وسائلوا الناسَ كم في الأرضِ من لغةٍ / قديمةٍ جدّدتْ من زهوها الحقبُ
إن اللغة العربية هي أم اللغات جميعًا عند العلماء، أما بقية اللغات فهي لها امتداد، بنون وحفدة، فمن رحمها ولدت، وانتشر نسلها على الألسنة، وهذان البيتان من قصيدة (أم يكيد لها من نسلها العقب) لـ مصطفى صادق الرافعي خير دليل على أمومتها على مر الأجيال.
ونحن نلمس ترابطًا مائزًا بين العربية والبنية التشريحية للإنسان؛ فالنطق بها قوامه الاعتماد على منطقة الحلق والبلعوم كلية، ويعد كل جزء فيها مخرجًا لحروف مختلفة للغة العربية، مما يفرقها عن سائر اللغات التي تقتصر استعمالاتها على جزء من هذا الحيّز من مجموع مفرداتها، ولا نلحظ عند التحدث بالعربية أي ضياع أو إهمال في الحلق والبلعوم لمفردة أو لجزء منها عند النطق بها.
واللافت وجود علاقة من طراز خاص تجمع بين اللغة العربية ونشاط الأدمغة البشرية، تنطوي عليها مراكز النطق التي تفتق عنها ما توصل إليه علماء التشريح.
ويري المختصون أنه كان من الصعوبة بمكان المعرفة الدقيقة بالمناطق الخاصة بالنشاط اللغوي للفرد داخل المخ البشري، وذلك قبيل اختراع الأجهزة التي تقوم بقياس نشاطه مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أو رسم المخ (EEG)، ونجد أن العلماء قد توصلوا إلى وضع أيديهم على مناطقها داخل الأدمغة البشرية وكيفية انتشار اللغة، دقائقها وخلاياها، في مواضع كثيرة منها، وذلك من خلال الشراكة التبادلية بين مزيج من علوم: الطب والتشريح الفيزياء.
عند القيام بتجربة هذين الجهازين على متحدثي لغات مختلفة متعددة، أظهرت المؤشرات نشاطًا في الجهة اليسرى من الدماغ في منطقتي (فيرينك) التي يوجد بها رباط وثيق يعمل كضميمة بين الشق الخلفي الأيسر من التلفيف الصدغي العلوي وبين القدرة على فهم الكلمات والمقاطع التي ترتبط بالصور الحسية والحركية للكلمات المنطوقة، و(بروكا) التي تقع في مقدمة الجانب الدماغي الأيسر في الفص الأمامي، وتعمل على إنتاج اللغة، ووظيفتها أنها المسئولة حركيًا عن تنفيذ آلية الكلام.
وغلب اعتقاد بين العلماء أن مراكز اللغة في الدماغ تقع من الجهة اليسرى، بتطبيق هذا على اللغة العربية ، أظهر كل جهاز نشاطًا في الجهة (اليمنى) من المخ، فأثبتوا بذلك أن مركز نطق اللغة العربية يقع في الجهة اليمنى من الدماغ.
وكان هذا الكشف مدعاة للاستفسار حول مدى علاقة هذا الكشف بأن اتجاه القراءة والكتابة للغة العربية يبدأ ميمنة ثم ميسرة بحسب هذا التشريح، لكن لم يردنا ردٌ على الاستفسار – الطريف – الذي لاح لكثيرين من عشاقها والذين يريدون دومًا الإلمام بكل تفاصيل لغتنا الجميلة من علمائها.
والسؤال الملح.. ما المعيار الذي به نحدد متانة اللغة؟ هل تقوي لغة ما عند مداولة العلوم والتقنيات الحديثة بها أم أن كثرة تداولها على الألسنة كلغة للحوار اليومي بين مستخدميها أم لكونها لغة الشعائر الدينية، لا نعرف تحديدًا إلا ما طالعنا به المختصون في مجال علم اللغة حين وضعوا قياسات تنطوي على عدة معايير درست بعمق وفحصت بأدق الأدوات التقنية المعاصرة، معايير يتداولونها مفادها أن قدرة اللغة على الاستخدام الأمثل للتعابير ذات الدلالة المفهمة ذات البيان التي تقرب المعاني المقصودة يمثل مصدرًا من مصادر قوتها ومتانتها، اعتمادًا على بنيتها التركيبية من قواعد النحو والصرف، وكل ما يقيم من عود هذه اللغة، وكذلك ما تنطوي عليه من توافق يجمع بين البنية التشريحية لجسم الإنسان – كما تقدم – ناهيك عن رسوخ اللغة ومقاومتها عوامل الزمن وديمومتها ودورانها على الألسنة بما يحقق لها الذيوع والانتشار اللازمين لبقائها واستمراريتها وتنامي عدد الناطقين بها واتساع رقعتها، فتنهزم أمامها عوامل التعرية ومحاولات التجريف من جراء المتغيرات التي تداهمها على مر التاريخ والحقب.
لقد وثق بعض علماء العربية بقدرتها على أن تصبح هي اللغة الناجية التي تتحدى الصعاب وتصمد أمامها مهما حاول المغرضون النيل منها، وإضعافها لحساب لغات دخيلة أخرى يدسونها ويبتغون بهذا النيل من الهوية الوطنية للشعوب.
فحركة الترجمة للعربية التي تشهد حراكًا قويًا، في هذه الآونة، نحو ترجمة التراث الثقافي والعلمي والتاريخي من وثائق ومعاهدات وغيرها للعربية، فصون الميراث والتراث أصبح على عاتق اللغة كيد أمينة تحفظه من مخاطر الضياع والاندثار حين لا تستطيع اللغات الأخرى الصمود مثلها في مواجهة عوامل الزمن فتخور قواها وتنهار.
ونهيب بالعاملين بحقل هذه اللغة العملاقة وكتيبة حرس حدودها الاستمرار في ألا يتوانوا عن تأكيد ما تنطوي عليه من مكانة حضارية وتاريخية وسمو قدرها بين غيرها من اللغات السامية، وإبراز الثراء البالغ في الألفاظ التي تعين المتحدثين بها على التعبير عن دواخلهم في كل مناحي حيواتهم، وتطويع استعمالاتها لمواكبة مستحدثات الحضارة و التقدم التكنولوجي المطرد.
ومازلنا نلح على المطالبة بسن قانون مُلزم باستعمالها في المحافل العالمية والمنظمات الدولية صونًا لرفعة مقامها وقيمتها استحقاقًا واجبًا لا مناص، ومصداقًا لقول شاعرنا أحمد شوقي :
صُن لُغَةً يَحُقُّ لَها الصِيانُ /فَخَيرُ مَظاهِرِ الأُمِّ البَيانُ
وفي عيدها نلح أيضًا ونكرر أمرًا طالما نادينا به مفاده تخصيص احتفال سنوي بـعيد اللغة العربية بالمدارس والجامعات ينضاف إلى بهجة الأعياد الأخرى لتقوية الرابطة القومية والعقائدية بين الطلاب؛ بغية الحفاظ على الهوية الوطنية المستهدفة دومًا من قبل أهل الشر، وقانا الله من مكائدهم، ولله دره من قال: لغتي هويتي!