسالمين بعدالة عامة، ويطالبون بحرية عامة، وكل هذا لا يحتاج إلى الكثير من الجرأة. بلغة أحبها، وهنا أقصد اللغة السويدية، أحاول تغيير نمط اللغة إلى صور، حيث أرى من الضروري استخدام كافة الأسلحة المتاحة في اللغة، وأكثر أشكال التواصل اللغوي تنوعا”.
ولا تنسى “أن الكلمات كُتبت لتُقرأ. لكن عادة ما تكون هذه الكلمات عبارة عن نص أولي يحتوي على ما أكتبه باليد، وأعيد كتابته لاحقا على الكمبيوتر الشخصي”.
حسنا! ما هو الرقم القياسي الذي حققته في زمن البحث عن كلمة معينة؟ تجيب ماريا “لا أتذكر بالضبط، لكن مثلا ترجمة كتاب سمر يزبك تطلبت مني الحديث مع سمر عدة مرات والسؤال عن معاني الكلمات والمفردات، أحيانا يستغرق الأمر بضع ساعات وأحيانا عدة أيام. في الأيام العادية أترجم خمس صفحات كمعدل طبيعي وأحيانا أؤجل ترجمة بعض المفردات والمصطلحات حتى أبحث أكثر عن أصل الكلمة، فمثلا قرأت سورة يوسف في القرآن كاملة وعدة مرات، وسبب ذلك ورود آية في كتاب سمر الأخير”.
لكن الحفاظ على الخصوصية من أهم سمات المجتمع السويدي، هل تتابع الأفعال المبنية للمعلوم يرفع من حرارة المشهد أثناء عملية الترجمة؟
سأجيبك كما قال بورخيس “لا شيء أكثر ثانوية عند إنجاز كتاب من نوايا كاتبه، وفي النهاية أعظم ما يخرّب الروايات ليس فقط ما يعتقد المجتمع أنه صحيح بل ما ينوي الكاتب مسبقا أن يكتبه”.
السؤال الأخير ماري هل هناك كتاب معين ترغبين في ترجمته؟
تجيب ماري “بالتأكيد، لكن لطالما حيّرني الموضوع، أريد ترجمة كل شيء، الأدب العربي الكلاسيكي في عالمٍ أصبح غرائبيًّا بصورةٍ لا تترك أي مجال لدهشة مرتقبة. لكن الإنتاج الأدبي الجديد مغر أيضا. لا أدري بالضبط، أنتظر الرواية القادمة، نقطة الانطلاق الجديدة”.
كاتب من سوريا