تثير الطبيعة “الكواليسية” التي تدبر بها قضايا التعليم بالمغرب في السنوات الأخيرة، العديد من الإشكالات الجوهرية حول قدرة الهيئات التمثيلية على تنفيذ مشاريعها الانتخابية التي صوت عليها المغاربة. فزيادة على خروج وزارة التعليم من قبضة الحكومة، حيث غدا وزراء “باب الرواح” يعينون خارج الآلية الدستورية ويلبسون أثوابا حزبية حسب الحاجة من أجل تنفيذ برامج لا يعرفون إلا لغة الدفاع عنها، وبعد بناء مجلس أعلى للتربية والتكوين على المقاس ليغدو مجرد مؤسسة خبرة لا علاقة لها بالسياسة التعليمية، وبعد أن بدا واضحا للعيان خطورة ما يدبر داخل الأروقة والصالونات المغلقة، وسُلم للمؤسسة التشريعية ليصبح قانونا ينهي العمل بالدستور وثوابت الأمة، يحق لنا أن نتساءل من يدبر الملف اللغوي بالمغرب؟ ولم هذا الإصرار على الانقلاب على اللحظة الدستورية بتوافقاتها وقيمها المتفردة؟
قبل ولوجه قصر قرطاج، كان الدكتور منصف المرزوقي قد كتب آخر مقالاته حول المسألة اللغوية في عصر تملك الشعب لقراره ومصيره، مذكرا بأهمية الموضوع لشعوب المنطقة بعد زوال التحكم والاستبداد. حيث قال: “إن الملف اللغوي واحد من أهم ملفات مرحلة التأسيس للعرب الجدد بعد أن ننفض عنا آخر غبار وعار الاستبداد الذي جعل منا أمة عاقرا“. فالاهتمام بالعربية والنهوض بها لا يمكن أن يتم إلا داخل فضاء الحرية الذي سيعيد تعريف الانتماء للوطن والأمة بناء على فهم جديد لموقع العربية. إذ من”من بين أخطاء الاستبداد وخطاياه (باستثناء واحد هو الاستبداد السوري) اعتبار العربية غير قادرة على أن تكون لغة العلم، والحال أنه لا توجد أمة ازدهرت بلغة غيرها. هذا الخطأ الاستراتيجي جعل منا أمة تابعة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا لم تتكلف حتى عناء الترجمة“. ولو انتظر الدكتور المرزوقي بعض الشيء لوجد النظام السوري يلتحق بالركب ويحدثنا رئيسه عن الأصول السريانية للغة العربية محاولا بناء هوية قُطْرِية بعيدا عن التصنيفات التي قامت عليه جمهوريته. القضية واحدة وإن اختلفت العناوين.
مع بداية الربيع العربي كانت الأحلام كثيرة والأماني متعددة، والحلم بعودة العربية للريادة كبير وكبير جدا. وُضع دستور متطور نسبيا بالرغم من القراءات المختلفة، صوت عليه المغاربة، وبدأ الحديث عن التنزيل. والكل يتذكر النقاشات التي جرت داخل دواليب المجلس الأعلى التربية والتكوين، الذي هُيكل من أجل إبعاد المجتمع عنه، حول لغات التدريس، وتفاعل المغاربة معه، والحملات التي قادها اللوبي الفرنكفوني ضد المشاريع التي رمت لتحجيم دور الفرنسية سواء في قصة دفاتر تحملات القناتين العموميتين، أو في حضور الإنجليزية في التعليم، وغيره من المحطات الترافعية التي أثبتت الولاء الحقيقي للكثير من نخبنا. وبعد أن وضعت فصول دستور 2011 في رفوف التاريخ والخطب، وبدأت عملية إنشاء المؤسسات، بدأت الحروب الخفية من أجل صياغة قوانين على المقاس ووضع الألغام داخل المواد من أجل تثبيت حضور لغة الاستعمار بقوة، وهو ما يبدو جليا في القانون الإطار، وفي القوانين التنظيمية الأخرى. بل لم تتوقف هذه الدوائر المرتبطة علنا بفرنسا(أنظر عدد الاتفاقيات الموقع عليها وطريقة حضور المسؤولين الفرنسيين إبان النقاش حول تعويض لغتهم بالإنجليزية) لتعمل جاهدة على فرض الأمر الواقع وفرنسة المدرسة في انقلاب واضح على مسار التغيير وحلم عودة الانتماء الوطني للمغاربة. وفي كل الحالات ظل المسؤولون الذين خرجوا من رحم صندوق الاختيار الشعبي عاجزين عن تحديد المتحكم في القضية الهوياتية بالمغرب، وعن تفسير محاولات الربط بالمركز الفرنسي بالرغم من يقين الجميع بأن الأمر لا يعدو اجترارا للفشل، وعن تفسير دور الأحزاب “المصنوعة” في استغلال الأمازيغية في حساباتها الحزبية لضرب الخصوم السياسيين وتمثل حالات التشظي الهوياتي في أقصى تطرفه.
جملة القول إن مسار استعادة الهوية الوطنية هو نفسه مسار استعادة المبادرة الشعبية. وأي حلم بالنهضة اللغوية خارج إطارها الديمقراطي يظل خارج إمكانية التحقق. إذ “لو وجدت الديمقراطية مكانا لها خلال العقود السابقة في ثقافة أصحاب الهويات المتعددة ونجحت المجتمعات العربية في تأسيس أنظمة ديمقراطية حقيقية لحلت إشكالات الهوية” كما قال الدكتور أبراش ذات زمن. لذا فعلى المنافحين عن الهوية الوطنية بتعدديتها وعن اللغة العربية بدور الجامع أن يؤمنوا بأن دفاعهم ينبغي أن يكون رهينا بالدفاع عن الديمقراطية الحقيقية التي تحقق العدالة اللغوية.