ربما كان هذا العنوان العطِش لـ”الترافيك”: “أوريد: التقيت النبيّ محمد.. ولستُ نادماً على العمل مع المخزن” لحوار أجرته النسخة العربية من مجلة “تيل كيل” المغربية، بعيداً عن السطحية رغم ما يوحي به، إذ إنه يمسك بلبّ الكتاب الذي اقترحه علينا حسن أوريد (1962) مؤخراً، تحت عنوان “رَوَاءُ مكّة” (منشورات “توسنا”).
فالكتاب مشغول بمقولتين تسيران متوازيتين على طول خط التدوين السردي. الأولى، تحاول إقناع القارئ باستثائية رحلة الحج التي قام بها مؤرخ المملكة المغربية السابق سنة 2007، سواء في حياته والتغيّرات التي طرأت عليها، أو في انزياحها عن تجارب سابقة (محمد أسد في “الطريق إلى مكة“، وعبد الله حموديفي “موسم في مكة” بشكل خاص، والاثنان حاضران في كتاب أوريد)، أو لأنها جاءت بعد مسافة عن الدين والتديّن.
أما الثانية، فتبذل جهداً مضاعفاً من حيث حذاقة اللغة لا الوقائع، وقوة التلميح لا التفاصيل، لإقناع القارئ بفصل حسن أوريد الشخص، عن ذلك الذي كان يخدم في منظومة “المخزن” المغربية، بل وحتى فصله عن المخزن بشكل عام.
يمكن المجازفة بالقول، إن هذا الكتاب هو محاولة عنيفة، من الناطق باسم القصر الملكي سابقاً، للرسوّ على شط هوياتي ما، إنه صراع لا يخلو من توتّر، لإيجاد أرضية صلبة يعاود أوريد الوقوف عليها، بعد أن سحب المخزن البساط والمنصّة من تحته.
وإن كان هذا لا يبخس من جهد أوريد في العودة، إلا أنه اختار الحل الأيسر والأسهل تطبيقاً، بتفضيله البحث عن الشفاء في الإيمان الفردي، الذي لا يتردّد في إيجاد رموز صوفيّة شعبية لإعطائه القوة (الرؤى والأحلام خصوصاً)، وهي محاولة في الآن ذاته لإبعاد تهمة “الإسلامية” في شقها الحزبي عنه، ويبدو ذلك جليّاً في محاولته إظهار العداوة المتواصلة مع إسلاميي المغرب.
كان يمكن أن يكون حجّ أوريد سفراً رسمياً عادياً، كذاك الذي يقوم به مسؤولو المغرب سنوياً، عادةً أو طلباً لتأكيد حالة اجتماعية، أو ممارسة لروتين دولتي، دونما اقتناع ودونما تغيّر سابق أو لاحق. لكن أوريد أبى (في الكتاب على الأقل) إلا أن يعطي لرحلته معنى، وأن يوجد لها قصّة، يكون لها ما قبلها وما بعدها بالضرورة.
الكتاب إذن شهادة كما يرويها صاحبها، لرحلة نفسية بالأساس، فالرحلة قد تكون طريق تعافٍ ومكاشفة، وهو ما يدركه أوريد ويعبّر عنه بالقول واصفاً رحلته في نفس السنة إلى الأندلس: “عدت من الأندلس شبه معافى وقد أخذت أبرأ من “المخزن” كما يبرأ المدمن مما كان يتعاطاه”.
إنها رحلة أسرَفَت في محاولة الإقناع بخصوصيتها، وأوجزت في الكثير من التفاصيل التي كانت ستجعل من البوح أمراً أكثر أصالة، لكن لكل بوح حدّ، وهو ما عبّر عنه أوريد بقوله: “لقد وعدت أن أبوح ولكني لا أستطيع، أحوم حول الحمى، وأستجير بالإشارة عوضاً عن العبارة”.