ويتضح لنا مدى حرص العرب على جمال الكلمة وعنايتهم الكبيرة بها من أن المستعمل المسموح بتداوله لا يتجاوز كلمة واحدة من بين كل مائتي كلمة ، فقد حصر العالم اللغوي / أبو بكر الزبيدي الأندلسي في كتابه (معجمه) / مختصر العين ، عدة أبنية للكلام وما أهمل منه ، وما استعمل صحيحاً ، فذكر أن عدة مستعمل الكلام ومهمله يبلغ 6.759.400 ، المستعمل منها لا يتجاوز : 5.620 فقط لا غير ، والباقي مهمل ، فلم يستعملوه لا في الصحيح ولا في المعتل .
وبالطبع فإن هذا الإحصاء الدقيق الذي قام به شيخنا / الزبيدي الأندلسي لم يعتمد فيه على (الكمبيوتر) وعلى برامجه الإحصائية التي تتقدم كل يوم في عصرنا الراهن ، ولكنه اعتمد على طريقة العد أو الإحصاء العادية ، مما يجعلنا نقول إن العلماء العرب كانوا أصحاب جهد كبير رائع ومتفرد ، ودائماً يستحقون منا كل التحية والتقدير في مواجهة العولمة البغيضة التي تريد لنا التفكك والذوبان لتقضي على هويتنا وذاتيتنا.
وقريب من هذا ما توصل إليه عالم اللغة والعروض الشهير / الخليل بن أحمد الفراهيدي ، فقد روى العلامة / جلال الدين السيوطي أن الخليل بن أحمد ذكر في كتاب أو معجم (العين) الذي ألفه عدد الكلمات التي يمكن أن تتكون من ثمانية وعشرين حرفاً ، فوجدها تزيد على إثنى عشر مليوناً من الكلمات .
ولكن أبا بكر الزبيدي الأندلسي حين اختصر كتاب أو معجم (العين) للخليل ذكر أن عدد الكلمات الممكنة عقلاً لا تكاد تتجاوز ستة ملايين ونصف المليون ، وإن كان المستعمل منها فعلاً لا يكاد يزيد على ستة آلاف كلمة .
والخليل بن أحمد علم من أعلام لغتنا العربية الجميلة ، فهو إلى جانب وضعه لعلم العروض (موسيقا الشعر) هو صاحب أول معجم في اللغة العربية ، ونعني به (معجم العين) وهذا اللغوي الكبير المشهور ، والمشهود له بالذكاء والموسوعية ، لو تصفحنا الكتب التي ترجمت له نجدها تجمع على أن اسمه : الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم الفراهيدي البصري ، أبو عبد الرحمن ، صاحب العربية والعروض .
قال السيرفي : كان غاية في استخراج وسائل النحو ، وتصحيح القياس فيه ، وهو أول من استخرج العروض ، وحصر أشعار العرب بها ، وعمل أول كتاب (العين) المشهور المعروف ، الذي يتهيأ به ضبط اللغة ، كما أنه كان من الزهاد في الدنيا ، والمنقطعين إلى الله تعالى .
ويجمع الذين كتبوا عن الخليل بن أحمد أنه كانت له معرفة واسعة بالإيقاع والنظم ، وهو الذي أحدث علم العروض ، وكان آية في العلم والذكاء ، لدرجة أن الناس كانوا يقولون : لم يكن في العربية بعد الصحابة (رضوان الله عليهم) أذكى من الخليل ، وكان يحج سنة ويغزو سنة -كما يذكر لنا الزبيدي والسيوطي .
ومن أساتذة الخليل الذين ذكرتهم كتب التراجم : أبو عمرو بن العلاء ، وأيوب السختياني البصري ، وعاصم الأحول … وغيرهم … ، ومن أشهر تلاميذه : سيبويه النحوي المعروف ، والنضر بن شميل ، ومؤرج السدوسي ، والليث بن المظفر وغيرهم
حكاية العين :
وبالنسبة لمعجم (العين ) فقد أنكر عدد من العلماء نسبه إلى الخليل ، ونسبوه إلى الليث بن نصر بن سيار ، ومال لهذا الرأي الأزهري صاحب معجم (تهذيب اللغة ) ، وابن فارس صاحب معجم (المجمل) و معجم (المقاييس) ، وأبو علي القالي صاحب معجم (البارع) ، وكتاب : (الأمالي ) الشهير ، وكذلك الإمام / النووي .
ومن العلماء من قال : أن الخليل عمل قطعة من أوله ، وأكمله بعد ذلك الليث بن نصر بن سيار ، وقال بهذا الرأي السيرفي وابن نباته .
وفريق آخر يرى : أن الخليل رتب أبواب معجمه (العين) وفقاً لمخارج الحروف من الجهاز الصوتي للإنسان ، ثم توفي قبل أن يحشوه ، ومن الذين قالوا بهذا الرأي : ثعلب ، وأبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب معجم ( مختصر العين ) .
وفريق يقول لنا : أن الخليل أشار بعمله ولم يقم به بنفسه ، وقال بهذا الرأي : أبو علي الفارسي ، وتلميذه ابن جني .
أما الرأي الأرجح عندنا فهو : أن الخليل بن أحمد صنع هذا المعجم بنفسه ، ويؤيد هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته ، وجلال الدين السيوطي ، وابن دريد صاحب الجمهرة ، والمستشرق الألماني / بروكلمان .
ولابد أن نذكر هنا بكل التقدير والاحترام الجهد الرائع والمتميز الذي بذله أستاذنا المرحوم الدكتور / عبد الله درويش ، الأستاذ بكلية دار العلوم -جامعة القاهرة ، و هو من أوائل الذين درسوا تاريخ المعاجم العربية ، حيث قام بتحقيق ودراسة معجم (العين) للخليل بن أحمد ، فجزاه الله خيراً في مستقره الأخير عن سعيه وجهده لخدمة العلم والمعرفة .
زبيدي وزبيدي :
أما بالنسبة للزبيدي الأندلسي صاحب معجم (مختصر العين) فهو أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد الله بن بشر الإشبيلي نزيل قرطبة الأندلسي ، وبالطبع الزبيدي الأندلسي غير الإمام اللغوي / محب الدين أبو فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي اليمني المتوفى عام 1205 هـ بمصر ، وهو صاحب معجم (تاج العروس من جواهر القاموس) الذي شرح فيه معجم القاموس المحيط للفيروز أبادي ، هادفاً إلى شرح ما غمض من عبارات القاموس ، موضحاً ما غاب عن أذهان الناس من معانيه ، لذا فقد كان يريد في كتابه (تاج العروس) أن يحقق القاموس تحقيقاً علمياً ، شارحاً إياه ، بعد أن اختلف فيه الشارحون والمعترضون .
ويجدر بالذكر أن المؤرخ / عبد الرحمن الجبرتي ، كتب فصلاً مهماً عن الزبيدي ، وذلك خلال كتابه : (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) وقد عرض لحياته ومؤلفاته وجهوده عرضاً طيباً مفيداً .
أعود بك إلى الزبيدي العالم اللغوي وصاحب كتاب (مختصر العين) ، وتقول كتب التراجم عنه : إنه كان أوحد عصره في علم النحو ، وحفظ اللغة ، كما أنه كان أخبر أهل زمانه بالإعراب و المعاني والنوادر ، إلى جانب علمه الواسع بالسير والأخبار ، ولم يكن ببلاد الأندلس في فنه مثله في زمانه ، والزبيدي ينتسب إلى قبيلة زبيد ، وهي قبيلة كبيرة ببلاد اليمن .
وللزبيدي الأندلسي كتب كثيرة تدل على وفور علمه منها : معجم (مختصر العين) ، وكتاب (طبقات النحويين واللغويين بالشرق والأندلس) ، وهو كتاب معروف ومشهور استفاد ومازال يستفيد منه أهل اللغة والأدب ، وكتاب (لحن العامة) ، وكتاب (الأبنية في النحو) ، وكتاب (الواهم في العربية) … وكلها كتب قيمة تدل على الجهد العلمي الكبير الذي بذله هذا الرجل وغيره من علماء اللغة العربية في خدمة أصولها وفروعها وعلومها .
وقد اتصل الزبيدي الأندلسي بالحكام في عصره ، فقد اختاره الحكم المستنصر الأندلسي لتأديب ولده وولي عهده هشام بن المستنصر ، ولم يكن الزبيدي لغوياً فقط ، فقد كان شاعراً مجيداً ، غزير الشعر ، قوي الصياغة .
وقد اخذ الزبيدي الأدب واللغة عن أبي علي القالي عندما دخل الأندلس ، كما أخذ عن قاسم بن إصبع ، وسعيد بن فحلون ، وأحمد بن سعيد بن حزم ، وكانت وفاته سنة 379 هـ في إشبيلية ، عن عمر يناهز (63) سنة .
ونحب أن نشير هنا باختصار شديد إلى أهم خصائص معجم (مختصر العين) للزبيدي الأندلسي : فقد سار مع منهج معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ، فكان صورة مصغرة له توافق اسمه ، كما أنه اختصر وحذف وأضاف القليل ، وهو معجم سهل التناول والبحث ، وليس فيه تعقيد معجم العين للخليل الذي رتبه وفقاً للمخارج الصوتية للحروف ، كما أن الزبيدي وضع في مختصره بعض المواد اللغوية في مواضعها السليمة التي أهملها الخليل أو أخفق فيها .
لعلك تتذكر معي ما قاله الزبيدي الأندلسي من أن عدد الكلمات الممكنة عقلاً لا تكاد تتجاوز ستة ملايين ونصف المليون كلمة ، إن كان المستعمل منها فعلاً لا يكاد يزيد على ستة ألاف كلمة ، وهذا الكلام من صاحب مختصر العين يجعلنا نبحث معاً عن سر الوقوف عند هذه النسبة الضئيلة ، فإننا نجد أن العرب القدماء لم يستعملوا الكلمة إلا بعد أن أجروا عليها اختبارات متعددة ومتنوعة من أجل أن يختبروا سلامتها وفصاحتها .
وعندما تجتاز الكلمة هذه الاختبارات بنجاح ومهارة ، نالت شرف ثقة النقاد وأهل اللغة ، وبالتالي نالت شرف الحياة على ألسنة العرب ، في كلامهم وأحاديثهم وإبداعهم ، أما إذا بدا في الكلمة العجز أهملت ، وأضحت خارج نطاق الخدمة