سسعداء بالخوض معكم في حوار نريده ملامسا لواقع لغة الضاد في التعليم الجامعي وفي واقعنا الحالي.. حوار للتفكير في المداخل الممكنة لإعادة الضاد إلى اللغة العربية.. لكن قبل ذلك، أخبر قراءنا بأني أحاور الدكتور محمد بنلحسن، أستاذ التعليم العالي مؤهل، مؤطر وباحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس منذ 2008، أستاذ مبرز في اللغة العربية، من المؤسسين للائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، ورئيس جمعية الرواد للتربية والثقافة، له كتابان فرديان، وأربعة كتب بالاشتراك، شارك في مؤتمرات دولية بفرنسا والإمارات العربية المتحدة والجزائر والمغرب، وله مقالات متعددة في النقد والتربية واللغة العربية بمنابر عربية ومغربية..الأستاذ محمد بنلحسن مرحبا بكم..
الجواب: العفو الأستاذ سعيد، بدوري أشكركم على فتح هذا الحوار وطرق هذا الموضوع الحساس، والذي يعرف راهنيته في واقعنا التربوي.
سؤال: باعتبار التعليم الجامعي له خصوصية تختلف عن باقي مراحل التعليم السابقة.. ما الذي يمكن قوله اليوم عن وضعية اللغة العربية في برامج الجامعة؟
جواب: في البداية أشكركم على هذا الحوار الذي جعلتم موضوعه اللغة العربية والتعليم العالي الجامعي…إنه اختيار موفق وراهني إلى أبعد الحدود؛ بالنظر للسياق الزمني، واللحظة التي نعيشها اليوم، وتمرّ منها اللغة العربية؛ حيث تتزايد الضغوط على اللسان العربي، سواء من خلال المنافسة اللغوية الأجنبية بفعل تيارات العولمة الجارفة والمستأصلة من الجذور، وفي المقدمة، اللغة الإنجليزية، أو عبر دعاة التلهيج، أي استعمال العامية في المدرسة، وقد تزايد نشاط هؤلاء المنظم من خلال إصدار معجم الدارجة المغربية..
بالنسبة لسؤالكم حول وضعية اللغة العربية في برامج الجامعة.. يجب أولا أن نتساءل: أين توجد اللغة العربية على المستوى الجامعي؟
إنها مع الأسف الشديد، لا تنتشر في جميع مؤسسات التعليم العالي المنتمية للجامعات الوطنية، إنها تتمركز في كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وفي بعض شعبها خاصة، وفي كليات الشريعة، وتستعمل لغة تدريس في شعبة القانون بكليات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، كما أنها تدرس ضمن مواد اللغات والتواصل في بعض المدراس العليا مثل المدرسة العليا للتجارة والتسيير..وما شابهها..
إذا، اللغة العربية لها شكلان من الحضور، إما بصفتها لغة التدريس والـتأطير والبحث، أو باعتبارها شعبة قارة، مثل شعبة اللغة العربية..وإجمالا يمكننا القول إن وضعية اللغة العربية في البرامج الجامعية منحسرة، وليست لها قوة مثل بعض اللغات الأجنبية المعتمدة في التكوين والتأطير والبحث الجامعي..
سؤال:هل يمكن الحديث عن عوائق تواجه اللغة العربية على مستوى التعليم الجامعي؟
جواب: ليست عوائق فقط، بل الأمر يتعلق باختيارات وسياسات تعليمية، جعلت اللغة العربية مكبلة وعاجزة عن أن تكون كما أراد لها الدستور المغربي لغة وطنية رسمية إضافة إلى اللغة الأمازيغية. وإذا تأملنا تمثلات المجتمع حول مخرجات الجامعات المغربية، لاسيما تلك التي تلقت تكوينا في اللغة العربية أو بواسطتها؛ وهي تمثلات، كما لا يخفى على الجميع، غارقة في السلبية، وانعدام الجدوى والجاذبية الاقتصادية؛ أي القدرة على النفاذ إلى أسواق الشغل وللمقاولات، جاز لنا القول إن اللغة العربية تواجه اليوم مع الأسف الشديد نمطا من التبخيس، يشمل قيمتها ومنزلتها في المستقبل المهني خاصة للأجيال الحالية والمقبلة؛ ناهيك عن وجود صعوبات مادية ولوجيستيكية، تصاحب أساتذة اللغة العربية في الجامعة المغربية أثناء تدريسهم اللغة العربية وتأطيرهم الطلبة والباحثين في الدراسات العليا، وتتمثل أساسا في ظاهرة الاكتظاظ في المدرجات والحجرات الدراسية، وعدم تجانس الطلاب من حيث الخلفيات الثقافية والرصيد القاعدي الموروث عن سنوات التحصيل المدرسي السابقة، علاوة على غياب القاعات المتخصصة، والمختبرات المتطورة، لتعليم النطق السليم لمخارج الحروف والكلمات، والتعود على كلام الفصحاء والبلغاء من الشعراء والمبدعين العرب في التراث كما في الحاضر..هذا دون تجاهل عجز المحتويات الملقنة بالجامعات، عن مواكبة المستجدات العلمية في مجال تعليم اللغات، والاستعانة بالتكنولوجيات الحديثة، والتدريس بواسطة الصورة..
سؤال: في رأيكم،من يتحمل مسؤولية واقع الطالب ومستواه المتردي؟
جواب: في الحقيقة، إن شئنا الجواب عن هذا الإشكال بمقتضى النظر العلمي البعيد عن الخطابات الحماسية والانفعالية والأحكام الجاهزة المسبقة، فالمسؤول عن وضعية الطالب ومستواه المتردي، هو الطالب نفسه في المقام الأول، حيث نلمس لدى كثير من المخرجات ضعفا بنيويا ومزمنا، سببه تراكم العجز عن التمكن من كفايات اللغة العربية الأساس؛ لاسيما الكفايتين الكتابية والشفهية، التي بالمناسبة هي مهملة في تعليمنا المدرسي والعالي..دون أن ننزع المسؤولية –طبعا- عن منظومتنا التعليمية ونظامنا التربوي برمته الذي شخصت تقارير وطنية مثل المجلس الأعلى للتعليم مآزقه وأزماته المتراكمة عبر السنين..
المشكل يكمن أيضا في نظام التقويم والامتحانات عموما، حيث نجد أحيانا نزوعا كبيرا نحو تقويم الحفظ، ومدى امتلاك كفاءة الطلبة في استرجاع ما نهلوه داخل أحياز زمنية ضيقة جدا، دون أن ننسى انعكاس ضعف حصائل البحث العلمي الجامعي على مردودية تدريس اللغة العربية وتطويرها، حيث لا ارتقاء بدون بحث علمي، ومع الأسف في ظل الاكتظاظ بالجامعات المغربية، يهيمن التدريس على أشغال البحث العلمي ..
سؤال: وماذا عن الاختلالات التي تعرفها اللغة العربية على مستويي الفهم والتدريس، وفي علاقتها بالمنهاج التعليمي والمضامين التي تعتمد على أسس بيداغوجية ومرجعيات محددة؟
جواب: فيما يتعلق باختلالات اللغة العربية في علاقتها بمستويات عدة نظير المفهوم والتدريس، فتكمن في النظرة التجزيئية للغة العربية سواء في المناهج التعليمية، أو من خلال الممارسات البيداغوجية والديداكتيكية..
لقد غاب عنا، أن العرب لم تتعلم اللغة العربية وبيانها وفصاحتها عن طريق المدرسة والقواعد المنطقية المسطرة في الأسفار، كما أنها لم تلجأ إلى القواعد إلا زمن شيوع اللحن بعد اختلاط العرب بالعجم؛ وبناء عليه فالعرب نطقت اللغة فطرة وسليقة، بمعنى آخر، التواصل الشفهي كان دائما سابقا التواصل الكتابي، لكنّنا اليوم مع الأسف، لا نركز في تعليمنا وتعلم أبنائنا وطلبتنا، على المهارات التواصلية خلال تعليم اللغة العربية والتكوين بها..
يبدو الدرس اللغوي اليوم، جزيرة معزولة عن آداب اللغة العربية ونقدها وفنونها، كما أن الطلبة يمتحنون في القواعد النحوية دون مراعاة مدى كفاياتهم الشفهية وقدرتهم على التواصل بدون استعمال ذلك الرصيد القاعدي الذي أخذوه، حتى صار راسخا لدى بعضهم أن امتحانات النحو والقواعد، تروم افتحاص مدى حفظ قواعد اللغة العربية فقط، والسلامة اللغوية من خلال الاختبارات الكتابية، لكن لو طلبنا من خريجي الجامعات في شعب اللغة العربية وآدابها أو مسالك الدراسات العربية النطق الفصيح والتعبير بطلاقة، لاكتشفنا وجود هوّة سحيقة، بين الكفايتين الكتابية والشفهية..
في ضوء ما سلف، نستنتج أن مناهجنا التعليمية والتكوينية في المدارس والثانويات والجامعات، لم تبن على الأساس المذكور أعلاه، إنها مناهج تركز على الكفاية الكتابية للغة العربية، هذا بالنسبة للشعبة اللغة العربية، أو مسالك الدراسات العربية، أما باقي الشعب التي تستعمل اللغة العربية كأداة تدريس فقط، فنادرا ما يتم التركيز على الاستعمال السليم للغة العربية، إذا تمت مراعاته في التقويم، فإنه مع ذلك لا يمكن أن يعادل تقويم المحتويات التي تدرس اللغة العربية بها..إضافة إلى كون الأغلفة الزمنية المخصصة لتدريس قواعد اللغة العربية ونحوها وصرفها ضعيفة من حيث عدد الساعات، ناهيك عن كونها غير ممتدة خلال سنوات التحصيل الجامعي وأسلاكه جميعها؛ فطلبة اللغة العربية على سبيل المثال، يتلقون دروسا ومحاضرات في نحو اللغة العربية خلال فصل دراسي فقط، وهذا الحيز الزمني لايكفي لامتلاك مهارات التعبير الشفهي، والقدرة على التعبير بدون لحن.. دون أن نغفل التنصيص على كون مناهجنا التعليمية تعاني بطء التحيين والمراجعة والتنقيح، مما يجعلها تساهم بأقساط وافرة جدا في حدوث هذا التدهور التي تم وصفه ..
سؤال:كيف يمكن للغة العربية أن تصمد في زمن عولمة الثقافة وسيادة اللغة الإنجليزية؟
جواب:يجب أن نصارح ذواتنا بشأن مصير اللغة العربية ومستقبلها القريب أو البعيد، فاللغة العربية ما هي إلا مرآة لوضع العرب الحاضر، ومستوى تخلفهم على الصعد كافة..لذا، فعجزنا عن مجاراة اقتصادات الدول العظمى، ينعكس بالضرورة وبنسب متراوحة على واقع لغتنا، وعلى مناعتها في الوقوف بندّية في وجه لغات العولمة، والدول المحتكرة للأسواق والعمالة والاقتصاد عموما. وبناء عليه، فالعرب لن يصير بمكانتهم نصر لغتهم العربية، والتمكين لها، بمجرد رفع شعارات تدغدغ المشاعر والنفوس، ولكن لابد من قرارات سياسية شجاعة ونماء اقتصادي من شأنهما الارتقاء بأوضاع المجتمعات العربية واللسان العربي. كما أن مواجهة الانجليزية، أو إن صح التعبير، منافستها، يقتضي الخروج من وضعية التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي..ومن ذلك استمرار المعدلات المرتفعة للأمية بجميع أنواعها؛إن هذا الرهان الصعب، لا يمكن كسبه، إلا على المدى المتوسط أو المدى البعيد..من خلال تخطيط استراتيجي لا يغيّب أي جانب من الجوانب المذكورة أعلاه، ويمكننا هنا، استنساخ بعض التجارب الدولية الراقية، لاسيما لتلك البلدان الناطقة بالإنجليزية..
سؤال:ما السبيل إلى النهوض بلغة القرآن الكريم واستعادة الثقة بقدرتها على مواكبة التطور والتحديث، وعلى تقوية الأمة وتوحيدها؟
جواب: علينا كما قال الدكتور نبيل علي رحمه الله، في مقدمة كتابه ” الثقافة العربية وعصر المعلومات ” أن نطرح أسئلة حول:
” ماذا يجري من حولنا؟ماذا جرى لنا ؟ ماذا سيجري بنا ؟”
إن النهوض بلغة القرآن الكريم رهين بتبني الدول العربية، والمنظمات الحكومية، والمجتمع المدني في الوطن العربي، والمجامع اللغوية، سياسات قويّة وفعّالة على المستوى الثقافي واللغوي، وفي التربية والتكوين؛ وذلك بتحيين المناهج التعليمية، من أجل تطوير وسائل تدريس اللغة العربية، وذلك بالانفتاح على أحدث الوسائط والطرائق والتجارب الناجحة في تعليم اللغات العالمية وتعلمها أيضا؛ مع وجوب التركيز على الكفايات الشفهية، مع الاهتمام بالكفايات الكتابية.
كما أن الاستخدامات المتعددة للتكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصالات، يعتبر مدخلا أساسيا للارتقاء باللغة العربية وتعليمها وتعلمها، ولكن لا يجب أن نظل مستهلكين لما يأتينا من الغرب في هذا المجال، وهنا يجب تأكيد ضرورة استثمار الفضاء الشبكي من أجل ممارسة فعل التطوير المنشود للغة العربية في عالمنا العربي اليوم..
لابد من نهوض العرب، من خلال الجامعات ومراكز البحوث والدراسات -التي وجب على الدول العربية والحكومات ضخ مخصصات مالية هامة في ميزانياتها- بلغتهم العربية، وذلك عبر إنتاج محتوى رقمي عربي نافع للتعليم والتعلم، وصالح في التثقيف والحد من نسب الأمية الثقافية والإعلامية، من أجل ولوج مجتمع المعرفة، باعتباره مظهرا من مظاهر التقدم والنماء على الأصعدة كافة..
ولا مناص من القول إن العرب اليوم في أمس الحاجة إلى القيام بحركة دؤوبة للترجمة، من أجل ردم الهوة المعرفية والمعلوماتية التي تفصل بين دول الشمال المتقدم والدول العربية السائرة في طريق النماء.. مثلما أنه لابد من تأكيد حاجة اللغة العربية، من أجل التطوير ومواكبة المستجدات وروح العصر وما يشهده من طفرة معلوماتية وتكنولوجية، إلى الاعتناء بالبحث العلمي النظري والتطبيقي والتطويري المحتاج لأغلفة مادية وعقولة مستخلصة من الناتج الداخلي الخام. كما وجب على الباحثين العرب، إدخال اللغة العربية إلى المختبرات البحثية، وتجديد نسقها النحوي والصرفي وتركيبها المعجمي والدلالي، من أجل تسهيل تعليمها وتعلمها أمام الناشئة والطلبة عموما والأجانب المقبلين على تعلمها من الناطقين بغيرها..
إن تطوير اللغة العربية لن يتأتى للعرب من خلال الخطب والأحلام والطموحات فقط، بل لا بد لهم من ولوج عصر الثورة الرقمية، وذلك بإنتاج البرمجيات الحاسوبية الخاصة بنظام اللغة العربية ونحوها وصرفها ونطقها السليم، دون الحاجة إلى التذكير بأن المجتمعات العربية، لاسيما الحكومات، مطالبة بتوفير فرص التشجيع والتحفيز ذاتها التي تمنح للغات الأجنبية، سواء على مستوى الجامعات الممتازة، أو مؤسسات النخبة،ّ أو بعد التخرج، وذلك باستقطاب الخريجين جميعا دون تمييز أو تفضيل للأطر ذات اللسان والتكوين الأجنبي، على المخرجات ذات اللسان العربي في التكوين والإشهاد..
إن تفريط العرب في لغتهم العربية التي تعتبر عنصر وحدة للشعوب والحكومات والدول العربية، من شأنه أن يشجع على التفرقة، والتجزيء، بعد احتماء كل قطر عربي بلغة القوة التي كانت تستعمره في السابق..
سؤال:الدكتور محمد بلحسن شكرا جزيلا على سعة صدركم، وعلى غنى الأفكار وعمق التحليل..
جواب: العفو، بدوري أشكركم جزيل الشكر، وأتمنى لكم التوفيق والسداد.