لاحظَت أسرةٌ مغربية أن مؤسسة تعليمية فرنسية كاثوليكية مزروعة في أرض المغرب منذ مرحلة الاحتلال الأجنبي في القرن الماضي تحت اسم مُبهَم، قد تدخلت في حرية ابنتها واختيارها الشخصي حين فرَضت عليها نزعَ غطاء الرأس انسجامًا مع القيَم الثقافية لتلك المدرسة وتوجُّهها الخاص لا مع قيَم المجتمع الذي تعيشُ فيه. انتفَضت الأسرة في وجه ذلك السلوك، ورفعت قضيتها لمحكمةٍ استعجالية قضَت بإبطال قرار المدرسة. هنا انتهت القصة التي شغلت الرأي العام المغربي هذه الأيام. أما بالنسبة لي، فالقصة بدأت ولم تنته بعد. هناك بلا شك أسَرٌ مغربية عادية، غير قادرة على استيعاب مقدار الأخطار والأضرار المعنوية التي تُلحقها بفَلذات أكبادها حين تقودهم بمحض إرادتها لتُلقي بهم في أَتُّون هذا النوع من المدارس الأجنبية، ولاسيما تلك التابعة إلى الكنيسة بشكل مباشِر أو غير مباشر ( كثير من المدارس التنصيرية تتوارى تحت أسماء وعناوين مضلَّلة لا يُكشَف أمرُها إلا للباحث المتتبِّع)، معتقدةً أنها ستضمن لهم بذلك النوع من التعليم مستقبلاً زاهرًا خاليًا من المشاكل والعقبات، بعد أن تخلَّت الدولة عن دورها الحيوي والضروري في هذا القطاع، وتركت الحبلَ على الغارب، لكل من هبّ ودبّ من ذوي المشاريع التخريبية المفكِّكة لبنية مجتمعنا وتماسُكه وتلاحمه، ليعبث في هذا الفراغ الواسع ويملأه بما شاء. إن التدخل في الحياة الخاصة لهؤلاء الصغار واليافعين لن يتوقف عند مسألة اللباس وغطاء الرأس وبعض العادات والمظاهر الخارجية السطحية، وإنما التدخل الأعمق والأخطر هو ما يحدث لهم خلال سنوات الدراسة كلها بعد أن تتوغَّل الأداةُ الناعمة لهذا التعليم الأجنبي المشبوه، بشكل بطيء لا يكاد يُحسّ، وتحفر طريقَها شيئًا فشيئا في عقول هؤلاء الصغار تاركًة آثارَها وسُمومَها المدمِّرة تسري في كل خلايا أجسامهم، وجراثيمَها تنمو وتتجذَّر مع الوقت في أعماق قلوبهم وأرواحهم، إلى أن يتضخم حجمُها وتتمكَّن من إحكام سيطرَتها التامة على أدمغتهم الطرّيّة اللّيّنة، وإعادةِ تشكيل مادّتهم الرّمادية الخامّ، وصياغة وعيهم وتفكيرهم وبناءِ شخصيتهم حسبَ التوجّه المطلوب، وصولاً إلى مرحلة اقتلاعهم التام من انتمائهم الثقافي والديني والحضاري والهُويِّي، وقطع الحبل السُّرّي الذي يربطهم بواقعهم ومحيطهم وحاضنتهم المجتمعية. يومَها سيكون من الصعب، بل من المحال، مراجعة الأمر أو استدراك الخطإ. ولن تنفع محكمة استعجالية أو عادية في حل المشكل العويص والمصير المجهول الذي قادت الأُسَرُ أبناءَها وفلَذاتِ أكبادها إليه، عن غير عَمْد ولا قَصد. إذ غايةُ ما تطمح إليه غالبيةُ الأُسَر اليوم، هو أن تحصل لأبنائها على نوع من التعليم تعتقد أنه جيد ومفيد لبناء مستقبلهم، دون أن تشغل نفسها بالتفكير فيما يمكن أن تصنعه المدارسُ الأجنبية الخاصة بعقول أطفالها وأدمغتهم. فحرصُها الكبير على التعليم لا على التربية والتنشِئة السليمة، على شكل التعليم لا على روحه ومحتواه. لن أحدثك بعد هذا، عن المأساة العميقة لما ألِفَ الناس تسميتَه مجازًا ب(المنظومة التعليمية). وما هي إلا دوّامة معقَّدة لا يعرف إلا الله مبدأَها ومُنتهاها، ولا عن كارثة التعليم الخصوصي والمدارس الأجنبية المنتشرة انتشار الداء العضال الذي يفتك بعقول صغارنا ويصنع منها قنابل موقوتة لتفجير المجتمع من الداخل وتخريب أمنه واستقراره. ولن أحدثك عن صمت النُّخَب وتخاذلها وتخلّيها عن مهمتها في التوجيه وتأطير الوعي الوطني وتحصينه، ولا عن دور المثقفين والمربّين وعلماء الدين والطبقة السياسية التي لم تعد معضلةُ التربية تُقِضّ مضاجعها. ولا عن المستقبل الغامض الذي أصبحنا نُساق إليه سَوقًا في ليل دامس، تتقاذفنا الأمواجُ العاتية بعضُها يَلطمُ بعضًا.