احتفى العديد من محبي العربية والمنافحين عنها بالقرار الرسمي الفرنسي الذي دافع عن خطة لتعزيز تدريس اللغة العربية في المدرسة الفرنسية الحكومية، باعتباره نصرا للغة الضاد في دولة تحاربها في مستعمراتها القديمة/ الجديدة. والواقع أن خطة الدولة الفرنسية ليست حبا في العربية أو إيمانا بدورها الحضاري كما يزعم بعض المناصرين للخطة، أو اعترافا بقيمة لغة الضاد وذاكرتها القيمية، كما توهم أخرون، أو الزعم كما قال وزير التعليم، جان ميشال بلانكر: “إنّها لغة شديدة الأهميّة مثل الصينيّة أو الروسيّة، ويجب تطويرها وإعطاؤها هيبة”، بل هي أجرأة لتوصيات دراسة “مصنع الإسلامويّة” الذي نشره «معهد مونتان» تحت إشراف حكيم القروي، كاتب خطابات رئيس الوزراء الفرنسي السابق، في محاولة لفهم “الآلة الإسلاموية“، من أجل مواجهتها واحتوائها. لذا يقترح مجموعة من الحلول من نحو: إنشاء مؤسسة لتنظيم وتمويل الإيمان الإسلامي، وتوزيع الخطاب الإسلامي باللغة الفرنسية، وتعليم اللغة العربية في المدرسة…. . فتعليم العربية في المدارس هو تقنين لها ليغدو مراقَبا من طرف الدولة بدل تركه مجالا للهامش، من جمعيات ومساجد وهيئات أهلية. وبتعبير أبسط مواجهة الإسلاميين في ملعبهم.
وإذا كان من حق الدولة الفرنسية تأطير اللغات المدرسة، فإن الإشكال في خطتها كونها تنطلق من معطى مُضَلِل تصورته بديهيا، وصفه عبد السلام المسدي بالظاهرة: “ظاهرة التهمة الجاهزة التي أمعنت في الإلهاء إلى حد الإضلال، فأشاعت أن الإسلام هو الإرهاب، وأن الإرهاب هو الإسلام، ثم روجت أن الإسلام هو العرب، وأن العرب هم الإسلام، فبدا الاستنباط حتميا بالضرورة: أن اللغة التي جاء بها الإسلام وبها نزل نصه المقدس تحمل في كيانها بذور العنف ومنابت البغضاء، فهي بذاتها عدوانية تسوق الكره وتحرض على الإقصاء”. وهي الصورة التي تمثلتها العديد من الأقلام في الغرب منذ أحداث 11 سبتمبر في ربط جدلي بين العربية والإرهاب. فقد كتب قبل مدة دانيال بيبيز، عضو جماعة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، أن اللغة العربية في حد ذاتها هي مجرد وسيلة من وسائل الانخراط في ’القومية العربية’ وتبني التوجهات الإسلامية’ لكل من يتعلمها من غير العرب حتى لو كان غير مسلم. نفس الأمر عبرت عنه الكاتبة الأمريكية ’اليسيا كولون’ حين وصفت في نفس الصحيفة، إنشاء المدارس المختصة بتعليم اللغة العربية في أمريكا والغرب، بأنه يشكل نوعاً من الجنون. وقد تناسى هؤلاء أن العربية، إضافة إلى ارتباطها اللزومي بالدين الإسلامي الذي منحها البعد العالمي، ظلت على الدوام حصنا ضد التطرف في الغرب والشرق. فقد نشر أحد الباحثين دراسة لمنفذي الهجمات التي ضربت بروكسل 2016، وتبين أن لا أحد منهم يتحدث بالعربية، فالأحرى فهم مقتضياتها التداولية وقراءة النصوص الدينية بشكل سليم. فالعلم بالعربية، كالعلم بالشرع، يعني الفهم الصحيح للدين وليس العكس.
لكن هذه الصورة النمطية لم تتوقف عند حدود الفضاء التداولي الغربي، بل وجدت لها نفاذا إلى خطاب الساسة العرب، ومن ضمنهم المغاربة، بشكل مضمر أو صريح. فبعيدا عن الخطابات الشعاراتية والنصوص الرسمية، ينظر دوما إلى العربية ليس باعتبارها لغة وطنية وركن المشترك المغربي وعنصر المزايلة عن الفكر الاستعماري وتأسيس الدولة الوطنية، أو بكونها لغة للمعرفة والتنمية والانتماء الحضاري للمغرب، بل نظر إليها بأنها آلية لتقوية التيار الإسلامي، وأن المنافحين عنها محافظون رجعيون يتدثرون باللغة لمآرب حزبية عرضية، مع العلم أن جل رموز الدفاع عن العربية في العالم العربي، وداخل المملكة، لا يمتون بصلة إلى الحركة الإسلامية أو الإسلاميين، بل جزء كبير له مواقف سلبية من مفاهيم الإسلاميين وقناعاتهم. لذا لا تتوقف النخبة المتحكمة في القرار السياسي والثقافي والاقتصادي عن تشجيع محاولات تحجيم دور العربية في الفضاء العام من خلال البحث عن شرعيات مناقضة ومضادة. فباسم الحداثة “والانفتاح اللغوي” يلجأ للفرنسية، وتحت شعار الحقوق والتعدد توظف اللغات الوطنية، وباسم “تامغربيت” تستخدم العامية، من أجل غاية واحدة: تضييق المجال على لغة الضاد. لذا كل المشاريع المخطط لها في المجالس والمؤسسات تحمل هذا النَفَس “التدميري” للغة شكلت هوية مجتمع ولسانه الرسمي منذ أجيال طويلة.
إن وصف لغة طبيعية بالإرهاب، أو ربطها بتيار حزبي أو إيديولوجي معين، من خلال نمطية إعلامية ومجتمعية، هو تهديد للأمن المجتمعي من خلال ضرب إحدى أهم ركائزه، وإغلاق لزاوية الرؤية عن الفهم الصحيح لكيفية النهوض. فنشر ثقافة إسلامية حقيقية ودفع المواطنين نحو المعرفة الحقيقية بالواقع والدين لا يمكن أن تتم خارج الإطار اللغوي العربي باعتباره بابا للتواصل مع الآخر والذات والذاكرة. فالعربية كانت وستظل ملكا مشتركا للمغاربة وأي إزاحة لها عن أداء وظائفها الطبيعية هو هدم لهذا المشترك.