كانت كلمات الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو في نهاية اللقاء الدراسي الذي نظمه الفريق النيابي للعدالة والتنمية في موضوع: “قانون اللغة العربية وآليات التنزيل” قبل سنتين ملخصة لمخاوف الشعب المغربي وقواه الحية من عدم المصادقة على قانون اللغة العربية حين قال: هل سنعود مرة أخرى لمناقشة قضية العربية دون إجراءات ملموسة؟
لم نكن نود الكتابة في الموضوع، اعتقادا منا أن مسار النقاش الآن انتقل إلى دواليب البرلمان المغربي بعد أن كان نقاشا مجتمعيا ومطلبا وطنيا تمثل في الحضور الكثيف لليوم الدراسي المذكور من نخبة الوطن الذين عجت بهم القاعة المغربية، والذين حضروا من مدن المغرب وبواديه، دعما لفكرة إصدار قانون اللغة العربية وضرورته في مسار التنزيل السليم للدستور المغربي. لكن راعني درجة العمى الإيديولوجي التي تسيطر على بعض المنتسبين إلى عالم الثقافة إلى درجة أنهم يتحدثون عن أمور لا علاقة لها بالنص ولا بحواشيه، مما يعني أنهم ينطلقون من محفوظات مقررة عليهم يرددونها في كل أوان، حين تذكر العربية أو أثير موضوعها. فمقترح القانون القاضي بحماية وتطوير تنمية استعمال اللغة العربية الذي تقدم به فريق العدالة والتنمية وأحيل على لجنة التعليم والثقافة والاتصال في الاثنين 4 دجنبر 2017، يفتح أعيننا على حقيقة مرة، وكثيرا ما نحاول القفز عليها بحثا عن المشترك الوطني. فجل الأصوات التي حاولت تسفيه المقترح أو الرد عليه أو انتقاده، وجلها لم يتعب نفسه بقراءته، يبدو أن غايتها الوحيدة هي الإبقاء على حالة الفوضى اللغوية التي يعيشها المغرب، لأنها تستفيد منها ماديا ومعنويا. وبما أن الأمر الآن بيد اللجنة النيابية التي ينبغي أن تكون في مستوى اللحظة الحضارية بعيدا عن تشويش بعض أصوات التشظي “المصابة بالنكوص الذهني المتأخر” التي دأبنا على سماعها كلما نحا المغرب نحو تنظيم فضائه الثقافي والقيمي، فلا بد من إبداء بعض الملاحظات التي نوجهها على الخصوص للمشرع المغربي:
1 ــــــ منذ مدة ليست بالطويلة، أكد وزير الثقافة السابق في تصريح لإحدى الجرائد الوطنية، بأن مشروع قانون حماية اللغة العربية موجود ضمن المخطط التشريعي للحكومة السابقة، بالرغم من عدم وجود اسمه ضمن الوثيقة الرسمية للمخطط التشريعي، وأن وزارته اقترحت إعداد مشروع القانون بشراكة مع وزارة الاتصال. وهو ما أكدته الحكومة غير ما مرة، مما يعني أن ما أقدم عليه الفريق النيابي، هو جزء من مسار التنزيل الديمقراطي للدستور الذي تشترك فيه الهيئتان التشريعية والتنفيذية باعتبارهما التمثيلي للشعب المغربي.
2 ـــ يعد مشروع القانون مخرجا من مخرجات اليوم الدراسي نظمه الفريق النيابي بحضور العديد من الوزراء والبرلمانيين، وتأطير العديد من الأكاديميين المتخصصين (وليسوا أصواتا شاذة) في الشأنين اللساني والقانوني حول آليات تنزيل القانون. وقد كان النقاش علميا استطاع الفريق أن يصوغه في بنود قانونية من خلال الاستفادة من التجارب العالمية التي عرضت، والآليات التشريعية واللسانية التي تحقق العدالة اللغوية في المجتمع المتعدد.
3 ــ إن إصدار قانون لحماية اللغة العربية هو جواب عن الفراغ القانوني، الذي أشار إليه وزير الثقافة السابق، حول استعمال اللغة العربية بالقطاعات الحكومية بعد أزيد من 50 سنة من الاستقلال مؤكدا أن ” الحكومة عازمة على تصحيح الوضع”. وهو في نفس الوقت تحيين وأجرأة لجملة من القوانين والمراسيم الوزارية التي أكدت على ضرورة التعامل بلغة الضاد في مختلف الفضاءات الإدارية والتربوية والإعلامية. لكن الأهم في القانون ينبغي أن يكون حماية للغة الدستور مما تتعرض له من هجوم وحروب باسم الخصوصية والحداثة والعصرنة، أو باسم تقريب المعلومة. فضبط المجالات التداولية للغة العربية وتسييجها بالتشريعات القانونية سيحميها لا محالة من كل مس بمكانتها وتضييق على أدوارها.
4ــــ إن إصدار قانون لحماية اللغة العربية هو تنزيل لما ورد في الفصل الخامس من نص دستور يوليوز 2011 الذي نص على دور الدولة في حمايتها والإشراف على تطويرها وتنميتها استعمالها، كما أقر التصريح الحكومي بسعي الحكومة لبناء سياسة لغوية مندمجة. وبالطبع سيتم الأمر عن طريق الآليات القانونية والتشريعية والزجرية، وإلا فما الحاجة إلى دستور لا ينفذ ولا تطبق مقتضياته، أم هو التطبيع مع الفوضى.
5ــــ إن حماية اللغة الرسمية هي حماية للسيادة الوطنية. فنحن لن نعدم أمثلة لهذا الترابط الوثيق بين الأمنين اللغوي والعام، لأن تدخل السياسي في الشأن اللغوي غدا أمرا ضروريا لبناء نمط هوياتي موحد وتقديم استراتيجية التنميط والتنشئةُ على نفس القيم دفعاً للتناشز الفئوي المفضي إلى تفكيك الجماعة، كما يتجلى في تدخلات ساسة العالم الحديث في بناء منظومتهم اللغوية اعتقادا منهم بالتماهي بين اللغوي والسياسي. ويكفي أن نتذكر أن اليابانيين لما استعمروا كوريا منعوا تداول اللغة الكورية، وحين استقلال البلاد جاء أول مرسوم في الجريدة الرسمية بحظر استعمال اللغة اليابانية فاحتشد الشيوخ والكهول ليلقنوا الأطفال والشباب لغتهم القومية ولم تنطلق السنة الدراسية إلا بعد استكمال الإحياء. وفي الصين كان أول قرار بعد نجاح ماوتسي تونغ سنة 1949 هو توحيد اللغة تحت لواء الخانية(لغة بيكين) والتخلي عن الإنجليزية واللهجات المحلية. فاللغة القومية عنوان السيادة وضمانتها. ويكفي أن نطلع على الترتيب الأخير للدول الصناعية لنعرف ما حققته الدولتان حين أمنت وضعها اللغوي. كما أن أغلب الدول العربيَّة بدأت تعي خطورة الوضع اللغوي على أمنها الثقافي والسياسي فبدأت تفرض تشريعات لحماية اللغة الرسمية. وأذكر في هذا السياق نماذج بدأت تتناسل بالرغم من أزمات المنطقة: الأردن والإمارات والسعودية وقطر. ويكفي أن نورد رأي المدير العام للمنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية حين قال متحدثا عن النموذج القطري:” إن دولة قطر بتبنّيها مثل هذا القانون تعترف دون خجل أو مجاملة بالحقيقة والوضع الخطير الذي وصلت إليه اللغة العربية في عقر دارها”. فالواقع غدا ملحا في الانتقال نحو تقنين الخيارات اللغوية في الوطن.
6ـــ إن حماية اللغة العربية تأكيد لمسؤولية الدولة والمجتمع في تأهيل اللغة الرسمية في مختلف ميادين المعرفة والثقافة، والحياة العامة، والأنشطة الفنية والإعلامية والإشهارية وغيرها، رعيا للحقوق والقوانين المتعارف عليها دوليا، ونفيا لكل ذرائع تقنية وهمية. لكن الأكيد أن الغاية هي وضع حدّ للسياسات المزدوجة القائمة علي سياسة صريحة رسمية (في النصوص التشريعية) وسياسة ممارسة في الواقع (لا تدعمها النصوص الرسمية)، قائمة على الاستعمال الفعلي للغة الأجنبية. وإذا كانت بعض الأصوات قد تذرعت بالدفاع عن الأمازيغية في محاولتها الانتقاص من القانون، فإن القارئ المتفحص للنص بعيدا عن قراءات العناوين كما فعل بعض “المصابين بالنكوص الذهني المتأخر” يعرف أن المادة 40 من المشروع تلزم بعدم التعارض بينه وبين القانون التنظيمي للأمازيغية أو الانفتاح على اللغات الأجنبية.
لكل هذه الاعتبارات نعتقد أن مجلس النواب أمامه فرصة تاريخية للحسم مع الفوضى تحقيقا للعدالة اللغوية التي من أهم مبادئها حماية اللغة الرسمية للدولة وتنميتها وتطويرها وعدم الانتباه إلى الأصوات الشاذة التي تقتات من الفوضى.