عبد الجبار العسكر – كاتب
“كيف أُساويكم بمن علّموكم!” هكذا ردت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على القضاة المحتجين الذين جاؤوا إليها مطالبين إياها بأن تساوي رواتبهم برواتب المعلمين في ألمانية لتوجّه بإجابتها تلك لهم وللعالم عموما وعالمنا الثالث والعربي خصوصا رسالةً مفادها أنّك لن تبلغَ شيئاً إن لم ترعَ كرامةَ المعلم ولن تحصدَ إن لم تُكرمه إلا أمةً هشّّة كأمتنا التي نعاينها اليوم والتي أكبر جريمة ارتكبتها هي أنها حطّت بقصد أو بدون قصد من شأن المعلم.
ومن الطبيعي أن نرى دولةً أكرمت معلميها في مصاف الدول المتقدمةِ على جميعِ الأصعدةِ بينما تظلّ بلداننا خارج التاريخ وخارج قوائم التصنيف في كل مناحي الحياة لأن إغفال دور المعلم والتقصير في حقّه لا يعني تلميذا سيئا فحسب بل يعني مستقبلاً سيئاً فيه الطبيب السيئ والقاضي السيء ورجل الشرطة بل والمجتمع الفاسد في النهاية برمته.
ليست ألمانيا وحدها بل هناك نماذج كثيرة لدول أكرمت معلميها واهتمت بتعليمها فسمت كسنغافورة وفنلندا واليابان وغيرها بينما ظللنا نحن كما كنّا وبكل أسفٍ في الحضيض وخير دليل على ما نحن فيه من رداءةٍ تعليمية وأخلاقية وتربوية المقطع الذي ﺍﻧﺘﺸﺮ منذ أيام ﻋﻠﻰ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻞ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﺻﻮّﺭ ﻣﺸﻬﺪﺍً ﺻﺎﺩﻣﺎً ﻟﺘﻠﻤﻴﺬٍ ﻭﻫﻮ ﻳﻌﺘﺪﻱ ﺑﺎﻟﻀﺮﺏِ ﺍﻟﻌﻨﻴﻒ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺘﺎﺫﻩ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺼﻒً ﻭﻳُﻈﻬِﺮُ ﺍﻟﺸﺮﻳﻂ ﺿﺮﺏ ﺍﻟﺘﻠﻤﻴﺬ ﻟﻸﺳﺘﺎﺫ ﺑﻠﻜﻤﺎﺕ ﻗﻮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻬﻪ ﻗﺒﻞ ﺇﺳﻘﺎﻃﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﻣﻮﺍﺻﻠﺔ ﺗﻌﻨﻴﻔﻪ ﺛﻢّ ﺳﺤﻠﻪِ ﻭﺍﻟﺘﻨﻜﻴﻞ ﺑﻪ ﻭﺫﻟﻚ ﻋﻠﻰ ﻣﺮﺃﻯ ﻭﻣﺴﻤﻊ ﺍﻟﺘﻼﻣﺬﺓ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻓﻲ الصف ثم على مرأى العالم ومسمعه في اليوتيوب وللأمانة ليس المغرب وحده بل كل بلداننا متورطة في ذلك وان كان المغرب يعتبر أن انتشار ذلك المقطع من سوء حظه فأنا أرى أن بقية بلداننا أسوء حظاً لأن مشاكل التعليم والتربية المستشرية فيها والانتقاص من قدر المعلم سيظل مخفياً وسيظل الخطأ فيها مستمرا ولن يظهر على السطح.
نحن أمةٌ لم تعد تعي أهمية مهنة التعليم وقداستها وما ﺃﺷﺮﻓﻬﺎ ﻣﻦ مهنة! ﻭﻣﺎ ﺃﻋﻈﻤﻪ دور المعلم ﻣﻦ ﺩﻭﺭ! وماأقدسها من رسالة! ﺃﻭﻟﻴﺲ ﺭﺳﻮﻟﻨﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﺍﻷﻭﻝ؟ الذي ﻳﻘﻮﻝ فيه ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ “ﻛَﻤَﺎ ﺃَﺭْﺳَﻠْﻨَﺎ ﻓِﻴﻜُﻢْ ﺭَﺳُﻮﻻً ﻣِّﻨﻜُﻢْ ﻳَﺘْﻠُﻮ ﻋَﻠَﻴْﻜُﻢْ ﺁﻳَﺎﺗِﻨَﺎ ﻭَﻳُﺰَﻛِّﻴﻜُﻢْ ﻭَﻳُﻌَﻠِّﻤُﻜُﻢُ ﺍﻟْﻜِﺘَﺎﺏَ ﻭَﺍﻟْﺤِﻜْﻤَﺔَ ﻭَﻳُﻌَﻠِّﻤُﻜُﻢ ﻣَّﺎ ﻟَﻢْ ﺗَﻜُﻮﻧُﻮﺍْ ﺗَﻌْﻠَﻤُﻮﻥَ” ﻭﻳﻌﻈّﻢ ﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻣﻬﻨﺔ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻴﻘﻮﻝ “ﻣﻦ ﻋَﻠِﻢَ ﻭﻋَﻠَّﻢَ ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳُﺪﻋﻰ ﻋﻈﻴﻤﺎً ﻓﻲ ﻣﻠﻜﻮﺕ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ”. وﻋﻦ ﺍﺑﻦِ ﻣَﺴْﻌﻮﺩِ ﺭﺿﻲَ ﺍﻟﻠﻪ عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “ﻻ ﺣَﺴَﺪَ ﺇﻻَّ ﻓﻲ ﺍﺛﻨَﺘَﻴْﻦِ ﺭَﺟُﻞٌ ﺁﺗَﺎﻩ ﺍﻟﻠﻪُ ﻣَﺎﻻً ﻓﺴَﻠَّﻄَﻪُ ﻋَﻠﻰ ﻫَﻠَﻜﺘِﻪِ ﻓﻲ ﺍﻟﺤَﻖَّ ﻭﺭَﺟُﻞٌ ﺁﺗَﺎﻩُ ﺍﻟﻠﻪُ ﺍﻟﺤِﻜْﻤَﺔَ ﻓَﻬُﻮَ ﻳَﻘﻀِﻲ ﺑِﻬﺎ ﻭﻳُﻌَﻠِﻤُّﻬﺎ” هذا وﻗَﺪْ ﺭَﺟَّﺢَ ﻛَﺜِﻴﺮُ ﻣِﻦْ ﺍﻟْﺤُﻜَﻤَﺎﺀِ ﺣَﻖَّ ﺍﻟْﻌَﺎﻟِﻢِ المُُعلّم ﻋَﻠَﻰ ﺣَﻖِّ ﺍﻟْﻮَﺍﻟِﺪِ.
نحن قبل أولادنا من يجعل للمعلم شأن وقيمة وحين نكرم المعلم ونفيه حقه وقتها فقط سنصير شعبا ووقتها فقط سيكون لنا مكان في سباق الأمم وترتيب في القوائم.
وقال ﺗﻌﺎﻟﻰ أيضا “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ” وهنا نرى أن من أهم أهداف بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه هي أن (يعلمهم) ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺫﺍﺗﻪ ﻭﺿﺤﻪ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼﻡ بقوله (ﻭﻟﻜﻦ ﺑﻌﺜﻨﻲ ﻣﻌﻠﻤﺎً ﻣﻴﺴﺮﺍً) ﻭقيل أن ﻣﻌﻠﻤﺎً وردت هنا ﻧﻜﺮﺓ ﻟﺘﻌﻢ ﻛﻞ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﻭﺟﻨﺲ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ، وفي ذلك يقول أحمد شوقي:
ﻗﻢ ﻟﻠﻤﻌﻠﻢ ﻭﻓﻪ ﺍﻟﺘﺒﺠﻴﻼ ﻛﺎﺩ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ أﻥ ﻳﻜﻮﻥ رسولا
وكان الصحابة والسلف ومن تبعهم إلى وقت قريب يرعون للمربي قدره ويعلون شأن المعلم ويعلمون أولادهم ذلك ومن أجمل ما وصلنا من قصصهم قصة ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ “ﻫﺎﺭﻭﻥ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪ” ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﺩﺭﺳﺎ ﺑﻠﻴﻐﺎً ﻓﻲ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﻓﻠﻘﺪ ﻋﻬﺪ الرشيد ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﺴﺎﺋﻲ ﺑﺘﻌﻠﻴﻢ ﺍﺑﻨﻴﻪ “ﺍﻷﻣﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥ” ﻭﺃﻭﺻﺎﻩ ﺃﻻ ﻳﺪﻟﻠﻬﻤﺎ ﻭﺃﻥ ﻳﻌﻨّﻔﻬﻤﺎ ﺇﺫﺍ ﻟﺰﻡ ﺍﻷﻣﺮ، ﻭﺃﻭﺻﺎﻩ ﻗﺎﺋﻼ: ﺃﻗﺮﺋﻬﻤﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺭﻭﻫﻤﺎ ﺍﻷﺷﻌﺎﺭ، ﻭﻋﻠﻤﻬﻤﺎ ﺍﻟﺴﻨﻦ، ﻭﺑﺼﺮﻫﻤﺎ ﺑﻤﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﺑﺪﺋﻪ، ﻭﺍﻣﻨﻌﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻀﺤﻚ ﺇﻻ ﻓﻲ ﺃﻭﻗﺎﺗﻪ.
ﻭﺫﺍﺕ ﻳﻮﻡ ﺃﻧﻬﻰ الكسائي ﺩَﺭْﺳَﻪُ، ﻭﻧَﻬَﺾَ ﻟِﻴْﻨﺼَﺮِﻑَ، ﻓﺮَﻛَﺾَ ﺇﻟﻴﻪ ﺗﻠﻤﻴﺬﺍﻩُ ﺍﻷﻣﻴﺮﺍﻥِ “ﺍﻷﻣﻴﻦُ ﻭﺍﻟﻤﺄﻣﻮﻥُ” ﻳﺘﺴﺎﺑﻘﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻧﻌﻠﻴﻪ ﺃﻳﻬﻤﺎ ﻳﺤﻤﻠﻬﻤﺎ ﺃﻭﻻ ﻟﻴﻘﺪﻣﻬﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ، ﻭﺗﺴﺎﺑﻘﺎ ﻭﺗﺸﺎﺟﺮﺍ، ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﺗﻔﻘﺎ ﺃﻥ ﻳﺤﻤﻞ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻓﺮﺩﺓ ﻣﻦ ﻧﻌﺎﻝ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﻟﻴﻘﺪﻣﻬﺎ ﻟﻪ، ﻭﺗﺼﺎﺩﻑ ﺃﻥ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪ “ﻣﺎ ﺣﺪﺙ ﻣﻦ ﻭﻟﺪﻳﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﻬﺪ ﺍﻟﻤﻬﻴﺐ، ﻓﺄﻋﺠﺒﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻯ ﻣﻦ ﻭﻟﺪﻳﻪ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻴﻮﻡِ ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ، ﺳﺄﻝَ ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔُ ﻫﺎﺭﻭﻥُ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪِ ﻣُﻌَﻠِّﻢَ ﻭَﻟَﺪْﻳﻪِ: ﺗﺮﻯ ﻣَﻦْ ﺃﻋﺰُّ ﺍﻟﻨّﺎﺱِ؟ ﺃﺟﺎﺏَ ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ: ﺃﻧﺖَ ﻳﺎ ﺃﻣﻴﺮَ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ، ﻭﻣﻦ ﺃﻋﺰ ﻣﻨﻚ؟ ﻗﺎﻝَ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪُ: ﺑﻞْ ﺃﻋﺰُّ ﺍﻟﻨﺎﺱِ ﻣَﻦْ ﻳَﺘَﺴﺎﺑﻖُ ﻭﻟﺪﺍ ﺃﻣﻴﺮِ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦَ، ﻭﻭﻟﻴﺎ ﻋﻬﺪﻩ ﻟﺘﻘﺪﻳﻢِ ﺍﻟﺤﺬﺍﺀِ ﻟﻪ ﻭﺇﻟﺒﺎﺳﻪ ﺇﻳﺎﻩ، ﻭﻗﺎﻝ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪ ﻟﻠﻤﻌﻠﻢ: ” ﻟﻘﺪ ﺳﺮﻧﻲ ﻣﺎ ﻗﺎﻣﺎ ﺑﻪ، ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺮﺀ ﻻ ﻳﻜﺒﺮ ﻋﻦ ﺛﻼﺙ ﺻﻔﺎﺕ: ﺗﻮﺍﺿﻌﻪ ﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻪ، ﻭﻟﻮﺍﻟﺪﻳﻪ، ﻭﻟﻤﻌﻠﻤﻪ”.
نعم هكذا كنا ننظر إلى المعلم في عهد هارون الرشيد ولهذا السبب كنا وقتها نحكم العالم وهكذا يجب أن يُعامَل المُربي في كل زمان ومكان من أبناء الأمراء أو الفقراء أو العامة فلنفهم ذلك ولنعلّمه لأولادنا. فلنفهم بأن المعلمين هم فعلاً أعز الناس وأنهم إن كانوا صالحين فهم ﻭﺭﺛﺔ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ، ﻭﺧﺰَّﺍﻥ ﺍﻟﻌﻠﻢ، ﻭﺩﻋﺎﺓ ﺍﻟﺤﻖ، ﻳﻬﺪﻭﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻃﺎﻋﺘﻪ، وﻳﻮﺟﻬﻮﻧﻬﻢ ﻭﺟﻬﺔ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺼﻼﺡ. أو يعلمونهم علوم دنياهم ليتمكنوا من مواجهة مصاعب الحياة أو يشاركوا في أعمار الأرض وهم مهما كان خلقهم أو طبعهم فهم في النهاية علينا أصحاب فضل فلنغرس في أبنائنا خصلة حبهم وبرهم والاعتراف بفضلهم مثلنا كوالدين وأكثر ولنتعاون مع الحكومات والمجتمع كله في ترسيخ ذلك فنحن قبل أولادنا من يجعل للمعلم شأن وقيمة وحين نكرم المعلم ونفيه حقه وقتها فقط سنصير شعبا ووقتها فقط سيكون لنا مكان في سباق الأمم وترتيب في القوائم.