منذ استقلال المغرب إلى اليوم والصراع محتدم حول تحديد لغات التعليم بالمغرب، وكأن الحل مستعص، والمشكل معقد إلى درجة لا يقبل الحل.
لم تنفع في ذلك الندوات والمناظرات والمواثيق، بل لم تنفع الدساتير. وتوالت الحكومات والبرامج، وفشلت كل الحلول، وستستمر في الفشل مدى الدهر، حتى يحل اللغز، الذي لم يتوصل إلى فك خيوطه أحد.مع أن الحل ممكن، بل قد يكون بسيطا.
لو أن المشكل لم يكن مسيسا ومؤدلجا أكثر من اللازم، ولم تكن الدولة ضالعة في تعقيده، منكرة على لغتها أن تصبح لغة عصرية متطورة، ملحقة بها أضرارا جانبانية colateral damages لا يصدقها العقل السليم. وعليه، لا يمكن الوصول إلى حل معقول متوافق عليه إلا عندما يزاح ستار الأدلجة والتسييس المفرطين، ولغزالعرقلة الفوقية للحلول الناجعة.
إن البلدان المتقدمة أو الصاعدة توفقت في اختيار نموذج للغات يبتعد عن الحسابات الفئوية أو الحزبية الضيقة أو الاحتكارية الفوقية التي تمارسها نخبة النفوذ من أجل تمرير مصالح ضيقة، قبل مصالح المواطنين. لقد طبع السياسيات اللغوية التعليمية منذ الاستقلال إلى الآن عدم الاستقرار على توجه لغوي مقنع.
لقد شرع أول وزير في حكومة الاستقلال في تعريب المواد التعليمية، بعد أن كانت لغة التدريس هي لغة المستعمر، ثم تلاه وزيرثان سعى إلى إعادة فرنسة المواد، وهكذا ذواليك. وبعد أن استقر المغاربة على تعريب تعليمهم ومواده العلمية التقنية منذ 1982، في الثانوي على الأقل، ها هو وزير التربية الحالي يسعى إلى إعادة الفرنسة الأحادية، التي “لا مفر منها”، حسب زعمه.
والطامة الثانية لهذه السياسة أن النقاش انحصر في الاختيار بين حل أحادي (التعريب الشامل) وحل أحادي آخر (الفرنسة الكاملة). وليس هناك أدنى شك في أن فشل أي من الحلول الأحادية أكيد، لأنه مخالف لمنطوق الدستور، ومخالف لأبسط المبادئ والمعايير المعمول بها دوليا في تحديد سياسة لغوية تقدمية وتنويرية، ومع ذلك لا تخرج الدولة عن الحلول الأحادية إلى اليوم، رغم ما يلوح به من شعارات التعددية.
فإقرار الفرنسة الأحادية للمواد العلمية يفتقد إلى المرجعية الوطنية والمرجعية الدولية على السواء، وهو حل غريب شاذ قد يكون مرده إلى عدم خبرة المسؤولين، أو اكتراثهم بمصالح فئوية فقط غير بعيدة النظر، بعيدا عن مصالح الشعب الفعلية واختياراته وكرامته.
إن الحل يقصي اللغة العربية ويهمشها ويبخسها، وهي اللغة الرسمية (إلى جانب اللغة المازيغية)، وأقوى لغة وطنية في الوضع الحالي، بل إحدى أقوى اللغات عالميا، ويشكك في أن تكون لغة العلم والتقنية، ويقصي لغة العولمة أو اللغة العالميةglobal language ، أي الإنجليزية، من أن تكون لغة تدريس المواد العلمية إلى جانب اللغة الوطنية، كما هو عليه الحال في ألمانيا، وفرنسا نفسها، وغيرهما من الدول عبر العالم.
فهذه اللغة تتبوأ مكانة فريدة في العلم والتقنية والثقافة والأعمال والتبادل والتواصل لم يسبق لها مثيل في تاريخ اللغات العالمي، لم تعد تنازعها فيها أي لغة أخرى، ولن تفعل على الأقل في ما هو منظور من القرن الواحد والعشرين.
ومع ذلك، نجد في المغرب من “المخططين” من يريد الاستغناء عنها في سياسته التعليمية !ورغم تاريخها المجيد في العلم والثقافة، ورغم مكانتها اليوم في الثقافة والمنشورات العلمية، والانتشار والتبادل العالميين، ورغم دستوريتها، وجدنا من يبخس اللغة العربية، ويشكك في قدرتها على التدريس.
ورغم ذلك نسلم بأن اللغة العربية، بمعايير السياسات اللغوية اليوم لا يمكن أن تنفرد وحدها بالمرجعية العلمية، ولا بد أن تكون مدعومة في ذلك باللغة المرجعية العلمية الأولى عالميا، وهي الإنجليزية، وخاصة حين نأخذ بعين الاعتبار الجودة المرجعية المبلورة في المنشورات والندوات والابتكارات والتقنيات، الخ.
ولا يمكن ان تقوم الفرنسية بتعويض الإنجليزية في هذا الدور، حتى ولو سلمنا بأن مكانة الفرنسية المرجعية اليوم أحسن نسبيا في النشر العلمي، ولكنها مع ذلك قاصرة عن المبتغى، أي دعم العربية مرجعيا بما يكفي في التعليم، لكي يقوم بدوره على أحسن وجه في التكوين والبحث العلمي.
وبناء عليه، فإن عددا من السياسات اللغوية، بما فيها الألمانية والفرنسية (اللتين كانتا أشرس منافستين للإنجليزية في القرن 19)، فضلت أن تشرك الإنجليزية في تكوين مواطنيها، عوض معاداتها.
وإذا ما اختار المغرب هذا الاختيار، فلن يكون سوى مسايرا لما اختارته الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي نفسها، ألمانيا وفرنسا، إضافة إلى الدول الأخرى. وأما اختياره الأحادي، المعادي للغة الوطنية واللغة العالمية على السواء، فهو اختيار شاذ، ولا ينبني على أساس، ولا نجد مثيلا له في أي دولة متقدمة أو صاعدة.
لنتذكر أنه في أواخر القرن 19، كانت حظوظ الإنجليزية والألمانية والفرنسية شبه متكافئة في تبوؤ مكانة اللغة العالمية.
ومع أن الإحصاءات تفيد أن المنشورات العلمية بالإنجليزية آنذاك بلغت حوالي %40، والمنشورات بالفرنسية حوالي %30، والمنشورات بالألمانية حوالي %20 (إضافة إلى أقل من %10 للغة الروسية)، إلا أن التدقيق في مصادر هذه النسب يبين أن مصدر قوة الألمانية يعود بالدرجة الأولى إلى الجودة العلمية في ميادين رائدة عديدة، ومصدر الإنجليزية في النمو الصناعي للدول الناطقة بها وكونها لغة المبادلات الاقتصادية، ومصدر الفرنسية في كونها لغة الدبلوماسية الدولية أولا، ولغة العلم جزئيا.
إلا أن انعكاسات الحرب العالمية الأولى في مرحلة أولى، والحرب العالمية الثانية في مرحلة ثانية، أفقدت الألمانية كل حظوظها في أن تكسب معركة اللغات، بعد أن قاطعها العلماء الغربيون وقاطعوا علماءها غداة الحرب الأولى، وتأكد انحسار اللغة الألمانية بعد الهزيمة الثانية.
وأما الفرنسية، فقد فقدت ميزتها كلغة العلاقات الدولية بعد معاهدة فرساي (التي كتبت باللغة الإنجليزية أولا)، وبعد أن انهارت اقتصاديا غداة الحرب الثانية، واحتاجت إلى ملايير دولارات خطة مارشال الأمريكية.
وتبين إحصاءات أواخر القرن العشرين أن المنشورات العلمية بالإنجليزية قفزت إلى ما يقرب %80، وأن المنشورات العلمية الفرنسية والألمانية مجتمعة لا تكاد تصل إلى %10، أي ما يوازي ما ينشر بالروسية. بل إن من الإحصاءات ما يجعل النشر بالإنجليزية في هذه الفترة يصل إلى %95 في العلوم الطبيعية أو الدقيقة، و %82 في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ومهما كان نوع النقد الذي يمكن أن يوجه إلى هذه الإحصاءات، فإن النزعة إلى النشر المتميز بالإنجليزية صارت عالمية، وكرست هيمنة الإنجليزية شبه المطلقة، بحيث ينشر بها الفرنسي والصيني والياباني والألماني والروسي والعربي، الخ، بدون تمييز، ولا نعرف عالِما بارزا اليوم إلا ونشر بالإنجليزية. وقد تحول شعار “إما أن تنشر أو تفنى” publish or perish إلى “النشر بالإنجليزية أو الفناء” publish in English or perish .
هذا الوضع العالمي لهيمنة الإنجليزية غير عادل دون شك، ويطرح مسائل أخلاقية، وينبغي أن تتوحد الجهود من أجل التخفيف من حدته، لكنه وضع لا يمكن تجاهله في أي خطة للغات تهدف (بل تدعي) أنها تروم “تكافؤ الفرص” عبر اللغة.
ولا شك أن أي خطة للمقاومة لا يمكن أن تمر إلا بتعزيز اللغات الوطنية أولا، لتقوم بالوظائف المتاحة لها بصفة طبيعية. ولأن اللغة العربية، علاوة على نقاطها الإيجابية المعهودة، لغة من أقوى لغات العالم، فالأجدر أن تعتني الدولة بتقوية فرصها وفرص المواطنين فيها قبل أن تعتني بلغة أجنبية وتُقويها لإزاحتها. ونفس المبدأ يصدق على اللغة المازيغية، في بيئة حميمية وطنية مع اللغة العربية.
يهمنا هنا التاكيد على ظاهرة حضور اللغة العالمية، التي أصبحت واقعا جديدا وغير مسبوق، وأصبحت لغة “لا مفر من تعلمها”، بموجب العلم والبحث وجودة المرجعية، والمحدد الأول للحضور فيما أسميه ب “المدار المرجعي” الدولي لباحثينا وعلمائنا. ومع هذا المعطى، لا ينفع التعلل بأمور تقنية، أو بمشاكل intendance، كما كان يقول دوكول.
إن عدم تكوين ما يكفي من أساتذة الإنجليزية هو مسؤولية السيد الوزير، وليس “قدرا” يمكن أن يؤثر على تكوين الأجيال تكوينا ناقصا غير سليم. إن تكوين أساتذة الإنجليزية أسرع بكثير من تكوين أساتذة الفرنسية الذي يخطط له، والإقبال على تعلمها كثير.
إن اختيار اللغة العربية للتعليم في منظومة التربية والتعليم هو اختيار وطني، دفعت إليه كل القوى الوطنية الحية. وهو التيار الطبيعي والمعياري عند كل الدول المتقدمة أو الصاعدة. لا توجد دولة مستقلة ذات سيادة إلا وتعلم بلغتها، من إستونيا إلى فلندا إلى البرازيل إلى إسلندا إلى إسرائيل، الخ.
هذا مطلب كرامة وحقوق وعدالة وسيادة. ولا دولة تبخس لغتها إلا وتبخس أمتها وهويتها، مما يجعل الدولة تبتعد عن الأمة. وعلاوة على كون اللغة العربية لغة الأمة والوطن والدولة، فإنها لغة من أقوى لغات العالم، ضمن مجموعة من خمس لغات تتصدر العالم على مستوى ديمغرافي وتبادلي ورسمي، الخ. وتشير معظم الدراسات الموضوعية إلى هذه المكانة، التي لا يمكن أن يتجاهلها أي مسؤول في خططه اللغوية.
ما الحل إذن؟ إن الحل بسيط عندما تخلص النيات من المصالح الضيقة والأوهام والإديولوجيات الخانقة النحرية والانتحارية، ويراد خدمة الوطن والمواطنين، ومراعاة اختياراتهم. إن المغاربة، علاوة على لغتهم وثقافتهم ومرجعيتهم المازيغية المتجذرة، لهم حظ الاستفادة من ثلاث لغات-مرجعيات من الحجم الكبير: لغتهم ومرجعيتهم العربية التاريخية والحالية، وهي ضمن مجموعة اللغات التي تقع في أول صف بعد الإنجليزية.
وهي لغات هامة في تأثيرها في الثقافة والمعرفة، من بينها الصينية والإسبانية والفرنسية والألمانية والروسية، الخ. ومع وجود تفاوت في التأثير حسب المجال والسياق، إلا أن العربية ليست من حجم اللغات التي يمكن أن يستهثر بها، أو يقع بخسها وتهميشها. وإضافة إلى اللغتين العربية الإنجليزية، فإننا لا نتمثل قطيعة مع اللغة الفرنسية، بمرجعيتها الثقافية والفكرية المفيدة، التي ألفها المغاربة ودرجوا على التعلم بها والاستفادة من كبار مفكريها.
هذا واقع ينبغي الأخذ به بجميع أبعاده، مما يحتم اختيارا ثلاثيا، وليس ثنائيا. إن السياسة اللغوية لتعليم المواد العلمية والتقنية، علاوة على المواد الأخرى، ينبغي أن يقوم على التدريس بهذه اللغات الثلاث لكل المغاربة بدون استثناء ابتداء من الثانوي، أو الإعدادي إلى العالي، مع تخطيط متدرج جدي.
إن هذه الثلاثية أساسية في أي نواة تكوين للمغاربة، لأنها تجمع بين هذه المرجعيات الثلاث التي نعتقد أنها تمثل تركيبا أساسيا يحفظ لكل لغة مكانتها ومرجعيتها، والتكامل بين فوائدها، دون المس بالمرجعية الوطنية في التعليم.
ويكون الاختيار متاح للتلاميذ، حسب مؤهلاتهم وقناعاتهم، أن تكون إحدى هذه اللغات رئيسة في تدريس المادة، واللغتان الأخريان مكملتين. وبذلك، يكون لكل لغة إمكان أن تكون لغة تدريس، وتكون لغة رئيسة، أو مكملة، وحاضرة أيضا في كل الاختيارات.
إن الاختيار الثلاثي للغات معا يبدو اختيارا حتميا لا بديل جديا له، لأن غيره من الاختيارات الأحادية، أو حتى الثنائية، لا يمكن تبريره، أو قبوله. إنه اختيار طبيعي تركيبي، تزكيه حتى الأطر الفرنكوفونية المتنورة، ويزكيه الواقع المعيش. ففي الممارسة، يتبين أن هذه الثلاثية لا مفر منها، لأن ممارسة الثنائية وحدها غير ناجعة.
أذكر هنا ما عاينته من تجربتي كمدير لمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب بين 1994 و2005. لقد كان أول قراراتي في تلك الفترة أن أدخلت اللغة الإنجليزية كلغة عمل وتعامل ثالثة في المعهد. وقد تبين ان مجال المصطلح يستدعي بإلحاح إدخال هذه اللغة، لحاجة الأبناك والتكوين المهني والإدارة والطرق، الخ إلى هذه اللغة، وحاجتها إلى مقابلات المصطلحات الإنجليزية، علا وة عن المصطلحات الفرنسية.
وفي مجال النشر العلمي، أسست مجلة “أبحاث لسانية” بثلاث لغات، لأن المرجعية اللسانية ذات الجودة العالية أصبحت بالإنجليزية، وأصبحت ندواتنا ثلاثية، لأن كثيرا من العلماء المشهورين الذين شاركوا فيها لا يعرفون الفرنسية، الخ.
وأحدث هذا التعدد العملي بداية الأمر توترا بين المعهد وبين الملحقين الثقافيين التقليدانيين بالسفارة الفرنسية. إلا أنه ابتداء من سنة 1996، تم تعيين مستشار ثقافي من رتبة عليا في السفارة يشرف على الملحقين الآخرين.
وصادف أنه بمجرد تعيينه أتصل بالمعهد يطلب زيارته. فرحبنا به، وشرحنا له فلسفة المعهد، وطاف بمرافقه، واطلع على منجزاته، فما قصر تنويها وتشجيعا، وما فتئ التعاون بينا يتقوى. وكان أول من أدخل العربية إلى جانب الفرنسية في برمجة أنشطة المعاهد الفرنسية، وفي الدعوات، والتهاني بالأعياد، الخ. لم تكن الثلاثية إذن تثير قلق إلا من قصر نظرهم، وضاق أفقهم.
وهناك قصة أخرى (من بين قصص عديدة) تبين التطور المبكر لموقف الفركوفونيين تجاه الإنجليزية. ففي سنة 1997، أنجزالمعهد معجما لمصطلحات المعلوميات بثلاث لغات، تقدمنا به للحصول الدعم المالي من أجل النشر من طرف الشبكة الفرنكوفونية لمصطلحات RINT، التي كان المعهد من أنشط الأعضاء فيها.
وصادف أن كان ممثل فرنسا في تلك الشبكة أستاذ للسانيات من جامعة رين، عارض تمويل المشروع بشدة، لأنه يدخل الإنجليزية، مما يتعارض مع الفرنكوفونية حسب زعمه. إلا أنني انتقدت منطقه الضعيف، وكون معاجم المصطلحات التي تقدمها عضويات فرنسا وكيبيك وبلجيكا كانت باللغة الإنجليزية أيضا، وارتبكت الوفود، واتفقت على إرجاء النقاش إلى موعد لاحق. وفي الموعد الموالي، أخذت الكلمة المديرة العامة للمفوضية العامة للغة الفرنسية، فأكدت سلامة الموقف المغربي، واستهجنت بشدة موقف من يريدون إقصاء الإنجليزية، لأن ذلك موقف غير علمي وغير عملي.
ومنذ تلك الفترة، كثرت المواقف الإيجابية من استعمال الإنجليزية، وعممت في الاستعمال في الدراسات العليا المتخصصة، بل في أسلاك أخرى مبكرة، حتى صارت بالفعل مهددة للغة الفرنسية في عقر دارها. وكانت ألمانيا سباقة إلى إدماج الإنجليزية في التعليم العالي، على وجه الخصوص، إضافة إلى أسلاك أخرى اليوم. فحبذا لو قاس مسؤولونا مواقفهم من اللغة الوطنية ومن اللغة العالمية على مواقف المسؤولين في الدول التي يقلدونها عادة.
إن تبني نموذج لغوي-مرجعي ثلاثي فيما يخص تدريس العلوم، الطبيعية منها والإنسانية سواء، لأن فصلهما ليس له معنى حقيقي سوى التقليدانية التي ما زالت تعاني منها عقلية متجاوزة (رغم ادعائها الحداثة)، وتدريس الفكر والثقافة، هو أمر طبيعي، لا مرد له على أرض ما يمارس في الواقع، ومن يريد الخروج من المآزق الإديولوجية والاختزالية، وادعاء الدفاع عن الشعب، في وقت يضيع فيه فرصه.
إن هذه الوصفة، حين تقترن بالإدماج المناسب للغة والثقافة المازيغتين في المنظومة، تصبح القاعدة الطبيعية التي لا محيد عنها في بلورة أي خطة ثقافية وتعليمية تنموية جادة، تتلافى الصراعات والنزاعات، وتعطي فرصة للتعدد وللاختيار، من منطلق الواقع المغربي المعيش، وتقفل باب المزايدة، إن نحن أردنا فعلا خدمة المواطن المغربي في فرصه المحلية والدولية.
إن تبني ثنائية لغوية في تعليم المواد العلمية والفكرية لصالح لغة أجنبية ليست هي اللغة العالمية حيلة لا تنطوي على أحد. إن لها هدفان واضحان: (إ) إضعاف اللغة الوطنية وبخسها، و(ب) حرمان المغاربة من التعلم باللغة العالمية، مما يضعف فرصهم بصفة كبيرة في القدرة على التنافس والامتياز والنشر في المجلات العلمية ذات الجودة الكبيرة، وفي فرص الشغل العالمية.
إن هذا الوضع بعيد عما يروج له المسؤولون في باب “تكافؤ الفرص”. إن السياسة المبنية على اختيار اللغة العالمية في التكوين بعد اللغة الوطنية، بالمقابل، أمر معياري متعارف عليه.
الأمر الثاني المهم في اختيار هذه السياسة الثلاثية هو أنه لا يحدث قطيعة مع الفرنسية، ولا يبخسها، بل يمثل اعترافا بتاريخها وحاضرها، لكن ليس إلى درجة التنكر الأعمى للمدار المرجعي واللغوي العالمي.
الأمر الثالث هو المحافظة على دور اللغة العربية، وتعزيز مكانتها، قياسا على تعامل الدول المتقدمة مع لغتها، لكن ليس إلى درجة جعلها اللغة الوحيدة في التعليم. إن دورة اللغة الوحيدة في التعليم قد ولت بصفة شبه نهائية مع العولمة، ولم تعد هناك دولة، ولا دولة-أمة، تتجاهل وجود لغة عالمية. لذلك وجب أن تكون أي خطة للتعلم والتعليم والتنمية قادرة على احتساب القدرة المرجعية للغات التي تعتمل فيها.
إننا نلاحظ، بكل أسف أن نصي القانونين المعروضين على البرلمان للتصديق المتعلقين بقانون مجلس اللغات والثقافة، والتعليم والتكوين والبحث العلمي يخلان بالمواصفات المذكورة، وبشرطي المرجعية المطلوبين، أي المرجعية الوطنية المعتبرة، والمرجعة الدولية المعيارية. ولذلك ننصح الحكومة والبرلمان ألا يتورطا في المصادقة عليهما إن كان لهما أي حرص على مصالح المواطنين، وعلى عدم إذكاء صراعات زائفة بينهم.
الرباط، في 30-01-2018
هسبريس