عبد الكريم البليخ: هل لغتنا العربية في خطر؟!

 ما هذا الذي نسمعه ونقرأه اليوم في لغتنا العربية؟

ما هذا الغثاء الذي يستخدمه أبناء اليوم في عروبيتهم؟ وإلى أين يمضي الجيل الجديد بتكوينه اللغوي، وسلوكه الثقافي؟ وماذا سيحلّ بهذه اللغة العريقة في مقبل الأيام؟

لغتنا العربية ـ اليوم ـ باختصار هي في خطر شديد. فمن ذا الذي يُنقذها من أتون هذا الحاضر الممزّق: فكرياً وسياسياً وحضارياً؟ من يخلص عالمنا اللغوي العريق، من هذه الحرب الخفية التي يتعرّض لها.. وعلى أيدي أبنائها؟ إنّها مأساة مروّعة لا يتحسسها إلّا من كان له نصيب علمي وأدبي من الأصالة والثقافة فيها وفي تاريخها.

هل يعلم أبناء لغة الضاد، أنّ لغتهم هي أعرق لغة في الوجود؟ ومن دون تهويل.. فهي تحمل صفات القداسة والتجلة والسمو الانساني. هل يدرون كيف انتشلها رجال الأمس القريب من الظلمات التي خيّمت عليها؟ رحم الله أولئك الرجال العرب الذين خدموا لغتهم، وتراثها العظيم، وما كسبوا في حياتهم إلّا شظفاً ومصاعب شتى، وقد تناساهم أبناء الحاضر! إنّها حلقة واسعة الأبعاد تزداد شرخاً وخرقاً، زهي تفصل حاضر ثقافتنا عن ذلك الأمس القريب. ولا يجد المتأمّل فيها إلّا الألم لما حاق بالحاضر.. ولما سيؤول إليه الحال في المستقبل من نكوص وبعثرة وغرابة لم يألفها العرب في لغتهم من قبل على امتداد عمرهم الطويل.

في الأمس القريب وعمالقته من: عظماء، زعماء، خطباء، أدباء، كتبة، علماء، فقهاء لغة، مؤرخون، مفكرون، نقاد وسدنة تراث عظيم. وحاضر يُمثله: صحفيون مهاجرون، وموظفون ببغاويون، وأكاديميون جامدون، وكتاب هائمون، وشعراء متمزقّون، وعقلاء ضائعون في خضم هذا الركام الغريب، غدوا مادة دسمة للاستلاب!

تعيش اللغة العربية في يومنا هذا في حالة لم يألفها من قبل أبداً. ولا يخال المرء أنّها حالة تطور وتسام، بل هي حالة من التفكك والانحدار خلقها شباب اليوم الذي تدفق في عالمه العربي بثقافاته الجديدة. فدخلت (اللغة) كأحد العناصر الأساسية في كيان العرب دوامّة هذا العصر الممزق، والخوف من ضياعها في متاهات هذه الدوامة الغريبة!

 تعد اللغة العربية من أقوى عناصر بناء الأمة، وقد حفظت وحدتها في جمعها لأبناء الضاد على امتداد تاريخي طويل جداً، قلما حظيت بذلك الأمم الأخرى. وتميّزت العربية بالرصانة والمتانة والأحادية والقداسة والعمر الطويل على يد الاسلام، كما واتصفت بالتجلّة والسمو والخلود من خلال القرآن العظيم.

وحملت اللغة العربية على كاهلها، تراث الإسلام الزاخر.. إذ خدمها وكتب فيها الآلاف المؤلفة من الرجال في مئات السنين، فأغنوها بمختلف البدائل والمرادفات والاشتقاقات الحيّة، اضافة إلى ما كتب فيها من علوم وأفكار وآداب وفنون وفلسفة ومنطق، كما وكان لها تأثيرها البالغ على لغات شتى في العالم.

أفاق العرب في العصر الحديث، ليكونوا حماة لها، يدافعون عنها، ويدفعون بها إلى مراحل جديدة من التطور، وما كانوا بمنقطعين عن الجذور: يدرسونها ويحققون فيها، ويخلصونها مما علق بها. ولم يزل البعض من الرجال حتى يومنا هذا، ينافحون عنها، ويدفعون بالغوائل التي تحيق بها، ويحضرني منهم: الشيخ ابراهيم اليازجي، وحافظ ابراهيم، وجرجي زيدان، وانستاس ماري الكرملي، ومحمد كرد علي، وفارس الخوري، وعلي الجميل، والدكتور طه حسين، والعقاد، وجبران خليل جبران، وساطع الحصري، ومارون عبود، ومصطفى صادق الرافعي، والزيّات، ومحمد خليفة التونسي، وفاروق شوشة، والقائمة تطول.

إنَّ أكبر المشاكل التي تعرّضت لها لغتنا العربية في تاريخنا الحديث هي: مشكلة العامية والفصحى، والتبشير بإحلال الأولى محل الثانية.. ثم المناداة باستعمال الحروف اللاتينية كبديل عن الحروف الأبجدية ـ الغربية.

ولعلّ أبرز الأسباب التي دفعت أصحاب تلك الدعوة في حربهم على الفصحى ـ حسب زعمهم ـ أنّ العامية ذات طواعية ومرونة في الفهم، والتعبير الكتابي الأمثل عمّا يريده الناطق بها، وإن استخدام الحروف اللاتينية يتفق مع متطلبات العصر الحديث، لأن الحروف العربية في نظرهم عاجزة عن مسايرة هذا العصر.

إنّ صراع العامية مع الفصحى في لغتنا العربية، ليس وليد حاضرنا اليوم، بل إنّه يمتد طويلاً في حلقة ثقافتنا العربية الحديثة. وقد أعلنت العديد من الحملات والادعاءات دون فهم علمي متكامل، ووعي ناضج بالأصول والجذور، وعلاقة ذلك بالنتائج التي كانوا يودون الوصول إليها. فمثلاً لم يميزوا بين مصطلح (العامية)، ومصطلح (اللهجة)، ومصطلح (الهجين)! كما وإنهم انساقوا وراء الآراء التي طرحها بعض المستشرقين في اللغة العريية، دون رصد مسبق لطبيعة اللغة العربية، ووزنها النوعي، وثقلها الحضاري والانساني، كما وانساق البعض الآخر وراء التجربة الفاشلة التي كان طبّقها الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك في تركيا الحديثة، في عبثه باللغة العربية، وتقنينه للحروف اللاتينية بدل الأبجدية ـ العربية.

كان أشهر أولئك الدعاة العرب الذين حملوا على لغتهم وفصحاهم دون تعقّل وتأمّل ومنهم: الدكتور أنيس فريحة، والشاعر سعيد عقل، سلامة موسى، لويس عوض..

ولو عدنا إلى الجذور فإننا نجد أنّها قد طرحت ولأوّل مرّة أثناء انعقاد مؤتمر اللغويين في لايدن بهولاندا عام 1883م، وكان المستشرق الأسوجي كارلو لندبرك، هو أوّل من قال بذلك، ثم ناصر العديد من المستشرقين الانكليز والفرنسيين والألمان.. في حين عرف الاستشراق رجالات منه، ساهموا في اغناء اللغة العربية، وغرموا فيها وتعبوا من أجلها، وعشقوها عشقاً جمّاً، أمثال: رينولد ألين نيكلسون، وكارلو نللينو، وريجيس بلاشير، وإدوارد براون، وآرثر جون آربرى، ووليم رايت.. وغيرهم.

ويعتبر الشيخ ابراهيم اليازجي من أقدم الرجال المدافعين عن اللغة العربية ضد خصومنا. ونفهم من كتابات الرجل، أنّه تمتع بحس لغوي متوقد في نظرته الزمنية تجاه ما يريده أولئك الخصوم من الأجيال العربية الجديدة.

كتب اليازجي العديد من المقالات، ونشرها تباعاً في مجلته (الضياء) التي كان أصدرها في القاهرة، تحت عنوان (اللغة العربية العامية واللغة الفصحى). ومما جاء فيها:

(إنَّ البعض ينشر من سنوات رسائل متتابعة يدعون فيها علماء العربية وكتابها إلى استبدال اللغة العامية بالفصحى واعتمادها في الكتب والجرائد وغيرها ورسم لها حروفاً جديدة تكتب بها هي الحروف اللاتينية، وقد وضع لبعضها علامات خاصة للدلالة على المقاطع التي لا صور لها في اللغات الفرنجية. وقد انتهى الينا ما تنشره عن تلك الرسائل وفيه أمثلة عن حكايات غيرها باللغة العامية المصرية كتبها بالحروف المذكورة فكانت نوعاً من الكرشوني”أيّ العربية بالحروف السريانية”، إلّا أنّه متفرّنج كأكثر أهل الشرق في هذه الأيام. وقد قرئت جاء لفظها أشبه بلفظ رجل افرنجي يتعلم العربية.. وزعم أن تعلم هذه الحروف أسهل تناولاً على الأمي من أبناء مصر، وأنّها أفضل ذريعة لتعميم القراءة في القطر، وكأنه توهم ابن مصر رجلاً من أبناء أمته قد تعلم القراءة بحروف لغته، فكان تعلم قراءة العربية بحرف يعرفه أسهل عليه وأقل كلفة من أن يتعلمها بحرف جديد.. وإلّا فإن لم يكن بد لمتعلم القراءة من أن يتعلم أشكال ثمانية وعشرين حرفاً، فما الفرق بين أن يتعلمها بهذه الصورة أو تلك. وإن قيل إن صورة الحرف الواحد تختلف أحياناً بحسب موقعه في الكلمة. قلنا وهذا أيضاً لا تخلو منه الحروف اللاتينية بل قد تكون صورة الحرف الواحد فيها أبعد مماثلة..).

ووضع المستر ولمور، المندوب الانكليزي الذي كان يشغل منصب أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية في عهد الاحتلال البريطاني لمصر.. وضع كتاباً جمع فيه ما تسنى له من قواعد اللغة العامية المصرية على وجه يقرب من الأجنبي تناولها والتكلم بها. وذهب المؤلف وآخرون إلى ضرورة نسخ اللغة الفصحى من البلاد، واحلال اللغة العامية مكانها مع كتابتها بالحروف اللاتينية. ويذكر اليازجي أن الجرائد الانكليزية وولمور دعوا إلى لزوم ادخال الطريقة في المدارس الحكومية مع جعل التعليم اجبارياً، حتى تكون الضربة قاضية على الفصحى وأسفارها.

ويستطرد اليازجي قائلاً: (.. ترى بعض كتّابنا ممن قل رأس مالهم من اللغة العربية يرمونها بالقصور، ويميلون إلى استبدال العامي من الفصيح). ويرى بأن اللغة العربية واقعة على مفصل طريقين لا محيد لها عن سلوك واحد منهما، فإما أن تحيا وتستعيد ماضي شبابها حتى تكون كإحدى لغات أهل العصر، وأما أن يسجل عليها بموت لا حياة بعده ولا مبعث منه. وكلا الأمرين منوط بالأمة معقود بهممها وسخائها.. فإن وجد في خاصتها وعلمائها وفي حكومتها من ينتدب لسد هذا الرمق وإلّا فليؤبنها ذووها..). وهكذا، وفي مصر أيضاً: وصف جورجي زيدان (العربية) بالكائن الحي، ووصفها حافظ ابراهيم بالبحر المحشو بالأصداف والدرر..

وهناك أسماء لبعض العلماء والأدباء المشهورين من الذين حملوا مشعل تجديد اللغة العربية في كل من العراق وسوريا.. فكان أوّل من نادى بأصالة اللغة العربية وتجديد تراثها الخالد في العراق وهم: الأديب علي الجميل وحنا خيّاط، وداود الجيلي، واللغوي الشهير انستاس ماري الكرملي الذي كان يحرّر مجلته الرصينة (لغة العرب) في بغداد، وقد عدّت بحق، من أولى المجلات العلمية العربية التي أسدت للفصحى خدمات جلى.. وتربّى عليها جيل عربي كبير، وساهم في تحرير الأعداد الأخيرة منها العديد من الكتاب العرب، وكان من أبرزهم: الشاعر جميل صدقي الزّهاوي، الأديب الصحافي روفائيل بطي، والدكتور مصطفى جواد.

أما في سوريا، فكان هناك العديد من الرجال الذين توفّر لهم المجال الواسع الذي كرّسوه في دعوتهم إلى “التعريب” ومنهم العلامة عبد القادر المغربي، في حين كان أترابه وزملاؤه سنة 1906 ينادون بتنقية اللغة العربية من المفرّدات الدخيلة، وقصر الاشتقاق على ما سار عليه القدماء، كان المغربي يخالفهم جميعاً في تأكيده: (أن اللغة العربية تتطور مع الزمن تطوراً سليماً صحيحاً تأخذ به من اللغات الحية ما تزيد به مفرداتها زيادة تجاري بها سير العلم، وركب الحضارة. ولكن ليس على حساب شخصيتها وفصحاها.. وفي ذلك الوقت اشترك فارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي في استبدال المصطلحات التركية بالمصطلحات العربية، أي وضع الكلمات العربية محل التركية.

إنَّ الخطر الذي يتهدّد لغتنا العربية هذه الأيام، هو أكبر بكثير من أن تعالجه مقالات الشيخ اليازجي وآراء الكرملي، وملاحظات الحصري. ففي زحمة ما يتهدد العربية من حرب علنية، وأخطار خفية، وسموم هابّة من دواخل حصونها، وعلى أيدي أصحابها من أبنائها المعاصرين، نتساءل عن الدور المسؤول الذي يجب أن تضطلع به المجامع العلمية العربية الشهيرة في اللغة العربية، وعن دور أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات العربية ومراكز البحوث اللغوية؟ وأين هو دور الأساتذة المتخصصين في اللغة العربية تجاه الأخطار المحدقة بلغتنا العربية في عالمنا المعاصر من أقصاه إلى أقصاه.. وهل من متسائل عن هذا الغثاء الذي نسمعه ونقرأه كل يوم عبر وسائل الاعلام الرسمية، وبين طيات المجلات الأسبوعية، والجرائد اليومية، وعند المثقفين والأدباء المحدثين، عن الخطر المحدق الذي يهدد لغتنا العربية؟

التعليقات (0)
إضافة تعليق