لقد سادت اللغة العربية المشتركة خلال أحقبة متوالية في مختلف البيئات الإسلامية سيادة مطلقة دون أن يرميها أحد بأي تهمة تقلل من شأنها بين باقي لغات العالم، ولم يثبت أن اشتكى أحد من عيب أو قصور أو عجز فيها، بل على العكس من ذلك، فقد كان التنويه كبيرا بإمكاناتها المتعددة، وخصائصها المميزة لها عن غيرها من اللغات بالنظر إلى مكوناتها وقابليتها للاشتقاق، وتعدد مجالات إغنائها، وقدرتها على استيعاب مختلف العلوم والمعارف، فضلا عن جماليتها وموسيقيتها المتميزة.
واليوم تواجه لغتنا الجميلة تحديات خطيرة وعديدة، من بينها:
– عدم إعطاء هذه اللغة المكانة التي تستحقها، والتي عاشت وتمتعت بها قرونا، والنتيجة كانت هي احتقارها وتهميشها وعقوقها من لدن أهلها :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على النفس من وقع الحُسام المهند
وهذا التحدي هو في رأيي المتواضع من بين أكبر وأخطر التحديات التي تواجهه لغة القرآن، لذلك ارتأيت أن أدلو بدلوي في هذا الموضوع من خلال هذه الورقة التي أذكر فيها ببعض المزايا العظيمة التي اكتسبتها هذه اللغة، فشرفت بشرف ما نيط بها من أدوار مهمة.
العربية: لغة الدين الخاتم
نظرة إلى الوراء :
لقد أثبتت الدراسات اللسانية الحديثة أنه لا تفاضل بين لغة وأخرى من حيث هي لغة، وهذه الدراسات تقول (وأصل الفكرة لابن خلدون في المقدمة) : إن اللغة أي لغة تنمو وتتطور وتنتعش وتنتشر بتطور أهلها وتقدمهم العلمي في مختلف المجالات، ولأن المغلوب مولع بتقليد الغالب كما يقول ابن خلدون- فإن المغلوب دائما يحتقر ما عنده ويستورد ما عند الآخرين، وإن التاريخ والواقع لشاهدان على ذلك، فالواقع اللغوي الذي نعيشه اليوم، هو نفسه الذي كان قد عاشه الغربيون أيام ازدهار الأندلس، فالعرب اليوم عاقون للغتهم، قد احتقروها وجعلوها وراء ظهورهم، فالتحدث بالفرنسية أو الإنجليزية رقي وتحضر، والتحدث بالعربية تخلف ورجعية وماضوية، هكذا كان الغربيون يحتقرون لغتهم في عصورهم الوسطى؛ عصور الجهل والظلمات، لقد كانت البعثات الطلابية من النصارى إلى الأندلس تفتخر –حين عودتها- بالتحدث بالعربية وتتباهى بذلك، حتى قال بول ألفارو Paul Alvarus أسقف قرطبة ”… لقد أصبح الشباب المسيحي المتطلع، يقبل على العربية بحماس، وبها يدرس ويتعلم ويقبل على كتبها بنهم. إنه صار يحتقر المعارف المسيحية ولا يُعيرها وزنا ونسي لغته الأصل. ففي مقابل فرد يكاتب صديقه باللغة اللاتينية، هناك آلاف يعبرون عن خلجات قلوبهم بلغة عربية رائقة ….”[1].
هكذاهو حال العرب اليوم، وهذا هو الواقع الذي نحياه، ولكن يجب ألا ننسى أبدا،أن هذه اللغة التي تتعرض للاحتقار والانتقاص من لدن أهلها هي أولا وقبل كل شيء :
أ-لغة القرآن الكريم : وكون القرآن نزل بلسان عربي مبين، حقيقة لم تختلف فيها البشرية منذ نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا. ومع ذلك فقد أكد الله تعالى هذه الحقيقة في عدة مواضع من آي الذكر الحكيم، من ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء : {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين}.
وعندما نقول إن لغة القرآن الكريم هي اللسان العربي أو اللغة العربية ينبغي أن نستحضر أن القرآن هو كلام الله تعالى[2]، وأن الله تعالى هو الذي اختار هذه اللغة لتكون وعاء لكلامه سبحانه، وينبغي أيضا ألا يغيب على أذهاننا أن القرآن الكريم هو كتاب الدين الخاتم الذي هو الإسلام. فالدين الإسلامي إذن أصبح بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدين الصحيح للبشرية جمعاء، قال تعالى :{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}س آل عمران. وحيث إن الإسلام دين عالمي فإن لغته كذلك لغة عالمية، وهذا من فضل القرآن على العربية إذ أنه انتشلها من المحلية والإقليمية، ودفع بها إلى العالمية[3].
ب- لغة السنة النبوية : إن اللغة العربية هي اللغة التي تكلم بها خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، بل هو أفضل من نطق بلغة عدنان، ومن خلالها ترك لنا أحاديثه الشريفة، وهذه مزية أخرى للعربية قد شرفت وتشرفت بها، شرفت بأن كانت لغة الرسول الخاتم وتشرفت بأن كانت وعاء لأحاديثه الشريفة.
ج- لغة التراث الإسلامي : لقد خلف لنا الأسلاف تراثا جما سواء في العلوم الشرعية واللغوية وما إليها أو في العلوم الدقيقة كالرياضيات والهندسة والفلك والفيزياء والكيمياء والطب والزراعة وفن الحدائق وفن الري… وما جابر بن حيان (عاش في ق 2ه) وأبو عبد الله الخوارزمي(ت232ه) ويعقوب بن إسحاق الكندي (ت256ه) وأبو بكر الرازي (ت311ه) والفارابي (ت339هـ) والزهراوي (ت بعد سنة 400هـ) وابن سينا (ت427هـ) وابن الهيثم (ت430هـ) وأبو الريحان البيروني (ت440ه) وابن زهر (557ه) وابن النفيس (ت687هـ) وابن البناء المراكشي (ت721ه) …. عنا بغرباء.
ونستخلص من هذه الحقيقة البديهية ثلاثة أمور:
الأول : بما أن هذه العلوم مكتوبة باللغة العربية فلا سبيل للبشرية إليها إلا بتعلم لغة القرآن. أما ممارسة بعض العلوم الشرعية مثل التفسير والاجتهاد الفقهي فقد اشترط في ذلك العلماء المعرفة التامة باللغة العربية كما سيأتي معنا.
والثاني : إننا نحن المسلمين إن تخلينا عن لغتنا نكون قد تنازلنا عن تراثنا ضرورة، وأي أمة تفعل ذلك، سيصبح ”من السهل عليها أن تندمج في أية حضارة، وتتأثر بأي ثقافة”[4].
والأمر الثالث أن اللغة العربية كانت في وقت من الأوقات، -أقول بلغة العصر- : إنجليزية عصرها.
د- لغة التعبد[5] : من المعلوم أن العربية هي لغة التعبد، فالصلاة والحج والأذكار الواردة في ذلك كلها لا تكون إلا بالعربية. ومن المعلوم أنه لا تصح صلاة المسلم إلا بقراءة الفاتحة عربية كما أنزلت ولا تصح صلاته إن هو قرأها مترجمة، وهذا الأمر مجمع عليه في المذاهب الأربعة، بل وحتى في غيرها.
وحيث إن العربية هي لغة الإسلام : قرآنا وسنة وتراثا وتعبدا فقد وجدنا في تراثنا العربي الإسلامي موضوعا يتحدث عن حكم تعلم العربية. وهذا الموضوع يمكن أن نقسمه على قسمين :
– حكم تعلم العربية بالنسبة للمسلم : أما بالنسبة للمسلم العادي، فإن الواجب عليه من العربية هو معرفة القدر الذي يمكنه من إقامة الفرائض، وفهم كلام الله وسنة رسوله. يقول الإمام الشافعي :”يَجِبُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا يَبْلُغُهُ جَهْدُهُ فِي أَدَاءِ فَرْضِهِ”[6].
– بالنسبة للمتخصصين : معلوم أن تعلم العلوم الشرعية وغير الشرعية هو فرض على الكفاية، بمعنى أنه إذا قام به بعض الناس سقط الطلب عن الباقين. وفي العلوم الشرعية خاصة، وفي مجالين مهمين من مجالاتها، وهما مجال التفسير ومجال الاجتهاد الفقهي، نجد أن العلماء قد وضعوا للمتصدي لهما شروطا عديدة من بينها العلم باللغة العربية. فإذن :
أ- العلم بالعربية شرط في الاجتهاد الفقهي : جَاءَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: ”مِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَمَوْضُوعِ خِطَابِهِمْ لُغَةً وَنَحْوًا وَصَرْفًا، فَلْيَعْرِفِ الْقَدْرَ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ فِي الاِسْتِعْمَال، إِلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بِهِ صَرِيحَ الْكَلاَمِ وَظَاهِرَهُ، وَمُجْمَلَهُ وَمُبَيَّنَهُ، وَعَامَّهُ وَخَاصَّهُ، وَحَقِيقَتَهُ وَمَجَازَهُ”.
ب- العلم بالعربية شرط لتفسير كتاب الله: جاء في ‘مناهل العرفان في علوم القرآن’ للشيخ الزرقاني تحت عنوان : العلوم التي يحتاجها المفسر :
”وقد بين العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا هي اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة…”[7].
وما يمكن أن نستخلصه من هذه النقطة هو أن المسلم -ولا أقول العربي- مطالب شرعا بتعلم هذه اللغة بل وإتقانها في بعض الأحيان كما هو حال الفقهاء المجتهدون والعلماء المفسرون، وهذه مزية للعربية ما بعدها مزية، فأن تكون العربية واجب على كل مسلم أن يتعلمها، فهذا يعني فيما يعنيه أننا بالاستجابة لهذا الأمر الديني سنضمن بقاء هذه اللغة واستمرار حياتها ما بقيت الحياة.
مكانة العربية المستمدة من الدستور ومن بعض أدوارها الحيوية
بعد هذا الذي تقدم أشير إلى أن العربية التي تتعرض للاحتقار والإهانة من ذويها هي اللغة الرسمية في البلدان العربية، ومنها المغرب:
أ-رسمية العربية بالمغرب : إن اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى في بلدنا وذلك بنص أسمى قانون الذي وهو الدستور، فقد جاء في الفصل الخامس منه : ”تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها”[8].
ب-مكون هُوياتي : فاللغة العربية عنصر أساسي ومقوم رئيس من مقومات الهوية الحضارية والذاتية الثقافية للمجتمعات العربية الإسلامية كالدين والتاريخ والعرق[9].
وأود في هذا السياق أن أستحضر معكم قولة للزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، الذي يقول : “إذا تحدثت إلى إنسان بلغة يفهمها فسوف يعقل ما تقول، أما إذا تحدثت إليه بلغته الأم فسيصل ما تقول إلى قلبه”.
فإذا تأملنا هذه المقولة قليلا فسنجد أنها تعبر عن ما يجب أن تتمتع به اللغة الأم من مكانة حتى يتم بناء شخصية الإنسان على شكل صحيح، وأن تراعى حقوقه الثقافية وهويته، وأن يتمكن من التفاعل مع الثقافات واللغات الأخرى بشكل طبيعي كإنسان كامل الهوية والشخصية.
وحيث إن اللغة أي لغة مكون أساسي من مكونات هوية أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، فإن زوالها واندثارها أمر خطير، وشر مستطير، ولقد ثبت واقعيا أن اندثار لغة أمة ما، هو اندثار ذاتها وغياب شخصيتها وحقيقة وجودها، وما مثال الهنود الحمر في القارة الأمريكية حين غزاهم المهاجرون الأوروبيون، فعملوا فيهم عسكريا وثقافيا حتى أفقدوهم لغتهم وبالتالي ذاتيتهم وهويتهم الخاصة، عنا ببعيد.
ج-العربية رابطة إسلامية : تجمع المسلمين في ربوع العالم روابطُ عظيمة، أعظمها رابطة الدين، وأيضا كتاب هذا الدين، ورسوله، وقبلته، والتاريخ والعرق، كما توحدهم أيضا لغة هذا الدين. إن اللغة العربية :”رابطة قوية من الروابط التي تجمع بين المسلمين باعتبارها اللغة المشتركة بينهم على اختلاف أجناسهم وألسنتهم”[10].
خاتمة:
إن المطلوب منا هو أن نعي هذه المكانة العظيمة للغتنا، فهي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وهي بعد ذلك لغة هذا التراث التليد الذي أنجزه الأسلاف، والعربية أيضا هي أحد المكونات الأساسية من مكونات هويتنا، فينبغي أن نعي مدى الخطر الذي سيلحق بنا إن نحن فرطنا في هذه اللغة. والعربية بعد هذا وذاك هي اللغة الرسمية الأولى حسب الدستور، فما بالنا لا نحترمه ونحن نزعم لأنفسنا أننا ننشد الحضارة والديمقراطية. إنه لمن المفارقات العجيبة أن ترى أناسا يحتقرون لغتهم؛ لغة القرآن ويهينونها، وهم بذلك يهينون أسمى قانون في البلد، ثم تجدهم في الوقت نفسه يدعون لأنفسهم النموذجية في التحضر والوعي.
وأخيرا أؤكد وأقول: إن اللغة أي لغة، ومنها العربية لا تقوى وتتطور إلا بتطور أهلها، ولا تضعف وتتراجع وتنكمش إلا بضعف أهلها، إن العيب والنقص لا تتصف به أية لغة من عندياتها، إنما يأتيها العيب والنقص من خارجها؛ من أهلها، فالعيب إذن ليس في العربية إنما هو في أهل العربية، وعلى حد قول الشاعر :
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
أقول :
نعيب لساننا والعيب فينا *** وما للساننا عيب سوانا
هوامش:
[1] – مقال للدكتور أحمد شحلان بعنوان: ‘جهود المؤسسات اللغوية في تعريب العلوم’ منشور ب أشغال المؤتمر الوطني الأول للغة العربية في موضوع : واقع اللغة العربية بالمغرب بين التعددية والتنمية، الناشر : الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب، ط1، المناهل –الرباط.ص 132.
[2] -أقول هذا الكلام بعيدا عن إشكالاته التي نوقشت في علم العقيدة.
[3] – من قضايا الفكر واللغة: تأليف : د. مصطفى بن حمزة، دار الأمان، الرباط، ص 291.
[4] -المؤامرة الغربية على اللغة العربية :تأليف: أبي نصر محمد بن عبد الله الإمام، مكتبة الإمام الألباني، ط1، 1430هـ 2009م، ص 16.
[5] -برنامج الشريعة والحياة، حلقة بعنوان : ‘مستقبل اللغة العربية وتحدياتها’ استضاف فيها الصحفي عبد الصمد ناصر الشيخ يوسف القرضاوي، منشورة على موقع قناة الجزيرة.
[6] -البحر المحيط في أصول الفقه : تأليف: أبي عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت794هـ)
الناشر: دار الكتبي، الطبعة: الأولى، 1414هـ – 1994م. ج8، ص 243.
[7] -مناهل العرفان في علوم القرآن : تأليف: محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (ت 1367هـ)
الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط:الثالثة، (دون تاريخ)2/51.
[8] -دستور المملكة المغربية2011. إصدارات مركز الدراسات وأبحاث السياسة الجنائية بمديرية الشؤون الجنائية والعفو سلسلة نصوص قانونية- شتنبر 2011، العدد 19. ص 16.
[9] – مقال للدكتور مصطفى أزباخ بعنوان: ‘اللغة العربية بين حق الوجود ودعاوى الجحود’ منشور ب أشغال المؤتمر الوطني الأول للغة العربية في موضوع : واقع اللغة العربية بالمغرب بين التعددية والتنمية، الناشر : الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب، ط1، المناهل –الرباط.ص 177.
[10] -اللغة والدين والهوية : د. عبد العلي الودغيري. ص 62.